صفحات الثقافة

أحمد المعلا يرسم الجحيم السوري في نفق بلا نهاية


أبوظبي – محمد غندور

شخص يهوي من علو شاهق، لا يرتطم بأرض، بل يسبح في فضاء لوني. شخصان يحملان لافتة بيضاء لم يُكتب عليها شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، بل أرادها ناصعة مسالمة. شخوص بلا ملامح تجتمع لأمر مهم، تُفكر بحل لأزمة ما. تتفق على أن تتفرق لتشارك في جنازة شهيد أسقطته «نيران صديقة»، ثم العودة إلى التفكير في حل يُبعد الغربة عنها ويقيها الهرب أو الهجرة.

شخص يُخبر آخر أن العيش لم يعد سهلاً في ظل قصف ودمار وخراب ونقص في مواد غذائية. الآخر يُخبره أن مستوى الإجرام بلغ أعلى المستويات. الشخوص تسير بلا خريطة صوب هاوية قريبة. حرائق تندلع ومدارس تُهدم. جثث تتكاثر كالفطر. أبنية تهوي. خوف في كل مكان. شخوص «تعوي» من الجوع، ونيران تحرق ما تبقى من وطن. قوافل جنائزية تعبر الطرق في مشهد جحيمي. حشود بشرية كما لو أنها هاربة من زلزال.

هي جدارية فجائعية أرادها التشكيلي السوري أحمد المعلا أن تترجم حال بلده. ما إن أمسك بالفرشاة حتى تورّط بعمله الفني الضخم (بعرض 12 متراً وطول 3 أمتار)، أفرغ وجهة نظره ورأيه، ونقاشات تخيلها مع النظام والجيش الحر. أراد المعلا الاختباء داخل عمله الفني «من دون عنوان»، فأكثر من الشخوص والقوافل البشرية، وراح يبتدع أناساً بقامات أطول وملامح غريبة، تنم عن قلق وحيرة، فالحل ليس موجوداً في اللوحة، ولا طرق للخلاص. وسط هذه المعمعة اللونية التراجيدية والخراب العمومي، تتزاحم الشخوص وتضيق المساحة التي يسكنونها، فيبرز سؤال: أين المفر؟

لم يرسم المعلا نفق الخلاص للشخوص، لكنه، في الوقت ذاته، قد يكون مستتراً بين الجثث والجرحى والخراب. النفق هو الحوار الذي يغطي مساحة جيدة من العمل. يحفر المعلا في طبقات الألم، ويستحضر مشهديات الدم السوري المسفوك في عراء الكارثة. ووفقاً لنظرة المتلقي، إما أن يجد الخلاص في ثنايا اللوحة، أو يغوص في وقود الحرائق المستعرة والمتجددة.

ألوان الموت والنار

الأسود والرمادي والأصفر الناري… ثلاثة ألوان تؤطر المشهد السوداوي. أجساد متطايرة وأخرى متفحمة. رقصة الموت في مشهدها الأخير، على وقع صرخات تطيح الملامح والوجوه. نحن إزاء سينوغرافيا الفجيعة إذاً، لحظة احتشاد الأسطح بمناخات متوترة، مشحونة بغنى حركي ودرامي، يشي بكارثة أو مأتم أو عرس على خلفية غرافيكية صارمة، وهي أيضاً نزهة لونية، يتحكم بها الضوء والظل كمنظر جمالي مغاير، يُبرّر رحابة المساحة. يقسِّم المعلا، وهو من روّاد التجديد التشكيلي في سورية، جداريته إلى ثلاثة أقسام مرتبطة من حيث الأحداث والتوترات والجثث.

ينبض العمل بآلاف الأسئلة وعلامات التعجب، لما فيه من قدرة على تحريك الحواس وتنشيطها، فلا يمكن العين مثلاً احتواء عمق اللوحة للوهلة الأولى، ومن الصعب المرور بجانبها من دون سماع صراخ أو نحيب أو هتاف. فكل تناقضات الإنسان وانفعالاته موجودة، وكل الأسى والأمل والعبرة والخوف والهمس البشري والألم والتفاهة… أيضاً موجودة. واللافت في العمل أن اللوحة تبتلع الناظر إليها، فيصبح تفصيلاً من تفاصيلها الكثيرة والمنسية.

أراد المعلا أن يبدو كل شيء واضحاً للعيان، فعرّى اللحظة السورية، وأظهر عوراتها بألوانه الثلاثة الأسود والرمادي والأصفر المشتعل. والعمل الضخم الذي لفت انتباه الحضور، احتضنه «غاليري أتاسي» ضمن أنشطة «فن أبوظبي».

ولد التشكيلي السوري في بانياس عام 1958. مارس باكراً عشقه للرسم، فراح يرسم على سترته وعلى سترات الشبان وتنانير الفتيات، قبل أن يتسجّل في قسم «الاتصال البصري» – كلية الفنون الجميلة في دمشق ويتخرج عام 1981.

حصل على دبلوم المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس عام 1987، وبفضلها تفتّحت مداركه على تيارات ومدارس فكرية وفنية تسرّبت إلى تصاميمه الغرافيكية. وبعد عودته من فرنسا درَّس في كلية الفنون في دمشق بين عامي 1989 و1996، آخذاً على المؤسسات التربوية إفتقارها إلى مناهج تعليمية واضحة. والبراعة التي أظهرها في جدارياته ظهرت أيضاً في تجريداته الحروفية، وفي الملصقات التي أنجزها لمهرجانات سينمائية ورياضية.

وجد في الثورات والاحتجاجات العربية الأخيرة فرصة لتقريب تصاميمه من طموحات الشعوب وأحلامها بالتغيير.

نظم معارض فردية وجماعية في عواصم غربية وعربية، ونال العديد من الجوائز بينها جائزة أفضل ملصق خارجي في ميونيخ (1988) وجائزة «البردى» للخط العربي في أبوظبي (2007).

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى