عماد الدين موسىمراجعات كتب

“أحتضنُ نمراً أبيضَ وأعبرُ المحيط”: ثماني طرائقَ للانتحار/ عماد الدين موسى

 

 

 

يبقى “الشِعرُ” الفنّ الأكثر التصاقاً بالموت، أو ما يسمّى بعالم ما بعد الحياة، أو ربما المعبّر الأكثر عن الموت دون أن تكون هناك توريةٌ ما؛ الموت لا بوصفه فناء فحسب، بل كأنشودةٍ خالدة تبقى إلى ما لا نهاية. وهو ما نجده لدى الشاعر الصيني الراحل خاي زي (1964-1989)، حيثُ يأتي على ذكر ثماني طرائق للانتحار في قصائده، ليختار واحدة منها منهياً حياته وهو في أوج شِعريته.

ليس الانتحار موضوعاً جديد المناقشة في الشعر أو أي جنس أدبي آخر، غير أنّ الشعر معالجاً للانتحار يمنح البعد الأوسع لهذه الموضوعة السَّاحرة والأثيرة، الانتحار عنصراً أساس ورئيس في المعالجة.

يتضمن كتاب خاي زي “أحتضنُ نمراً أبيضَ وأعبرُ المحيط”، الصادر حديثاً لدى دار النسيم (القاهرة- 2017)، إحدى وخمسون قصيدةً اختارتها وقدمت لها المترجمة المصريّة يارا المصري. ولعلّ اللافت في تجربة هذا الشاعر تلك اللغة الشِعريّة الحميمة والسلسة في تناول تلك العوالم البرزخيّة الغامضة والتي تحتاج إلى قدرة تنبؤيَّة وتركيزاً ذهنياً عالياً ومن ثم ترويض اللغة لتكون المعبّر الأوحد، حيثُ الغموض يعتور كلّ الأشياء من حوله، متكئاً على ألفة العوالم الريفيّة التي لم تفارق قصائده، رغم قساوة ما تناوله من مشاهد تُعنى بثنائيّة الحياة والموت؛ “إنه ابن الظلام، يغرق في الشتاء، يحبّ الموت”.. يقول الشاعر في آخر قصيدة كتبها قبل انتحاره.

القصيدة الريفيّة

تنتمي قصيدة خاي زي إلى الطبيعة الريفيّة، وتنهل من عوالمها جُلّ مفرداتها، وهو ما يؤكّد على العلاقة الوثيقة ما بين الشِعر والريف أو ربما كمرادفٍ آخر يمكن القول (الطبيعة)، حيثُ البراءة والعفويّة على أشدهما، ومكمن الجذور الأولى للكتابة الإبداعيّة. “حقل القمح” و”الطيور” و”العشب” و”الورود” و”الحبوب” ومفرداتٍ أخرى نجدها في قصائد خاي زي، حيثُ يمكن لأي شخص كان لو قرأ شِعره “أن يشعر بتغيّر الفصول، واتجاه هبوب الرياح، ونمو القمح”؛ في قصيدة بعنوان (البرونز الآسيوي) يقول الشاعر: “أيها البرونز الآسيوي، أيها البرونز الآسيوي/ الطيورُ هي التي تحب الشكَّ والطيران،/ البحرُ هو ما يُغرقُ كلَّ شيء/ سيدُك هو العشبُ الأخضر، يلتف حول خصرك الرفيع،/ يحمي أكُفَّ الورودِ البريةِ والأسرار”.

من جهةٍ أخرى؛ قصائد خاي زي، والتي “تحمل معظمها سيرةً ذاتيةً له”، تكشفُ عن جوانب جليّةٍ من شخصية الشاعر وكأنها أشبه بالمرآة تعكس تفاصيل حياته وأحداثها؛ وكما يقول صديقه شي تشوان فقد كانت “إشراقة الأرض، الدفء والمعاناة، ذلك ما شكَّل جوهرَ حياته، وشكَّل تبعاً لذلك لغةً شاعرية فريدة، موجزة، سلسة، رنانة قوية، وكأن الأرض الصامتة حين أرادت أن تخرج عن صمتها، أمسكت به، واختارته ليصبح صوتها”. يتابع تشوان: كان خاي زي “نقيّاً، حساساً، مبدعاً، ضَجِراً في الوقت ذاته، يمكن أن يُجرَحَ بسهولة، مُغرماً بالأرض المقفرة، وكلُّ ما يكترث له وما يؤمن به إيماناً صادقاً هو تلك الأشياء رفيعة المنزلة الساطعة ببريقٍ ذهبي، والتي في طريقها إلى الزوال وإنما بالتأكيد سوف تظل خالدة”.

لعلّ الانتحار هو القول الفصل ما بين أن يكون الشاعر خالداً وما بين أن يموت ميتةً عادية مثله مثل باقي البشر، هنا تكمن المفارقة التي توضّح أساساً ما يمكن للانتحار أن يمنحه من تخليدٍ لصورة أو قصيدة.

كتاب أناشيد الموت

يمكننا ببساطةٍ أن ننعت هذا العمل لخاي زي بكتاب الأناشيد، فكل قصيدة عبارة عن أنشودة تمدح الموت وتدلّ عليه؛ بدءاً بقصيدة (أنشودة منتحر) مروراً بقصيدة (سيريادة خاي زي) وصولاً إلى (شعر الموت)، العناوين تلعب الدور الأبرز لدى خاي زي لإعطاء الموت بعده الإيجابي وصفته التي لا يمكن مع تلك القصائد إلّا وأن تحترم فعل الانتحار ككائن بشريّ يخشى المجهول، لكن خاي زي يحثّ على هذا الفعل كنوع من خوض المجهول: “فلتُطلق النار، ولتَعُد وحيداً إلى مسقطِ رأسك/ كأنك حمامة/ ترتمي داخل سلَّةٍ قرمزيَّة”.

وعلى النقيض من هذه الأنشودة، ثمّة أنشودة أخرى تتغنّى بالجسد، الجسدُ ربمّا كمكانٍ مجهول هو الآخر ويحتاج إلى تفاسير شعريَّة، يبرع فيها خاي زي: “الجسدُ حلم النهر/ الجسدُ يرى قاطف الشَّمَّرِ قبالة النبع”. أو كما في مقطعٍ آخر يلي المقطع المذكور، سنتلّمس هذا التواصل الحميم ما بين الشاعر وفكرة الموت وتوضيح ما يمكن أن يكون عليه الجسد: “في مواجهةِ القبر/ يكونُ الجسدُ جميلاً”.

الغنائيّة العذبة

تتسم قصائد خاي زي بغنائيّةٍ عذبةٍ، وهي السمة الأبرز لقصائده، الغنائية التي تشبه الملحمة وهي تُسرد في صالة أوبرا!، النصّ إذ يمكن له أن يتحوّل إلى أغنية، سمةٌ تضفي على النص الرونق الكامل: “أيُّ عربةٍ، حملتك، انطلقت بك إلى البعيد/ انطلقت إلى البعيد، حيث ذهبتَ بلا رجعة،/ أيُّ عربةٍ حمَلَتك؟”.

وفي قصيدةٍ أخرى، تهتف جثة الشاعر للحبيبة، في مزجٍ حميم ما بين ثنائية الموت والحياة، الذكرى والآن، الغرق والحب، بأسلوبٍ غنائي عذب، اللغةُ تفعل فعلها بعد الترجمة أيضاً ويبقى اللحن المتخيَّل موجوداً؛ حيثُ يقول: “اليدان في الحلم/ تقبضُ على الشعلةِ بقوة”.

كتاب “أحتضنُ نمراً أبيضَ وأعبرُ المحيط”، والذي جاء في 100 صفحة من القطع المتوسط، هو إثراء للخيال، كتاب يعيد للجثَّة جمالها وألقها على غير المعتادِ لغةً.

عنوان الكتاب: أحتضنُ نمراً أبيضَ وأعبرُ المحيط     المؤلف: خاي زي

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى