مراجعات كتب

أحمد برقاوي وأسئلة الفلسفة المعاصرة/ جمال شحيّد

 

 

بعد “محاولة في قراءة عصر النهضة” (1988) و”العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ” (1995) و”أسرى الوهم” (1996) و”مقدمة في التنوير” (1996) يطلّ علينا المفكر الفلسطيني، أحمد برقاوي، بدراسة ضخمة (528 ص) عنوانها “في الفكر العربي الحديث والمعاصر” (المركز الثقافي العربي، 2015). ويعالج فيها مسألة النهضة العربية ومشكلة الفلسفة العربية ومفكريها، ويطرح عدداً من المشكلات المعاصرة: الحداثة، الحرية، الاستشراق، العلمانية، الليبرالية، الديمقراطية. ويتوقف أخيراً عند بعض المفكرين المعاصرين، كمهدي عامل وأنطون سعادة ومحمود أمين العالم وإدوارد سعيد وحسن حنفي وعلي أومليل وغالب هلسا وعبد الرحمن بدوي وبديع الكسم. ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام يُختتم كل قسم بالتوقف عند بعض الأعلام الذين مثّلوه.

النهضة العربية

هنا يطرح برقاوي السؤالين التاليين: “لماذا تخلّف الشرق العربي عن السير في طريق التقدم الرأسمالي المستقل؟” و”ما هي سبل الاستقلال المنشودة؟”.

عندما صرّح الخديوي إسماعيل – المكمّل نوعاً ما لمشروع محمد علي المستنير – أنه يريد أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا، فإنه حدّد النموذج الأمثل الذي يصبو إليه. ولكن هذا النموذج المنشود ألغى الخصوصية المصرية [والشرقية بالتالي] وإمكانية الاختلاف عن الغرب، “إذ يتحول الغرب في سيرورته العامة إلى مقاييس نقيس عليها تاريخنا، أو معياراً نرى على أساسه مقدار انحراف أو تطابق تاريخنا عن هذا المعيار أو معه. وكأن التاريخ الحقيقي العام هو تاريخ أوروبا فقط”، كما يقول برقاوي. ذلك أن كل أمة تصنع تاريخها، ولا تكرر تاريخ غيرها من الأمم. فلا يوجد، بالتالي، تماثل بين النهضة الأوروبية وبين النهضة العربية. ويرى برقاوي أن مصطلح “نهضة عربية” هو مصطلح مزعوم لا يستقيم في الواقع، ونادى به عدد من الحاكمين الواهمين المشدوهين بمصطلح “نهضة أوروبية”. ويستشهد برقاوي بشكيب أرسلان – صاحب الكتاب المشهور “لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم”- : “إن كل أمة نسيت أصلها، ونبذت قديمها، وفرحت بجديدها وأنكرت رميمها، فأحرى بها أن تكون أمة ساقطة عن الأمم، وأن تعدّ خلطاً لا تعرف من بين الأمم.. إذا كنا نريد أن نتفرنج – أي نقتدي بالإفرنج – تحتّم علينا أن نبقى عرباً”.

وينتقل الكاتب من ثم إلى مسألة الإصلاح الديني التي ما زالت هاجس كثير من الشرقيين؛ ذلك أن “ضرورة الإصلاح الاجتماعي والسياسي يجب أن تسبقها عملية الإصلاح الديني”. ويستعرض برقاوي أهم الطروحات التي جاء بها بعض المسلمين المستنيرين من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرزاق؛ ورأى أن عبده مثلاً طرح أركاناً جديدة للدين الإصلاحي، منها: “النظر العقلي لتحصيل الإيمان، تقدم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، قلب السلطة الدينية”؛ وأضيف من عندي “رفض الحاكمية” لأن الخليفة أو السلطان ليس ظل الله على الأرض؛ إن “الأمة – كما يقول عبده – هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها. فهو حاكم مدني من جميع الوجوه” (جاء ذلك في كتابه: الإسلام بين المدنية والعلم). الإصلاح الديني يقضي إذن بعصرنة الإسلام، أي تناول الدين مشكلات اجتماعية وسياسية وثقافية وقومية راهنة. يقول برقاوي “المصلح الديني الإسلامي هو في نهاية المطاف مثقف سياسي قبل كل شيء”.

وينتقل برقاوي من ثم إلى النزعة القومية التي تبلورت في سورية بخاصة، منوّهاً أن الإصلاح الديني ظهر في مصر خصوصاً، في حين أن مفهوم العروبة تطور في بلاد الشام بخاصة، لأن مصر في أواخر القرن التاسع عشر لم تكن خاضعة للعثمانيين بل للإنكليز، ولأن فكرة العروبة أتت رداً على حركة التتريك والطورانية اللتين كانتا معاديتين للعرب. وتجلّت مقاومتها لدى العرب في مؤتمر باريس الذي عُقد عام 1913، والذي شدّد على أن اللغة العربية جامعة بين العرب بشتى طوائفهم وأديانهم. وكان لكتاب “يقظة الأمة العربية” لنجيب عازوري الذي ألّفه بالفرنسية وطبعه في باريس عام 1905 أثر لافت على حركة التحرر السياسية والاجتماعية في مواجهة الطورانية وأطماع الغرب في آن.

واندلعت الحرب العالمية الأولى، “وكان زوال الدولة العثمانية الفاجع والمأساوي – كما يقول برقاوي – بداية تاريخ أكثر مأساوية من تاريخ القمع المتأخر الذي مارسته السلطة العثمانية. إنه تاريخ الاضطهاد الغربي المتوحش والمباشر للعرب، تاريخ الاستغلال الأقصى للوطن العربي، تاريخ ذروة التبعية التي لم يستطع العرب منها فكاكاً حتى الآن”. ويستخلص برقاوي بعض الدروس والعبر من عصر النهضة: 1) التبعية للغرب، 2) سايكس بيكو (“الدولة التي رعت مؤتمر باريس عام 1913 هي ذاتها الدولة التي احتلت سورية ولبنان، وأنشأت دولة لبنان الكبير مقسّمة ما لا ينقسم”)، 3) أهمية التراكم التاريخي الذي تبلور في فكرة الإصلاح الديني وفكرة الديمقراطية والعلمانية وفكرة العقلانية.

ويتوقف برقاوي من ثم عند بعض الأعلام النهضويين، كعبد الرحمن الكواكبي وفرح أنطون ومحمد عبده وشبلي الشميّل وطه حسين.

مشكلات الفلسفة العربية ومفكروها

يلاحظ برقاوي، أن العرب انقطعوا عن الاشتغال بالفلسفة من القرن الثالث عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر (أي سبعة قرون)؛ وفيها انهارت الحضارة وساد اللاهوت وغاب العقل ودُحرت العقلانية. وهناك ترابطٌ بين ازدهار الحضارة وازدهار الفلسفة، وترابط بين انهيار الحضارة وجمود الفلسفة. ويرى الكاتب أن الفلسفة عادت بسبب الترجمة الفلسفية التي أقدم عليها أحمد لطفي السيد وأحمد فتحي زغلول وفرح أنطون وأحمد أمين ونازلي إسماعيل حسين، فأثْرت اللغة العربية بالمصطلحات الفلسفية. وكان لإنشاء أقسام الفلسفة في الجامعة المصرية وغيرها دور فعّال في تنشيط الفلسفة وتعريبها. ويعدّد برقاوي المسائل التي عالجتها الفلسفة العربية الناشئة كالتاريخ وعلاقة العلم والدين وصلة الفلسفة باللاهوت وارتباطها بالإنسان والمجتمع، من خلال البحث في مسألة الحرية والهوية. ويتوقف عند عدد من ممثلي الفلسفة العربية المعاصرة، وهم زكي نجيب محمود وناصيف نصار ومحمد عابد الجابري وعبدالرحمن بدوي وحسين مروة وعثمان أمين وزكي الأرسوزي.

مشكلات معاصرة

من بين المسائل التي عالجتها الفلسفة العربية مسألة الحداثة والتحديث. ويرى برقاوي أن الحداثة الفكرية مرتبطة بالعقلانية والحرية السياسية والعلمانية، وأنها لن تتحقق إلا عندما نفصل الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وعندما تتحقق الديمقراطية على أرض الواقع. ويأتي هاجس الحرية مطلباً أساسياً في مجتمع عربي يفتقر إلى ألفباء المواطنة. يقول: “لا حرية للأمة دون حرية خيارات أبنائها، ولا حرية لأبنائها دون حريتهم في الممارسة العملية والنظرية، ولا حرية للممارسة العملية والنظرية دون حرية المجتمع، ولا حرية للمجتمع دون حرية الشخص، ولا حرية للشخص دون وعي الاختلاف وتناقضاته وصراعاته”.

ويتوقف برقاوي عند مسألة إشكالية أثارت كثيراً من الجدل، ألا وهي مسألة الاستشراق. والمعروف أن عدداً من الباحثين العرب درسوا ظاهرة الاستشراق، كنجيب عقيقي وعبدالرحمن بدوي وإدوارد سعيد. قال عقيقي: “تناول المستشرقون تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، وعمدوا إلى درسه وتحقيقه وترجمته والتصنيف فيه، واقفين عليه مواهبهم ومناهجهم وميزاتهم”. ولأن الاستشراق معرفة، فهو محكوم بالثقافة التي أنشأته وبالتفوق والسيطرة، أي “بإنجازات العلوم الإنسانية الحديثة، بالفلسفة والتاريخ وعلم الجغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم اللغة والمعرفة باللغات القديمة الخ.”. ويتوقف برقاوي عند عدد من المستشرقين: غولدتسيهر، ماسينيون، مونتغموي واط، هنري ماسيه، أرنست رينان، غربناوم، جاك بيرك… ويرى أن الاستشراق معرفة علمية وإيديولوجية، وكل مستشرق له مجال معرفي محدد، ولا يجوز وضع المستشرقين في سلة واحدة، كأن نقول إنهم جواسيس وعملاء للغرب.

ويصل برقاوي إلى مسألة العلمانية التي هي مربط الفرس بالنسبة للعرب حالياً. ويستعرض مراحل تحولها في الغرب قائلاً: إن “ألوهية السلطة كانت تحول دون تشكّل الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة”، أي التحول من الحق الإلهي في السلطة وإعلاء شأن الدنيوي فيها. “فالجمهورية والملكية الدستورية، والدستور، والانتخابات التشريعية، وبنية الوزارات وطرق التعليم والعلوم وتعليم المرأة ودخولها سوق العمل” هي الأسس التمهيدية للعلمانية التي قال عنها فرح أنطون في القرن التاسع عشر: “لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية” [المؤلفات الفلسفية ص 160]. فعدم الخلط بين الدنيوي والديني هو حجر الزاوية في العلمانية. وهذا لا يعني معاداة الدين ورجاله، لكل إنسان حرية تعامله مع الله.

والعلمانية ترفع من شأن المواطنة وحقوق المواطن، مما يعزز حق الاعتقاد ويخلق روح التسامح في المجتمع: “الدين لله والوطن للجميع”. وعندما تكون الدولة غير علمانية تبرز الهويات الضيقة ويبرز التمايز الطائفي والتعصّب. ويجب التأكيد على أن الواقع العربي الراهن يريد أن يفرض علينا دولة الشريعة وحاكمية الله، اللتين نادى بهما سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وعباسي مدني ومحمد سعيد البوطي ويوسف البدري [الذي رأى أن الديمقراطية شرعاً ضد الإسلام] ومحمد يحيى [القائل: “إن العلمانية هي الذراع الأولى للتبشير الصليبي وليست إلا سلاحاً رئيسياً من أسلحة الاستعمار”]… وأعداء العلمانية يرون أن “السماء تقرر والأرض تنفّذ”، كما قال البرقاوي.

ومن ثم ينقلنا المؤلف إلى مقولتي الحرية والديمقراطية اللتين هما جزء لا يتجزأ من العلمانية. ويقول في هذا الشأن: “لقد أعلنت السلطة في الوطن العربي موت الإنسان حين ألغت من المجتمع وجود المواطن الحر، وبدل أن تتحول السلطة السياسية إلى عامل إغناء لفكرة المواطن الذي يمتلك حق الحرية في إنتاج السلطة تحولت إلى عامل قهر للإنسان”. ويرى أن المنطقة العربية تعيش حالة من الركود التاريخي بسبب تغوّل القمع المتمثل بالعسكرة والأجهزة الأمنية؛ ويقول: “إن كل سلطة تعاند التاريخ هي بالضرورة سلطة استبدادية”. والدولة الوطنية هي التي تؤمن بالتعددية الحزبية وبالجمعيات والمنتديات والمنابر والصحافة والإعلام… والديمقراطية هي النظام السياسي الوحيد الذي يجدد نفسه دائماً ويتطور بمنطقه الداخلي. والثقافة الدينية، في المحصلة، تغتني بقيم الحرية والمساواة والعدالة والحق، بكل معانيها المعاصرة.

وينهي برقاوي كتابه النفيس بالعودة إلى مسألة جدوى الفلسفة، ويرى أن ألفباء الفلسفة تقوم على فن التفكير، فن التساؤل، فن الشك، فن الحوار وقول لا. “الفلسفة وهي تحاول أن تحرك حصون الاستبداد المسوّرة باللغة الميتة وبالبندقية فإنما تشهر سيف التفكير الحر، والشك، والتساؤل وروح العالم، تزوّد الإنسان عندنا والذي هو في حال الرمق الأخير بترياق الحياة”. ومقارنة بين الإنسان العربي والإنسان الغربي يقول: “الإنسان العربي اليوم فاقد لإرادة الحياة، فاقد لأبسط الحقوق التي حصل عليها الإنسان الغربي، فاقد للحلم والآمال، فاقد لحرية التعبير، فاقد لحرية اختيار السلطة المعبرة عن مستوى تطوره، فاقد لحالة المواطن، بل للوطن في معانيه العميقة كوطن يؤمّن له الكرامة والخبز والأمن”.

وبعد هذا الاستعراض السريع لكتاب أحمد برقاوي “في الفكر العربي الحديث المعاصر”، أرى أن الفلسفة المعاصرة لا تخوض فقط في مسألة الكينونة والماهية والميتافيزيقا، بل تتصدى لمشكلات وتطلعات المجتمعات المعاصرة. وهذا ما سعى إلى تحقيقه أحمد برقاوي بنجاح، مقتفياً أثر فلاسفة الغرب في أيامنا كديريدا وهابرماس وبورديو وريكور…

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى