صفحات سوريةمازن كم الماز

أبو حاتم.. زاباتا الثورة السورية

مازن كم الماز

يصنع السوريون التاريخ اليوم، هناك عدة طرق لصنع التاريخ، أو لدخول التاريخ، أن تدخله كجنكيز خان كما يفعل بشار الأسد، أو أن تدخله كسبارتاكوس، كعبد تحدى قدره ومصيره، كعبد عاش حرا ومات حرا بحد السيف، كأية ثورة شعبية في التاريخ أنتجت الثورة السورية أبطالها، الذين لا يطلون على الفضائيات ولا تعرفهم فنادق استانبول والقاهرة، لا نسمع ضجيجهم ولا نراهم وهم يصنعون الحاضر إلا لماما مما تسمح به وسائل إعلام السادة أو من مشاركاتهم المتواضعة جدا في هذا الصخب. من هؤلاء كان لي حظ التعرف عن قرب على أحدهم: القائد الميداني أبو حاتم. منذ اللحظات الأولى من لقائي بأبو حاتم كان أول ما خطر لي هو الشبه الهائل بينه وبين زاباتا الثائر المكسيكي أو نستور ماخنو قائد الأنصار الأوكرانيين، رجال جاؤوا من أسفل الهرم الاجتماعي، تسيسوا وسط ثورات شعبية عارمة، واجهوا الطغيان بالسلاح، وانتهوا بأن أصبحوا أبطال الثورة، أيقوناتها الحقيقية. صحيح أنهم بدأوا نضالهم أو تاريخهم كثوار ‘بقيادة’ الجماهير بشكل لا سلطوي أو غير فوقي، لكن ظهرت عليهم لاحقا ملامح سلطوية صريحة وأحيانا بونابرتية.

أذكر تماما أن تلك المقارنة كانت في بالي بينما كنت أعالج أبو حاتم من إصابة، بينما كان مقاتلوه حولنا في حالة حزن وغضب هستيري لإصابته، حتى نحن المعتادين على تلك الإصابات كان بعضنا يبكي جزعا، صحيح أن هذا الشعور قد يبدو طبيعيا لحد كبير بالنسبة لمقاتلي مجموعته وحتى لنا نحن، لكن لا شك أن مثل هذه المظاهر قد ساعدت في تضخيم الأنا عند أبو حاتم وأمثال هؤلاء القادة وإنتاج ميولهم البونابرتية اللاحقة، نحن أيضا مذنبون بشكل من الأشكال في تحول كثير من هؤلاء الثوار إلى نابليونات، إلى سادة جدد. لا أعرف كيف أصبح أبو حاتم قائدا ميدانيا، لكني أعرف أنه كان دائما في المقدمة، وأنه تعرض للإصابة مرارا بسبب ذلك، وأعرف أيضا أنه بقي ‘نظيفا’ حسب الوصف الأخلاقي ‘الثوري’، أنه لا يجمع المال ولا يحاول امتلاك بيت أو ثروة كبيرة كما يفعل الكثيرون. مع أبو حاتم أيضا عرفت قسوة الثورة، قسوة الموت في الثورة، عندما عرفت أنه تخلص من بعض جنود جيش الأسد بطرق لا يمكن وصفها إلا بالقاسية، هذا باستخدام ألطف العبارات .. لم أملك الوقت لأناقش الرجل في هذا، صحيح أن خمسة من إخوته استشهدوا في الثورة، وأن السادس أسير في سجون النظام لكني أستطيع أن أؤكد أن الرجل لا يسعى للانتقام، لكن مع ذلك ربما كانت خسارته الشخصية الهائلة هي التي علمته أن الحياة في حقيقتها قاسية جدا وهي التي دفعته ليصبح قاسيا في عصر القسوة .. كما أن الرجل لم يوجه قسوته تلك ضد العلويين تحديدا، في الحقيقة كان يوجهها ضد عساكر جيش الأسد دون تمييز .. لا بد هنا من استدراك مهم، فقد يدفع الكلام السابق للاعتقاد أننا أمام شخص قاسي القلب أو دموي، لكن أبو حاتم في الواقع ليس إلا إنسان، وإنسان حقيقي بكل ما تعنيه الكلمة، لكن في عصر وصل فيه معيار الوحشية في علاقات البشر ببعضهم إلى مستوى هائل.

أكيد أيضا أن أفعال أبو حاتم ليست أكثر قسوة مما مارسه زاباتا أو ماخنو أو حتى سبارتاكوس في أيامهم، هذا ليس تبريرا للقسوة، ولا حتى قسوة الجزار يمكن أن تبررها، بل إن محاولة تبريرها بحد ذاته شيء فظيع، صحيح أن القبح هو جزء أصيل من هذا الوجود، لكن مع ذلك لا يمكن تبرير القبح، إننا نكتشفه فقط لكي نلغيه، أن نبقى قبيحين عن وعي وتصميم كاملين، هذا بحد ذاته هو الجريمة الكاملة، والقسوة الأشنع على الإطلاق.

لا أجمل ولا أسمى من أن تعيش حرا، لكن المشكلة هي في هذا العالم نفسه الذي يفرض عليك أن تقاتل كل لحظة لتنتزع حريتك وتحتفظ بها، قسوة الثورة لا يمكن أن تكون إدانة للثورة، إنها إدانة لهذا العالم، خاصة للواقع وللنظام الذي تثور في وجهه، وإعادة إحياء لحلم أن يعيش البشر أخيرا دون عنف أو إكراه أو سجون أو حرس. أيضا لم يسعفني الوقت لأعرف من أبو حاتم أين بدأت ثورته وأين يرى أنها ستنتهي. نعرف أن زاباتا بدأ مقاتلا في جيش ماديرو الثائر ضد الطاغية دياز، لكن عندما سقط دياز وتولى ماديرو السلطة وبعد أن خاب أمل زاباتا في الرئيس الجديد قرر مواصلة الصراع ضد قائده السابق.

يذكر التاريخ أنه عندما طلب ماديرو من زاباتا إلقاء سلاحه رد الأخير بأنه إن لم يحصل الناس على حقوقهم اليوم وهم مسلحين فإنهم لن يحصلوا عليها أبدا خاصة إن ألقوا سلاحهم، لكن مصير زاباتا يشبه مصير معظم الثوار الذين سبقوه، ومن سيأتون بعده أيضا، فها هو ذا يسقط أخيرا في صراعه ضد السلطة مدافعا حتى آخر نفس عن حلمه بأن يتملك الفلاحين أرضهم ذات يوم، لكنه يموت فقط ليحيا من جديد مع ثورة أخرى للفلاحين المكسيكيين من السكان الأصليين عندما أخذ الثوار الجدد اسمهم وهدفهم وحلمهم من زاباتا، فولد جيش الزاباتيستا للتحرر الوطني عام 1994. أين ستتوقف ‘ثورة’ أبو حاتم وكثيرون من أمثاله في الثورة السورية، هل سيستمرون بحمل السلاح إذا لم تتمكن ‘السلطة’ القادمة من الوفاء بأحلامهم، تلك السلطة التي لا شك أن قادته المباشرين اليوم سيكونون من بينها بشكل أو بآخر؟ مرة أخرى يصعب جدا الجواب على هذا السؤال. لقد بكيت فعلا وأنا أعانق أبو حاتم مودعا، كنت أضم سوريا التي أحببتها، سوريا التي تناضل من أجل حريتها، المغمسة بالدم والحب والكراهية، بالأمل وبالتعب وبكل تأكيد، بالحرية. قبل قرون لم يكن الجنرال الماركيز لافييت ولا الامبراطور نابليون هم الأبطال الحقيقيين للثورة الفرنسية، بل تلك الآلاف التي اقتحمت الباستيل ونكلت بالنبلاء وأفراد العائلة الحاكمة ودافعت عن جمهوريتها، آلاف ممن انتزعوا حريتهم بدمائهم ودافعوا عنها بدمائهم وماتوا أحرارا في ساحات الوغى يحلمون بيوم يكون فيه كل قاطني هذه الأرض من الأحرار فقط، نحن لا نعرف أسماءهم، لم يحفظها لنا التاريخ كما حفظ أسماء الوزراء أو النبلاء أو كبار الكهنوت أو السياسيين، لم تقدسهم السلطات ‘الثورية’ ولا ‘الكنائس الثورية’، ولم تمنحهم تيجان الأباطرة ولا حتى أكاليل الغار، لم تتجاوز مكافأتهم سويعات من الحرية قضوها وهم يحاربون كل طامع باستعبادهم ومكان ما في ذاكرة وضمير كل المضطهدين والمقهورين عبر العصور. لقد وقعت ثورةعظيمة هناك، وكان هؤلاء هم الثوار الحقيقيين، في سوريا كان هناك أبوفرات وأبو حاتم.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى