براء موسىصفحات مميزة

أبناء سورية اليتامى ولعنة صمت الآباء/ براء موسى

 

 

في الأرجنتين، إبّان الانقلاب العسكري عام 1976، كان عدد المختفين قسرياً زهاء ثلاثين ألفاً، والأكثر مأسوية في الأمر ابتداع الانقلابيين العسكر لظاهرة تكاد لا تُصدّق في لا إنسانيّتها. فبعد إعدام المعارضين الشبّان من المُختطفين قسرياً، اختطف ضبّاط العسكر أطفالهم الحديثي الولادة، ثمّ مُحيت أسماء هؤلاء الأطفال تماماً، ومُنحوا قسراً أسماء قتلة آبائهم.

استنفرت جدّات الأطفال، وشكّلن جمعية نسائية سُميت «جدّات ساحة أيّار»، وكنّ يعتصمن أسبوعيّاً وهنّ يضعن على رؤوسهنّ فوط أطفال كشعار للمطالبة بأحفادهنّ. ثمّ انتهى حكم العسكر، لكن الحقيقة كانت قد ضاعت، ولكن ليس إلى الأبد. فبعد ربع قرن، سجلت النسوة المواظبات من الجدّات حمضهنّ النووي في بنك المعلومات، وقمن بدعاية واسعة بين الشبان الذين ولدوا في ذلك العهد كي يتأكدوا من آبائهم عبر فحص حمضهم النووي، فاستجاب العديد لذلك، ومع دعم السلطات الجديدة والشجاعة وصلت المحاكم إلى نتائج مذهلة: فقد اكتشف أزيد من مئة وخمسين شاباً وفتاة أن آباءهم مزيّفون، بينما ضاعت الحقيقة إلى الأبد بالنسبة إلى حوالى 350 شخصاً، ربّما لأنهم لم يمتلكوا الجرأة لمعرفة الحقيقة. أمّا الآباء المزيفون فكان مصيرهم المحاكمة، وما زال بعضهم حتى يومنا هذا يقضي مدّة حكمه في السجن.

تلك الجريمة الإنسانية البشعة ليست شيئاً مروعاً بالمقارنة مع ما اقترفه حزب البعث في سورية منذ ثورته على الدولة والمجتمع في 1963، مُحوّلاً إيّاها إلى مزرعة خاصّة وسجن كبير. فما لحق بالشعب السوري كان أفظع من الحكايات التي لم يُعرف الكثير منها حتى اليوم، وربما تضيع أو تُنسى نهائياً جرّاء الجرائم العلنية التي ارتكبتها السلطات السورية منذ أربع سنوات ونيف وما زالت. وحتى اللحظة لا يزال أبناء جيلين أو ثلاثة يتساءلون: أين كان آباؤهم طوال ذلك العهد من الجرائم، ولماذا صمتوا لنصل إلى ما وصلنا إليه، في جدل لا يزال مستمراً لأسئلة لا تنتهي؟

القليل من الآباء فقط اعترف بمسؤوليته، والقليل مَن تراجع عن الإيغال في الصمت الذي أودى، ويُودي، بحياة شعب، وما زال الكثير يلغ في عالم الجريمة المنظمة، أو في ظلّها، نائياً بنفسه عن المسؤوليّة ولو في حدّها الأدنى، في مأساة العصر السورية.

في الأرجنتين زعم بعض الآباء السارقين لأبنائهم المسروقين بأنّ السلطات الجديدة ستزوّر الحقيقة، لكنّ أدلّة الجريمة كانت دامغة، ومنهم من اعترف وأبدى ندمه، لكن المشكلة في سورية أعقد بكثير من اعتراف الآباء الحقيقيين، بل ما زال الموالون يعتبرون أنفسهم أصحاب قضيّة، وهم يدافعون عنها بجريمة تلو الجريمة.

فما الذي سيقوله الموالون لأبنائهم في الغد؟ وهل سيأتي اليوم الذي سيقولون فيه إننا كنّا مُرغمين على الجريمة؟ أم تراهم سيقولون: إننا أدمنّا عالم الجريمة؟ الأرجح أنهم سيجدون مسوّغاً لهم، ولأكاذيب يعتاش ضميرهم عليها، هذا إن وُجد أصلاً.

في الثورة السورية عشرات الآلاف من الأطفال لن يتسنّى لهم معرفة سبب يُتمهم القسري، ناهيك عن كونهم هم ذاتهم ضحايا في آلاف من قصص الموت المعلن، لكنّهم حتماً سيفخرون بآبائهم الشهداء، وغالباً سيقول منهم قائل: «لقد كنت بصمتك أحد أسباب موت أبي… يا جدّي؟».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى