رشا عمرانصفحات الناس

أثر الصوت، أثر الصورة/ رشا عمران

 

 

لا جديد في الفيديو المسرب لعناصر من الجيش السوري، وهم يعذبون طفلاً صغيراً بأكثر الطرق شناعة وفظاعة ووحشية، فطريقة التعذيب لم تتغير أبداً، ولا جديد أيضاً في اللهجة المستخدمة، بإلحاح، من العناصر للتأكيد على انتمائهم لطائفة بعينها، لا جديد أيضاً في رد فعل الإعلام، ومريدي شبكات التواصل الاجتماعي على هذا الفيديو المسرب. منذ أربع سنوات، والتسريبات المشابهة لم تتوقف، ولم يتوقف رد الفعل عليها، ليس فقط في الخطاب الطائفي الانفعالي المشابه لخطاب اللهجة المستخدمة، وإنما بما تخلفه من أثر عميق في اللاوعي، الفردي والجمعي، لدى المواظبين على مشاهدتها، فنحن نشاهد هذا الفيديو المسرّب بكل العنف والوحشية التي يحتويها، ثم نترك العنان لغضبنا أن ينفجر عبر اللغة، ونتهم كل من يتحدث بهذه اللهجة بأنه مجرم ووحشي ويستحق الإبادة، وإن كنا من فئة المتحدثين باللهجة نفسها، نبالغ في استنكارنا الفعل، دفعا للشبهة عنا. وبعد دقائق، نعود إلى ممارسة شؤون حياتنا الطبيعية.

وهكذا في كل مرة، بحيث يبدو وكأن إدانتنا للفعل آنية، ومردها اللهجة المستخدمة، لا الفعل بحد ذاته، ولا سيكولوجيته، ولا البدائية المقصودة في طريقة تصوير الفعل البدائية التي تؤكد أن الفعل وفاعليه ومسجليه ومسربيه هم أنفسهم منذ بداية الثورة، هم أنفسهم منذ ستين عاماً، منذ سيطرت العسكرة على حياة المجتمعات العربية، وتحكّمت بالسلطة فيها، منذ انتهت الانقلابات العسكرية في سورية بانقلاب حافظ الأسد العسكري الأمني الذي قرر أن يمايز مواليه بلهجةٍ صارت أحد مظاهر الطائفية السورية، بقدر ما هي من مظاهر السلطة والهيمنة. لهذا، أتت التسريبات بما فيها تعبيراً واضحاً عن مرحلة بكاملها من التاريخ السوري. لهذا أيضاً، أتت التسريبات كلها صوتاً وصورة، كان من الممكن أن يصور الفعل صامتاً ويسرب صامتاً، أثر التعذيب لن يكون أقل على الضحية، لو أن التسريبات بقيت صامتة، غير أن أثرها على متلقيها لن يكون نفسه، لم يأت التسريب فقط بقصد الترهيب عبر تعذيب الضحايا، بل بقصد الترهيب عبر التعذيب باستخدام لهجة العسكرة. ليس مهماً، هنا، انتماء العسكري أصلاً، ما يهم انتماء الضحية، ما يهم، أيضاً، هو اللهجة التي يستخدمها العسكري، هي ما يؤكد الهيمنة والسلطة، اللهجة مع الصورة هي ما يجب الإصرار عليه دائماً، ليستقر أثرها في اللاوعي الجمعي السوري وقتاً طويلاً، بحيث يبقى عائقاً شبه أبدي أمام محاولات السوريين بناء عقد اجتماعي جديد، في دولة مدنية موحدة.

في المقابل، تبدو الفيديوهات التي يبثها تنظيم داعش مختلفة تماماً، هي ليست مسربة، إنها تصوّر بحرفية عالية بقصد البث الإعلامي، وليس فيها تعذيب من عناصر داعش للضحايا، بل موت مباشر وسريع. عناصر داعش بلباس موحد وخطوات ثابتة وأيد لا ترتجف، والضحايا بلباس موحد، يتقدمون برتل واحد بهدوء واستسلام مذهل، ترافق الفيديو موسيقى تصويرية، بلا أية كلمة أو لهجة، تدل على هوية العناصر، فالصوت هنا غير مهم، والمقصود ليس الترهيب على طريقة فيديوهات النظام السوري. المقصود هو الإعلان عن قوة التنظيم وقدراته على اختراع طرق جديدة للموت كل مرة، من الذبح إلى الحرق إلى الصلب إلى الغرق. كل فيديو جديد لطريقة قتل مختلفة، الثابت فقط لباس العناصر ولباس الضحايا، والاستعراض في سيناريو الموت، ما من صوت بلهجةٍ أو لكنة محددة هنا، فالمتلقي المقصود ليس محلياً، بل عالمي عابر للأوطان والأديان والمذاهب. المشهد الذي تقدمه فيديوهات داعش تشبه الحاضر تماما، سواء من حيث مصالح مافيات السلاح الحاكمة للعالم أو من حيث الإعلام الممول من قبل هذه المافيات.

ثمّة فارقان آخران مهمان بين فيديوهات النظام السوري وفيديوهات تنظيم داعش. الأول أن أداء الضحايا وجلاديهم لدى النظام ينم عن خوف جلي، بينما لدى داعش لا يوجد أي تعبير عن الخوف، لا لدى القاتل ولا المقتول. الثاني أن فيديوهات النظام ترسخ لأفول مرحلة طويلة، بينما ترسخ فيديوهات داعش لمرحلة طويلة مقبلة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى