صفحات سورية

أحداث سورية: حرب البلاغات.. ميدان تحرير سورية

 


طارق عبد الواحد

من الناحية الشكلية، يريد النظام السوري أن يخلق الانطباع بأن البلد محكوم من قبل المؤسسات الحكومية والإدارات الرسمية. واختيار الرئيس بشار الأسد لمجلس الشعب، أولاً، والالتقاء بالحكومة الجديدة، ثانياً، لإلقاء خطابيه، هو أبلغ إشارة على ذلك.

ومع إدراك الفارق بين الخطابين الرئاسيين في الشكل والمضمون، إلا أنه من غير المرجح أن يفضي الخطاب الأخير إلى نتائج إيجابية، تهدئ الشارع السوري الملتهب بالدرجة الأولى، أو أن تغير بوصلته أو تدفعه إلى التريث أو الانشقاق.

وتخريجات مظهرية كهذه، تشير إلى أن النظام السوري مايزال يفكر في إدارة الأزمة في المستوى الشكلاني، وأنه غير مستعد، حقيقة، إلى إجراءات تغييرات بنيوية عميقة وجذرية. وهذا بالطبع لن يمرّ على السوريين الذين ألفوا عبر سنوات طويلة مراوغات النظام والتفافاته، ومرّوا بتجارب عميقة ومؤلمة، كلها تقود إلى اليقين الكامل، بأن البلد محكوم بقبضة حديدية، كثر، أو قلّ، عدد أصابعها.

والسوريون في هذا السياق، لا يستغربون وقد لا يتساءلون، عن سبب غياب ممثلي أو قيادات المؤسسات الحكومية، ولا يتوقعون لهم دوراً أو مشاركة فعلية، في التعامل مع الأزمة، أو إدراتها أو المساهمة في حلها، ولذلك يبدو طبيعياً أن تدخل سورية أزمتها الحالية، من دون ان نرى أو نلمس، أي ملمح لحضور رموز أو مسؤولين أو قيادات حكومية أو رسمية.

وهكذا يسقط مئات القتلى والجرحى، من دون أن يدلي وزير الصحة بدلوه، ويستعر خطاب إعلامي خطير عن ‘فتنة داخلية’، وخطاب إعلامي مضاد على موقعي التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر، بدون أية إطلالة لوزير الإعلام، وتنشب حرب في الشوارع ضد المدنيين العزل، تشارك فيها عصابات مسلحة، (تتناقض حولها الروايتان الشعبية والرسمية) من دون أن أي ظهور لوزرير الداخلية (السابق، الذي قام على الأرجح بمبادرة شخصية لاحتواء جمهرة الغاضبين في حي الحريقة الدمشقي). ويمكن أن نرفع الكثير من الأسئلة ذات العلاقة. فكيف نفسرعدم ظهور الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي عبد الله الأحمر، ولو لمرة واحدة في هذه الأزمة في بلد يحكمه حزب البعث منذ نصف قرن؟ وكيف نفسر غياب أمناء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الاشتراكية؟ (من من السوريين يعرفهم أصلاً؟)، وأين رئيس مجلس الشعب ورئيس الحكومة ووزير الدفاع من هذه الأزمة؟ وعلى المتابع الحصيف ألا تفوته أسباب بزوغ نجمي عضو مجلس الشعب خالد العبود، ورئيسة تحرير صحيفة ‘تشرين’ السابقة سميرة المسالمة ومفتي الجمهورية أحمد بدرالدين الحسون، فتلك تخريجات منتقاة بعناية (في المستوى الشكلي) لإيصال رسائل واضحة الدلالة، خاصة أن العبود والمسالمة هما من أبناء محافظة درعا، والغرض من ذلك هو التشكيك بدوافع الاحتجاجات وأسبابها، من باب، ‘وشهد شاهد من أهلها’، وفي حالة الشيخ الحسون.. يراد نفي شرعية تلك الانتفاضات.

والكلام عن المستوى الشكلي في أداء النظام السوري مع هذه الأزمة، ليس من باب المبالغة، أو التعسف التحليلي، أو الفذلكة النقدية، خاصة أن الرئيس الأسد استهل خطابه الرئاسي الثاني بتبرير اختلاف نبرة صوته وأرجعه إلى التهاب القصبات الهوائية، فالأسد لا يريد، حتى في المستوى الشكلي، إعطاء الانطباع بانه مرهق بتأثيرات الأزمة، ولا يريد الاعتراف بأن الأزمة تقوده ولا يقودها، في مكان ما.

هنالك حرب بلاغية (وبليغة) كثيفة الدلالة بين النظام السوري والمحتجين والموالين والمترددين، يحافظ فيها الجميع على شعرة معاوية. فالشعارات التي يطلقها المحتجون في أغلبيتها (والتي يتم انتخاب بعضها من قبل الشخصيات المعارضة ونجوم المشاركات التلفزيونية).. لا تزال حتى الآن، تقع ضمن دائرة الشعارات المطلبية، بينما تتعمق المطالب الشعبية، في المستوى الوجداني والعاطفي، بإزالة النظام واستئصاله. والشعار الذي أطلقه السوريون في البداية: الشعب السوري ما بينذل، ليس أكثر من سلوك بلاغي موارب يقرر مدى الإذلال الذي تعرض له السوريون على مدى أربعة عقود من الزمن. ومثل هذا الشعار يختزن طاقة عاطفية خطيرة التأثير. ويشبه الأداء اللغوي في ذلك الشعار، الأداء اللغوي في الآية القرآنية: ‘لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة’، والمعنى المختزن في أداء كهذا، هو توكيد المعنى عن طريق الإثبات عبر النفي. ويمكن أيضاً الملاحظة إلى المداورة، في الشعار الآخر: يللي بيقتل شعبه خائن.

وأما الشعار الذي يطالب شقيق الرئيس ماهر الأسد، بأخذ جنوده إلى الجولان، بدلاً من استخدامه قواته في قتل المحتجين، فليس أكثر من رد، عميق الدلالة بدوره، على دعاوى النظام ومؤيديه بدعم المقاومات العربية في لبنان وفلسطين والعراق، وفي الوقت نفسه يأتي كرد مضمر على مخاوف المتوجسين من زوال النظام ومستقبل المقاومات العربية. فالفهم الجماهيري لمعنى المقاومة لدى المحتجين، يتجلى بمحاربة إسرائيل بشكل مباشر، وليس بمجرد الدعم السياسي لتلك المقاومات العربية.

ويحسب لهذه الشعارات، التقطاها لحس مختلف واستعمالها لأداء مغاير، شديدة الدلالة في الوعي الجمعي عند السوريين، ويستحق كظاهرة اجتماعية وسياسية دراسة سوسيولوجية.

ومرة تلو الأخرى، يثبت الناس العاديون أنهم أكثر ذكاء وأسرع استجابة للمتغيرات من النخب الثقافية والسياسية والأكاديمية. فالمتظاهرون في سورية، لم يوجهوا الدعوات، أو ينظموا، أو يدعوا إلى مظاهرات عملاقة في ‘ميدان تحرير’ سوري، على شاكلة العواصم العربية الأخرى. وهذه إضافة ونقطة مغايرة من شأنها أن ترهق النظام وأدواته الأمنية والعسكرية والإعلامية.

كما أنها أيضا خصيصة يجب الاستفادة منها في الخطاب الإعلامي للمعارضين.. بمعنى ألا يستنسخ الخطاب المعارض بعضه بعضاً، وأن لا تتجمع المطالب في بؤرة واحدة.. في ‘ميدان تحرير’ إعلامي وحيد، يسهل دحضه وتفنيد مزاعمه، بل على العكس.. أن تتكاثر المطالب وتتعدد وتتشظى.. كل من موقعه، ومن اهتمامه، ومن خبرته، فهذا سيؤدي بلا شك، إلى زيادة الضغط على أعصاب النظام وإرهاقه، وهو الذي ما يزال متماسكاً حتى الآن.

فشل النظام السوري، حتى الآن، بتظهير الأزمة الطائفية المزعومة في سورية، رغم التكريس الإعلامي وتركيز الخطابات الرسمية وشبه الرسمية، والأخرى الموالية للنظام، اهتمامها حول هذه المسألة. والشريط المتلفز الذي بثه التلفزيون السوري مؤخراً، والذي أظهر ‘اعترافات’ ثلاثة أشخاص، يشكلون خلية مسلحة، تتلقى الدعم المالي والإمداد بالسلاح من النائب اللبناني، في كتلة تيار المستقبل، جمال الجراح، ليس أكثر من ضخ إضافي، وجرعة عالية التركيز، تعكس إصرار النظام الحاكم في سورية، على تثبيت وترسيخ الراوية الرسمية، التي بدأت على لسان المستشارة الإعلامية للرئيس السوري بثينة شعبان، واستمرت في خطاب الرئيس نفسه أمام مجلس الشعب.

والشريط ذاته، يأتي في سياق الرسائل والتشفيرات السياسية، أكثر مما يأتي في سياقات تصدي الدولة السورية لمسؤولياتها وقدرتها على تقديم تفاسير مقنعة ومقبولة للاحتجاجات الدامية في سورية.

ويعني ذلك بالضبط نقل ‘المختبر’ وتخريجات ‘المطبخ الأمني’.. من سورية إلى لبنان، البلد الأكثر استعداداً وقابلية لاستقبال وإعادة بث الحساسيات الطائفية، وهو الأمر الذي قد نلحظ آثاره في الأيام القادمة. فضلاً عن كونه (الشريط) إشارة قاسية الدلالة لبعض الأصوات اللبنانية المحسوبة على المقاومة اللبنانية أو القريبة مــــنها، ومن بيـــنها شخصــيات ومحللون وصحف مثل جريدتي ‘الأخبار’ و’السفير’ اللتين نشرتا مقالات وتقارير وآراء تشكك (أو تسخر) بالرواية الرسمية السورية، لجهة ربط الاحتجاجات بأجندة خارجية.

وفي هذا السياق يجب عدم إهمال أو الإعراض عن، التقلقل والتوجس الذي يسود البيئة الحاضنة لجمهور المقاومة اللبنانية، البيئة المحتدمة أصلاً، والمنخرطة في أتون التجاذبات والتنافرات السياسية على خلفيات طائفية أو سياسية ذات بعد طائفي، سواء في الداخل اللبناني، أو في الجوار الإقليمي.

ونقل فتيل أزمة وصاعق التفجير من سورية إلى لبنان، ذو دلالة سياسة كثيفة، خاصة بالنسبة لنظام دأب خلال عقود، على تبرير وجوده في الساحة اللبنانية، سياسياً أو عسكرياً، بدعوى أن لبنان، هو خاصرة سورية الضعيفة، وأنه مسرح أو كواليس المؤامرات على سورية. والآن.. صار الطريق بين دمشق وبيروت باتجاهين، بمعنى.. أن النظام السوري يرتضي هذه المرة، ويقبل على نفسه، أن يشعل الفتنة الطائفية في لبنان، لتخفيف الضغط على نفسه، ولاستثمار مناخاتها، في تدعيم الرواية الرسمية في سورية.

في بداية الأحداث، وجه النظام أصابع الاتهام إلى جماعات فلسطينية ذات توجهات إسلامية (ومايزال)، ولكن القيادات الفلسطينية المحسوبة على السوريين، دحضت ذلك الزعم، وأكدت على التحالف الوثيق بين فصائل المقاومة الفلسطينية والقيادة السياسية في سورية. ولكن تداعيات العرض التلفزيوني للشريط الآنف الذكر، لا يحدث الأثر نفسه لدى اللبنانيين، فالأفرقاء السياسيين في لبنان، جاهزون أصلاً لخوض معركة تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات وشحن الأجواء مما قد يفضي إلى تسعير الخطاب الطائفي من جديد، في لبنان.

ويحمل الشريط، في جملة ما يحمل، رسائل مضمرة إلى السعوديين الذين مايزال النظام في سورية يتجاهلهم مفضلاً عدم المواجهة. على الأقل حتى الآن.

من السهل تكذيب مزاعم وروايات النظام السوري، لكن لا بد من الاعتراف بأنه يقود المعركة الإعلامية بذكاء شديد، وبتأنٍ لافت. والمشكلة (الأخلاقية) أن النظام السوري المشهود له بحرفيته وخبرته وألمعيته ونجاحه في التعامل مع القضايا الخارجية والقوى السياسية الإقليمية والعالمية، المشكلة أن يقود ‘المعركة’ الإعلامية والدبلوماسية مع شعبه بنفس الذهنية. يعني بذهنية الخصم، بذهنية خلط الأوراق، واللامجانية، والمماحكة، والحرتقة، والأفيشات، والصلابة، والامتناع، والصبر، وتمرير الوقت، مع التركيز الشديد على مظاهر القوة والندية والكبرياء.. والأهم، أنهم يصرون دائماً على قبض الأثمان، في أية صفقات أو تسويات.

لقد ربح النظام في ‘الحرب المرحب بها، والمستعد لها’ نقطة غالية، بإجبار الخصوم والمراقبين والمحللين والإعلاميين، على وجود طرف ثالث، في ‘المعركة’ الدائرة بين النظام وبين المحتجين. طرف مسلح أو مندس أو موجه. ولن يأبه النظام السوري بعدها بأية دعاوى تتهمه بتغطية ذلك الطرف وحمايته. فالمهم بالنسبة للنظام، هو خلق ورقة جديدة، أو تسمين كبش فداء تجهيزاً لإحراقه في اللحظة المناسبة، يكون ثمناً لا يدفع من حساب النظام.

وفي مراقبة الأداء الإعلامي لبعض الشخصيات المنتمية إلى جماعة ‘الإخوان المسلمين’ السوريين، يظهر واضحاً، أن تلك الشخصيات، لم تستفد من تجربتها المؤلمة والدامية في سورية، في ثمانيات القرن الماضي، ولا من تجربة الإخوانيين في مصر، إبان الثورة المصرية، ولا من إقامتهم الطويلة في المغتربات والمنافي، الغربية تحديداً.

فدخولهم على الخط الساخن على مجريات الأحداث في سورية، سواء عبر الظهور الإعلامي في مقابلات ومشاركات وشهادات، أو عبر الصحافة المكتوبة، يساهم بلا شك في إضعاف مواقف المحتجين والمتظاهرين والمعارضين للنظام للسوري، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن قيادات ‘الثورة السورية ضد بشار الأسد’ قد تكون من الجيل الثاني، من أبناء السوريين المنفيين، من جماعة الإخوان المسلمين، ومن غير المنتسبين للحزب على الأرجح.

وبدلاً.. من النشاط الكثيف، والاندراج في الحملات الإعلامية والحملات الإعلامية المضادة، قد يكون من الأجدى لهم، التركيز على قضيتهم الأساسية، وهي المجازر التي ارتكبها نظام الأسد الأب، في حماة وحلب وجسر الشغور بحقهم، وبحق الشعب السوري، وإعادة فتح ذلك الملف وتقديمهم على المسرح، لإرهاق النظام وزيادة الضغط عليه.

 

‘ كاتب سوري مقيم في الولايات المتحدة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى