صفحات الثقافة

أحمد فؤاد نجم..وداعا

أحمد فؤاد نجم شاعر الغلابة… و”عدو” أنور السادات

بيروت – “الحياة”

غيّب الموت، صباح اليوم، الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم عن 84 سنة، من دون أن يكتب البيت الأخير من تداعيات “الربيع العربي” والثورة المصرية، هو مَن كان يُعد أحد أعمدة الثورات والاحتجاجات المصرية منذ أيام الإنتداب الإنكليزي.

طغى الشعر القومي والقريب من الناس على أشعار “نجم” الذي رافق الشيخ إمام في معظم أعماله للتعبير عن السخط والاحتجاج الذي تلا نكسة حزيران (يونيو) 1967، ما دفع الرئيس الراحل أنور السادات إلى إطلاق لقب “الشاعر البذيء” على الشاعر الذي لم يستطع أن يتوافق مع أي حكومة أو سلطة مصرية.

دخل نجم السجن مرات عدة، كما دخل في خلافات مستفيضة وعميقة مع كبار المسؤوليين السياسيين في البلاد في أكثر من مرحلة تاريخية، ومنها ما يحدث اليوم في مصر. وإبان انطلاق حملة “تمرد”، أكد على تمرده مرة أخرى، فثار على السلطة المصرية بقيادة الرئيس محمد مرسي. وعلق على ذلك، قائلاً: “طبعاً تمردت، وأتمنى منكم أن توقعوا على استمارات الحملة، فلو لم نتمرد نحن، من سيفعلها؟ الإخوان؟”.

ولعل هذا النفس الاحتجاجي في داخل نجم بدأ بين عامي 1951 و1956، عندما انتهت معركة السويس وقررت الحكومة المصرية آنذاك تأميم القاعدة البريطانية وكل ممتلكات الجيش هناك.

وقال نجم في مقابلة معه: “بدأنا عملية نقل المعدات، وشهدت في هذه الفترة أكبر عملية نهب وخطف شهدتها أو سمعت عنها في حياتي كلها. أخذ كبار الضباط والمديرون ينقلون المعدات وقطع الغيار إلى بيوتهم (…) فقدت أعصابي وسجلت احتجاجي أكثر من مرة (…) وفي النهاية نقلت إلى وزارة الشؤون الاجتماعية بعدما تعلمت درساً كبيراً، أن القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية. كنت مقهوراً وأرى القهر من حولي أشكالاً ونماذج (…) كان هؤلاء الكبار منهمكين في نهب الورش، بينما يموت الفقراء كل يوم، دفاعاً عن مصر”.

وعلى رغم مرور سنوات عدة، حفظ الجسد النحيل لنجم، حتى رحيله، آثار التعذيب التي تعرض له في أحد أيام 1959، بعد صدامات جرت في أحد أحياء القاهرة القديمة إثر أحداث العراق، عندما اتهم مع أربعة آخرين بالتحريض والمشاغبة وتعرضوا للضرب المبرح… إلى أن فارق أحدهم الحياة.

شكل دخوله السجن مدة 33 شهراً بتهمة اختلاس أمول محطة بارزة في حياته يصعب إغفالها، ومن ثم العودة مجدداً إلى الزنزانة مدة 3 سنوات بتهمة تزوير استمارات شراء، بعدما حاول الاعتراض على سرقات شهدها.

تحركاته الشعبية وتضامنه مع حقوق “الغلابة” ولغته العامية في الكتابة جعلته أقرب إلى الناس ومطالبهم، فاعترف به الكثيرون كأب لـ”ثورة الكلمة”، ما جعله يكتسب لقب “سفير الفقراء” من جانب المجموعة العربية لصندوق مكافحة الفقر في الأمم المتحدة.

وفاز نجم، أخيراً، بجائزة “مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية للثقافة والتنمية” الكبرى، تقديراً لتأثيره الكبير في عدة أجيال مصرية وعربية. وكان من المقرر أن يتسلم الجائزة في كانون الأول (ديسمبر) الجاري.

رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم… “سفير الفقراء” المصريين

القاهرة – محمد فتحي

سيطر الحزن على الوسط الثقافي المصري برحيل الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم الشهير بـ”الفاجومي” وسفير الفقراء الذي كان بحسب عدد من الشعراء والمثقفين “فارس الكلمة”.

قالت زوجته السابقة صافنياز كاظم لـ”الحياة”: “كان شاعرا كبيراً واسماً على مسمى إذ كان بالفعل نجماً في مجاله والنجوم تعيش بيننا ولن تغيب، حتى لو رحل بالجسد ستظل أشعاره بيننا ولن تموت، أعطاه الله موهبة فذة وحب شديد للوطن وكان طوال عمره يحلم بمصر المتقدمة المزدهرة”.

وأضافت:”أطلب من الجميع الدعاء له بالرحمة بقدر ما أعطى لمصر من حب وفكر وفن”، وأشارت إلى أن للشاعر الراحل ثلاثة فتيات من زوجاته الثلاث هن: “عفاف من وزجته فاطمة ونوارة ابنتي وزينب من أميمة عبد الوهاب”.

وقال الكاتب الصحفي سليمان الحكيم إن النجوم لا تموت في إشارة على قيمة أشعار الراحل أحمد فؤاد نجم، مشدداً على أنه ظل طوال حياته يدافع عن الحريات ونصيرا للفقراء والبسطاء، كما فضل الحياة البسيطة بالعيش سنوات عدة فوق أسطح أحد العمارات”.

من جهته، قال رئيس قناة النيل الثقافية السابق جمال الشاعر :” خدعنا نجم، يرحمه الله ظل في معاناة جسدية سنوات عمره ولكن كان يظهر في حماسة وحيوية وإطلالة على الشاشات ويتعامل بود مع الناس وكأنه شاب في ريعان شبابه على رغم أن الأمراض كانت كالسوس ينخر في جسده”. وأضاف الشاعر: “كان نجماً يحب الحياة والتواصل مع كل فئات المجتمع كل ذلك يفسر لنا معنى كلمة الفاجومي هي الوحشية في الفن التشكيلي ولكن نجم اخترع الوحشية وشيد مدرسة جديدة في الشعر العفوي البسيط”.

وتابع :” تمر أشعار نجم على كل المراحل ويعرفها المصريون واعتقد أنه شاعر الأجيال، في ميدان التحرير تغنى الشباب بشعره رغم فارق السنوات الكبيرة بينهم، ويمثل نجم في الشعر قيمة عبد الوهاب في الموسيقي”.

سفير الفقراء يرحل عن 84 عاماً

غيب الموت، الشاعر والمناضل المصري الكبير أحمد فؤاد نجم، صباح اليوم، عن عمر يناهز 84 عاماً. رحل “الفاجومي”، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً من المؤلّفات. نجم الذي ارتبط اسمه باسم الشيخ إمام، حلّ نزيلاً في السجون المصرية تسع مرّات، بسبب مواقفه من الحكومات المُتعاقبة وخلافاته مع كبار المسؤلين.

في العام 1962 التقى نجم برفيق دربه الشيخ إمام في حارة “خوش قدم” وسكنا معاً وأصبحا ثنائياً معروفاً إلى أن تحوّلت الحارة إلى ملتقى للمثقفين.

نجم الذي ظلّ حتى آخر يوم في حياته يؤكّد على إيمانه بالثورة، شارك السبت الماضي، وللمرة الأخيرة، في حفل أقامه “مركز دراسات وأبحاث اللاجئين في الأردن”. وقال إنّ “لا قوّة على وجه الأرض يمكنها أن تهزم الشعب المصري”.

ولد أحمد فؤاد نجم في 22 أيار العام 1929 في قرية كفر أبو نجم. بدأ العمل وهو في السادسة من عمره بعد وفاة والده محمد عزت نجم الذي كان ضابطاً في الشرطة المصرية.

تزوج مرات عدة. فاطمة منصور كانت زوجته الأولى، وأنجب منها ابنته عفاف. كما تزوج من الفنانة عزة بلبع والكاتبة صافيناز كاظم وأنجب منها ابنته نوارة. ثم من الممثلة الجزائرية صونيا ميكيو. وأخيراً من السيدة أميمة عبد الوهاب التي أنجب منها زينب.

تنقل بين وظائف عدة، من مصلحة سكة الحديد إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، ثم إلى النقل الميكانيكي.

وعُين موظفاً في منظمة تضامن الشعوب الآسيوية-الأفريقية، وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية. وفي العام 2007 اختارته المجموعة العربية لصندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة سفيراً للفقراء.

وفي 8 أيلول الماضي، فاز بالجائزة الكبرى لمؤسسة الأمير كلاوس الهولندية تقديراً لتأثيره الكبير في أجيال مصرية وعربية متعاقبة. وكان من المقرر أن يتسلّم الجائزة في كانون الأول الحالي.

تعرّف إلى عمال المطابع الشيوعيين في مدينة فايد على قناة السويس، وشارك في التظاهرات في العام 1946. وحكم عليه، في العام 1959 بالسجن 33 شهراً. وبعد إلغاء المعاهدة المصرية الإنكليزية، دعت الحركة الوطنية العاملين في المعسكرات الإنجليزية إلى تركها فاستجاب للدعوة، وعينته حكومة الوفد كعامل في ورش النقل الميكانيكي.

التقى في السجن الكاتب الروائي عبد الحكيم قاسم، وبدأ كتابة القصائد بعدما شجعه أحد ضباط السجن ونسخ له قصائده على الآلة الكاتبة وأرسلها إلى وزارة الثقافة المصرية، ففاز ديوانه “صور من الحياة في السجن” بالجائزة الأولى. ونشرت الوزارة الديوان العام 1962.

التقى بالشيخ إمام العام 1962، وكانت توأمة فنية بين الاثنين انتهت العام 1984 بعد رحلة قاما بها إلى باريس والجزائر وتونس ولبنان وسوريا واليمن. وعاد الشيخ إمام، بعد الجولة، إلى مصر وحده.

دخل الشاعر السجن تسع مرات، كان أطولها ثلاث سنوات في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي أمر بسجنه والشيخ إمام بعد صدور أغنيتهما “الحمد الله” التي هاجم فيها السلطات بعد نكسة 1967. وصدر الحكم عليه بالسجن المؤبد، الا أنه خرج من السجن بعد رحيل عبد الناصر. وتراوحت الفترات التي أمضاها في السجن بين أسبوعين وثلاث سنوات. وقد كتب نجم في ذكرى رحيل عبد الناصر الأخيرة في 28 أيلول الماضي في تغريدة على “تويتر”، “عمل حاجات معجزه وحاجات كثير خابت وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت”.

وفي تشرين الثاني 1977، قبض عليه ووجهت إليه تهمة تلاوة قصيدة “بيان هام” في إحدى كليات جامعة عين شمس، ثم أصدر الرئيس أنور السادات قراراً بإحالته إلى المحكمة العسكرية التي أصدرت عليه حكما بالسجن لمدة عام.

قبض عليه عام 1981، في بيت باحثين علميين فرنسيين وقد عقد هذان الباحثان مؤتمراً صحافياً في باريس نشرته جريدة “لوموند” الفرنسية، أعلنا فيه أنهما تعرضا للتعذيب في سجن القلعة. وقالا إن نجم تعرض أيضا” للتعذيب في سجن طرة، وفي السجن أعلن الإضراب عن الطعام حتى الموت إذا لم يفرج عنه.

عام 2004، وبعد تأسيس حركة “كفاية” صار من أبرز رموز التحركات الشعبية التي انتعشت في مصر. وكتب ضد جمال مبارك قصيدة لاذعة بعنوان: “عريس الدولة”.

وفي العام 2007، اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة سفيراً للفقراء.

أعلن انضمامه إلى “حزب الوفد” منتصف حزيران عام 2010 بعد فوز السيد البدوي شحاتة بانتخابات رئاسة الحزب. إلا أنه أعلن استقالته في منتصف تشرين الأول 2010.

وبعد ثورة “25 يناير” ساهم في تأسيس حزب المصريين الأحرار. في 8 أيلول 2013 فاز بالجائزة الكبرى لمؤسسة الأمير كلاوس الهولندية.

من أشهر مؤلفاته: سلام للأرض، نويت أصلي، الفرعون الأكبر خوفو، جائزة نوبل، صياد الطيور، كلمتين الى مصر، كلب الست، نوارة، إصحي يا مصر، الجدع جدع، الحمد لله، الخواجة الأمريكاني، جنوب لبنان، غيفارا مات، عريس الدولة، بيان هام، موال فلسطيني مصري، نكسون، يا عرب.

وداعاً أحمد فؤاد نجم/ ديمة ونوس

 كنت في الخامسة عشر عندما زرته بصحبة والدتي وأصدقاء والدي في “بيته”. يشبه أي شيء إلا البيت. على السطح، غرفة صغيرة (صومعة)، أذكر أن جدرانها متداعية. أو هذا ما علق في ذاكرتي على الأقل. وربما كانت تعجّ بالدخان. دخان سجائر أو حشيشة. وأحمد فؤاد يستقبل ضيوفه قائلاً: “أهلاً يا ولاد”. وتلك الأبوة لا تمتّ بصلة للأبوة التي يدّعيها الزعماء العرب في تعاملهم مع شعوبهم (إذ هل يعقل أن يسجن الأب أبناءه ويضربهم حتى الموت وحديثاً يقصفهم؟). نجم يحكي ويحكي. الكلام يخرج من فمه بسلاسة ودون عناء. يركّب الكلمات إلى جانب بعضها البعض فتخرج عبارات موجزة، بسيطة، غير متكلفة. سخرية ساحرة تغلّف كلماته من دون جهد. تخرج هكذا ببساطة. تكرّ مع القصص التي يرويها. كل القصص بلا استثناء تعلق في الذاكرة وتقفز بين حين وآخر من المخيلة لإغناء جلسة ما مع الأصدقاء. نجم قال كذا ونجم حكى القصة الفلانية وهكذا. كانت ابنته حينها لا تزال طفلة. ولا أذكر إن كانت تلك الطفلة هي نوارة التي سلبت اهتمام المشاهد العربي وإعجابه أثناء اعتصامات ميدان التحرير. روى كيف ذهبت إلى المدرسة للمرة الأولى تلك الفترة. وفي اليوم الثاني، راح يوقظها من النوم للذهاب إلى مدرستها. فاحتجت وثارت قائلة: “ما انا رحت امبارح! حا روح اليوم ليه؟؟”. وكان سعيداً بها سعادة تشبهه وحده. يحكي عنها كأنه يحكي عن غرام قديم. ثم استدعته مديرة المدرسة لتسأله عمن يكون حسين. أجابها أن حسين يكون خال البنت وهو الذي يصطحبها إلى المدرسة كل يوم. فقالت المديرة: أصلها كل صباح بتصيح والله لالعن دين أمك يا حسين.

وكم يلزم شاعراً كأحمد فؤاد نجم من القوة والصلابة والنبل ليرفض أي شكل آخر من أشكال الحياة. ذلك التخلّي الذي ينجّي الكاتب والمثقف من التبعية والاتكال، لم يعد ممكناً اليوم مع صعوبة الحياة والوضع الاقتصادي المتردّي واختفاء الطبقة الوسطى وما تعنيه من عيش كريم يحافظ على حد معقول من الاستقلالية والضمير. لكنه أحمد فؤاد نجم، الذي اختاره صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة، سفيراً للفقراء.

أحمد فؤاد نجم الذي لم يجيّر شعره لأحد. في عليّته المتواضعة حد البكاء. نُسبت إليه قصائد عن “الإخوان”، منها: ما أخبار مصر/ عروس بعد الثورة ضاجعها الإخوانجية.. وقبلها نُسبت إليه قصيدة شهيرة عن الرئيس المخلوع حسني مبارك: برغم إن صورك في كل الدواير/ وكل المداخل وكل المحاور/ ومليا الشوارع على كل حيط/ مطنّش علينا وعامل عبيط/ كأنك مفيش. كتب أخيراً تغريدة يقول فيها: السنة لهم أمريكا والشيعة لهم روسيا والملحدون لهم الله. أحمد فؤاد نجم الذي كان يصفه السادات بـ”الشاعر البذيء”، لم ينجُ أحد من قلمه. إنه شاعر الناس. لأنه ينتمي إلى الناس، إلى الأكثرية الساحقة المهمّشة التي تعيش بالحد الأدنى المتاح، لأنه يكتب عنهم ولهم بالعامية متخلياً عن النخبوية. أحمد فؤاد نجم، أتيحت له حياة أخرى. لكنه رفض. قاوم كل الامتيازات و”عطاءات” السلطات العربية الكريمة مع المادحين والمتملّقين، كي يبقى في علّيته يكتب ما يشاء، وقت يشاء.

تلك العلية، أذكر أننا صعدنا إليها على سلّم خشب هش وعتيق. وأذكر أن الوصول إلى بابها والدخول إليها كان بمثابة الولوج إلى عالم سحري ينتمي إلى الأساطير. روحه الطرية صنعت من جدران أربعة، عالماً متكاملاً، يشبه الشارع بكل أزقته وحكاياته وبؤسه، متصالح مع ذاته. وداعاً أحمد فؤاد نجم.

***

توفي الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم، رمز الشعر السياسي في العالم العربي، صباح الثلاثاء (3 ديسمبر 2013) في منزله بالقاهرة عن عمر 84 عاماً. ويعدّ أحد أهم شعراء العامية في مصر وأحد ثوار الكلمة واسماً بارزاً في الفن والشعر العربي.

بدأ كتابة الشعر في الخمسينات، وعرف في مصر في الستينات بقصائده السياسية النقدية المرتكزة على حس اجتماعي عميق تجاه الحرية والعدالة الاجتماعية، ما أدى الى اعتقاله أكثر من مرة في فترة حكم الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات. وأصبح من أهم الظواهر الشعرية السياسية بعد لقائه مع الملحن والمغني الراحل الشيخ إمام عيسى، وبات الاثنان معا من اهم ظواهر تظاهرات الطلبة في الجامعات المصرية مطلع السبعينات، إذ انتشرت أغانيهما في الوسط الطلابي وكان لها دور كبير في انتفاضة 19 كانون الثاني/ يناير 1979 التي أطلق عليها السادات اسم “انتفاضة الحراميه”.

واتسع نطاق شهرتهما في العالم العربي واصبحا معروفين لدى غالبية الشباب، حتى أن شهرتهما في البلاد العربية كانت اكثر اتساعا منها في بلدهما مصر. وفي العام 2007 اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة سفيراً للفقراء.

مصر تبكي “الفاجومي” قاهر الحُكام بسخريته/ سلامـة عبـد اللطيـف

القاهرة – توارت الأحداث السياسية والميدانية الملتهبة في مصر خلف نبأ وفاة شاعر العامية الأشهر أحمد فؤاد نجم، الذي لقّبه الكاتب الصحافي صلاح عيسى بـ”الفاجومي”، تعبيراً عن نقده اللاذع في شعره الساخر.

وشُيِّع نجم أمس بجنازة في مسجد صغير في حي الحسين وسط حضور سياسي وفنّي لافت، لكن جمهوره العادي كان الأكثر حضوراً، فالشاعر الكبير الذي نشأ في حارة “حوش قدم” في الأزهر لم يرد إلا أن يوارى في الثرى كما عاش في بساطة.

قضى نجم عن 84 عاماً بعد حياة حافلة بالنضال ضد الحُكام، فأقضّت كلماته البسيطة الساخرة مضاجعهم، خصوصاً بعدما تعرف على صديق دربه الشيخ إمام الذي غنى كلمات “الفاجومي” بعوده قبل حنجرته.

لم يكن نجم إلا ثائراً على الدوام، ولم يعرف “السلام” مع السلطة، بل اصطدم دائماً مع رأسها، وسخر من كل رؤساء مصر: جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي، لكنه أظهر تأييداً قبل رحيله لوزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي.

“الفاجومي” الذي عرف عالم “تويتر” مؤخراً، أثار الجدل بين مريديه بعدما عرّف نفسه على صفحته الشخصية بتدوينة كتب فيها: “السنّة لهم أمريكا والشيعة لهم روسيا والملحدون لهم الله”. هو رجل علانيته كسرِّه، لطالما شتم رؤساء ومسؤولين في لقاءات تلفزيونية على الهواء مباشرة، حتى أنه تلا قصيدة لمناسبة زواج نجل الرئيس المخلوع جمال مبارك سخر منه فيه لدرجة السباب، ومن بين كلماتها: “مبروك ياعريسنا حتكمل دينك وتطلع ديننا”.

كان نجم ناشطاً يسارياً قومياً منذ دخل الجامعة، وطالما ألهب تظاهراتها بأشعاره التي غناها الشيخ إمام، وتحول الرجلان ظاهرة خصوصاً بعد هزيمة مصر في حرب يوينو 1967 بعدما كتب نجم قصيدة “محلى رجعة ضباطنا من خط النار” التي حملت في طياتها تهكماً على الجيش، فزجّ به عبد الناصر في السجن.

سخر نجم من السادات أيضا في قصيدة “شرفت يا نيكسون بابا”، التي تناول فيها تحول مصر إلى التحالف مع أمريكا في عصر السادات، فعاد إلى السجن ثانية بتهمة “إهانة الرئيس”، وكتب في مبارك قصيدة “الفرعون الأكبر خوفو”، كما طالت سخريته اللاذعة الرئيس المعزول محمد مرسي الذي قال فيه: “يا أجهل شعوب الأرض اخترت ليه طرطور أرجوز في أيد مرشده شايل لقب دكتور”.

وتعددت زيجات نجم، ومنها زواجه من المطربة عزة بلبع، والكاتبة الصحافية صافيناز كاظم التي أنجب منها ابنته نوارة نجم، وهي واحدة من أشهر الناشطات السياسيين في مصر.

نعاه سياسيون وحقوقيون وفنانون كثر على موقع “تويتر”:

–        المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي: “عمال وفلاحين وطلبة يودعون اليوم صوتهم العفي النقي الجسور. وداعا شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم”.

–        رجل الأعمال نجيب ساويرس: “مع السلامة يا نجم. نور مصر وبطلها. هتوحشنى”.

–        الأديب علاء الأسواني: ” رحل نجم الشاعر العظيم. نموذج للمناضل الشجاع الصلب. أحد آباء الثورة المصرية. عاش ومات على العهد والمبدأ. رحمه الله بقدر ما أخلص لفنّه ووطنه”.

–        الناشط الحقوقي جمال عيد: “الله يرحمه بقدر ما عكّر على طغاة مصر”.

–        الفنان خالد الصاوي: “وداعاً أحمد فؤاد نجم صوت من لا صوت له”.

–        الناشطة اليمنية توكل كرمان: “أعزي الزميلة العزيزة نوارة نجم وأعزي الشعب المصري العظيم بوفاة الأستاذ الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم. رحمه الله فقد كان حاداً في صداقاته حاداً في خصوماته، عارض جمال عبد الناصر”.

أحمد فؤاد نجم: بهيُّ مصر

عنوان مقتضب على شاشات التلفزيون، سيكون لأعوام طويلة بداية الحديث عن “الفاجومي” الذي توفي فجر الثلاثاء عن حياة اقتربت من نحو 9 عقود من الجدل والصخب، لم يكن الشاعر أحمد فؤاد نجم، فيها مجرَّدَ شاهد شعري على تحولاتها و”انقلاباتها”، بل مشاركاً وأحد صناع الحدث في الساحات الواسعة، والميادين المضطربة، والزنازين الضيقة، حتى يواكب في 84 عاماً، تاريخ مصر الحديث، هو الذي اختصر نداءها في الشعر والغناء بـ “مصر يمه يا بهية”.

عاش نجم في طفولته وشبابه المبكر، الحياة “الدرامية”، التي تقتضي قدراً كبيراً من المعاناة، فكان التحاقه في سنِّ الخامسة بملجأ للأيتام البداية “الضرورية”، وأن يكون رفيق طفل منغمس في الشقاء اسمه “عبد الحليم حافظ”، ثمَّ يتمَّ سنَّ الرشد راعياً للبهائم، ثمَّ عاملاً في معسكرات الجيش البريطاني، وكوَّاء، ولاعباً قليل الحظِّ في كرة قدم، وبائعاً متجولاً، و”طرزي”، وبنَّاء، قبل أن تظهر بوادر موهبته الشعرية في كتابة أغنيات شديدة العاطفة في حبِّ ابنة عمَّته الغنية.

لم يقل عنه الشاعر الفرنسي لويس أراغون “إن فيه قوة تسقط الأسوار”، إلاَّ بعدما قهر “نجم” الظروف التي كانت “على أشكال ونماذج” وتراكم رصيده في التجربة الإنسانية، فهو الذي سيقود مظاهرات التمرُّد عاملاً في سكة الحديد ضد سلطة الاحتلال الإنجليزي، ويعتبر بوعي مبكر أن “القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية”, وأن “الفقراء وحدهم من يموتون دفاعاً عن مصر”.

سيسجن بتهمة تزوير استمارات في عمله الميكانيكي، ويقرُّ بذنبه، لكنه سيحتفظ بخطوط العودة إلى “المعتقلات”، منذ أن يصدر ديوانه الأول “صور من الحياة والسجن”، ويبدأ نجوميته الواسعة من أضيق مكان يمكن أن يعيش فيه إنسان على أهبة الحياة: السجن.

سيخرج إلى الإذاعة، ويكون شاعرها الأول في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حتى يتعرَّف إلى ملحِّنٍ ضرير “الشيخ إمام” في “حوش آدم”، ويعودا سوية ومراراً إلى المعتقلات في حقبة الناصرية الساخنة، ثمَّ في مرحلة السادات المتقلبة، ويكونا عنوان ثورة الخبز منتصف السبعينيات، محرضين”التلامذة على العودة”، ومنتقدين بصخب غنائي عصر الانفتاح الاقتصادي، والتقارب مع أمريكا، ومعاهدة كامب ديفيد، سيلتصقان أكثر بفئة الطلاب “الورد اللي فتَّح في جناين مصر”، ويصران على خوض الصراع حتى النهاية، فينال “الفاجومي”، دون إمام، من الرئيس المصري الراحل أنور السادات وصف “الشاعر البذيء”!

ستدبُّ الخلافات بين نجم وإمام، ويفترقان مثل كلِّ الثنائيات العربية، وينحسر إرثهما بأشرطة “كاسيت” تباع على أرصفة وسط البلد لـ “الغلابة”، ويخوض “الفاجومي” تجارب سياسية، عندما تتقلص مساحة الشعر في حياته، فيصبح عضواً غير فاعل في حزب الوفد، ثمَّ سرعان ما يتقدم باستقالته، ويكثِّفُ حضوره الإعلاميِّ في البرامج الحوارية، وتصبح تصريحاته اللاذعة المادة الصحافية الأكثر مقروئية، ويكرِّس عامه الأخير لمناهضة حكم جماعة الإخوان المسلمين، فهو الذي تنبَّأ بنهاية الرئيس المعزول محمد مرسي السريعة، واعتبر أنه الشخص الوحيد الذي سيعيدُ الجماعة 80 عاماً إلى الوراء، وهو ما حدث، فنام “الفاجومي” مستريحاً.

أحمد فؤاد نجم: المارد والعصفور/ سامر أبو هواش

بين اللحظات المشرقة لثورة 25 يناير، كانت استعادة الشارع المصري للثنائي نجم- الشيخ إمام، ولإرث غنيّ مديد يتجاوز الغناء والطرب والشعر بمعناه الكلاسيكي، إلى الانخراط الحقيقيّ بهموم الناس، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي بأسره.

حين استعاد المصريون هذا الإرث كان مضى زمن طويل على رحيل الشيخ إمام، إلا أن رفيق تجربته وكفاحه أحمد فؤاد نجم كان حاضراً، شارك الشباب تظاهراتهم وهتافاتهم وسهرهم في خيام ميدان التحرير، وكان حاضراً على شاشات التلفزة أيضاً، أمدّ الشباب بدم جديد ومختلف، بقدر ما استمد قوة وزخم جديدين من أولئك الشباب، حتى خلناه في لحظات كثيرة واحداً منهم، وقد أعادته الثورة نصف قرن إلى الوراء، فبدا بالفعل على صورته شاباً مفعماً بالعنفوان، مستعداً في الكثير من الأحيان إلى دفع الأثمان التي دفعها في مرات كثيرة سابقة.

لم يركب العم نجم مركب “التنظير” السياسي المتحجر والمقولب. كان يدرك جيداً أن ميراثه الحقيقي، وهو من يعرف جيداً تجارب عمالقة في العامية من أمثال بيرم التونسي ونجيب سرور وصلاح جاهين ممن تحولوا أيقونات حقيقية في الوعي الشعبي المصري والعربي المعاصر، يكمن – أي ذلك الميراث – في استشعاره الدقيق لوجدان شعبه وما يعتمل فيه من آمال وتطلعات، بقدر ما يختزنه من مخاوف وهواجس، لاسيما في العلاقة بالسلطة، وبالتالي كان نجم وعلى الرغم من حماسته الشديدة لثورة 25 يناير، من أكبر المتحمسين لثورة 30 يونيو، بل الداعين لها، لإسقاط حكم نظام رأى فيه نجم جميع المساوئ التي رآها في الأنظمة السابقة.

وقف نجم، ذلك المارد العنيد في قناعاته وفي حسّه الثوري الذي لا يعرف الانطفاء، والعصفور في رقته وجزالته وحبه لأهله وناسه (على ما تقول قصيدة نجيب سرور “البحر بيضحك ليه”)، ضدّ حكم الإخوان الذي رأى فيه الوجه نفسه للسلطات التي لطالما واجهها: رأى الكذب والنفاق واستغلال السلطة، لكنه رأى وجهاً آخر أكثر خطورة: استغلال الدين في السياسة. كان قد شهد رؤوساء “يتدروشون” أحياناً إرضاء للحس الشعبي، إلا أنها كانت المرة الأولى التي يرى فيها مثل هذا العمل المنهجي المنظم، وذلك التوظيف القميء للقيم الدينية في العملية السياسية.

رأى نجم شيئاً آخر جعله على الأرجح يكون بمثل ذلك الحسم في موقفه ضدّ الأخوان: كيف بدأت مصر تبتعد شيئاً فشيئاً عن محيطها العربي، وهو الذي لم يفصل يوماً، رغم مصريته المتأصلة، بين هويته كمصري وهويته كعربيّ. رأى الإخوان يقودون مصر إلى عزلة أشدّ قسوة من السابق، ورأى أن بعض القضايا الأغلى على قلبه، ولاسيما قضية فلسطين، أصبحت أكثر وهناً وضعفاً وخفوتاً في زمن الإخوان. فكان عليه أن يحمل جسده المتعب مرة أخرى إلى ساحة مواجهة جديدة مع النظام الإخواني.

يرحل نجم مخلفاً وراءه إرثاً كبيراً جداً من القصائد والأغنيات. الأرجح أننا سنبدأ باستعادة تجربته ورفيقه الشيخ إمام بصورة مختلفة ابتداء من الآن. كل القصص عن خلافات مع ذلك الرفيق، ستنحى جانباً الآن. وسيكون الصوت الوحيد صوت هذين الرجلين معاً، وهما يعلمان الأجيال كيف يكون لها هي أيضاً صوتها وقضيتها وانهماكاتها العامة. وإن كان نجم لم يشهد إلام ستفضي المرحلة الانتقالية في مصر، ولا ما سيؤول إليه دستور مصر الجديد في قادم الأيام، إلا أنه رأى للمرة الأخيرة – في 30 يونيو – قدرة الشعب على أن يقول لا، وعلى أن يعيد صنع ثورته وتصحيح مساره، للوصول إلى الوطن الذي يرتجيه، وهو في نهاية المطاف ليس إلا وطن أحمد فؤاد نجم.

رحيل أحمد فؤاد نجم.. السنة لهم أمريكا والشيعة لهم روسيا والملحدون لهم الله

القاهرة، مصر (CNN) — أكدت تقارير إعلامية وتغريدات من شخصيات عامة في مصر رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم، الشهير بلقب “الفاجومي” عن 84 عاما قضى معظمها وهو يخوض معترك الحياة السياسية بمواجهة مع السلطات قادته إلى السجن أكثر من مرة، وقد اكتسب شهرة إقليمية ودولية بعد الثنائي الذي شكله مع الشيخ إمام الذي غنى قصائده السياسية، وكانت آخر مقابلاته مع CNN بالعربية، تناول فيها الأوضاع بمصر والمنطقة.

وذكرت بوابة الأهرام الرسمية أن نجم وافته المنية صباح الثلاثاء، وهو من مواليد قرية “كفر أبو نجم” بمحافظة الشرقية، ويعتبر أحد أهم شعراء العامية في مصر رغم إقامته لسنوات في غرفة فوق السطوح بحي “بولاق الدكرور” الشعبي بالقاهرة، كما كتبت الناشطة السياسية المعروفة، أسماء محفوظ، على حسابها بتويتر قائلة: “البقاء لله.. عم أحمد فؤاد نجم في ذمة لله، ربنا يرحمه يا رب ويثبته ويصبرنا كلنا.”

وقد اختارت المجموعة العربية لصندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة نجم سفيرا للفقراء، وقد حافظ على نشاطه السياسي والأدبي حتى أيامه الأخيرة، إذ زار مؤخرا العاصمة الأردنية، عمّان، حيث كان لـCNN بالعربية مقابلة معه حول تطورات الأوضاع في بلاده والمنطقة.

وعرف نجم بلقب “الفاجومي” وهي كلمة عامية مصرية تصف الشخص الذي يعتمد النقد اللاذع وسيلة للتعبير، وقد استخدم بنفسه هذا التعبير في عنوان مذكراته. وتزوج نجم أكثر من مرة، وابنته نوارة نجم تعتبر من بين أبرز الناشطين السياسيين في مصر خلال السنوات الأخيرة.

ارتبط نجم بالشيخ إمام، بعد التعارف في حارة “خوش قدم” الشعبية، وسكنا معا لفترة أصبحا فيها أشهر ثنائي غنائي ضمن صفوف الحركات اليسارية والقومية في المنطقة، قبل أن ينفصلا، وسجن نجم في فترات مختلفة خلال مراحل الصدام بين السلطة والقوى اليسارية المصرية.

وكان نجم قد دخل خلال مراحل مختلفة من حياته بمواجهات مع القوى السياسية والفنانين المصريين، ساخرا من ممارسات بعضهم بأسلوبه الشعري القوي، وقد عرف بمعارضته للرئيس محمد حسني مبارك، وكذلك خلفه محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين، وقد كان له مؤخرا حساب على موقع تويتر قدم نفسه فيه بالقول: “السنة لهم أمريكا والشيعة لهم روسيا والملحدون لهم الله.”

من أبرز مؤلفات نجم قصائد مثل “يعيش أهل بلدي” و”هما مين واحنا مين” و”كلب الست” و”نيكسون” و” بابلو نيرودا” و”تذكرة مسجون” و”شيد قصورك” وهي بمعظمها قصائد غناها الشيخ إمام خلال سنوات شراكتها.

نجم: ماتخافوش على مصر والإخوان يغوروا

عمان، الأردن (CNN)– وصف الشاعر المصري، أحمد فؤاد نجم، الأحداث التي تشهدها بلاده حالياً بأنها “موجة ثالثة من الثورة”، إلا أنه شدد على قوله إن “مصر مامتتش” بوجود الشباب.

وأضاف نجم، في تصريحات مقتضبة لـCNN بالعربية الجمعة، عقب إحيائه أمسية  شعرية بالعاصمة الأردنية عمان، أن مصر لا يوجد فيها حكم عسكر، معرباً عن تفاؤله بمستقبل مصر.

وفي سؤال عما يوجهه من رسالة إلى جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، اكتفى بالقول: “خليهم يغوروا بقى.”

وأكد نجم تصريحات نسبت له بدعوته لوزير الدفاع المصري، الفريق عبدالفتاح السيسي، بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، وقال: “السيسي خليه للجيش وبس.”

وألقى نجم عدداً من قصائده الشهيرة، من بينها “حاحا”، وسط تفاعل لافت للحضور، وقدمت فرقة “الحنونة” الشعبية لوحات راقصة من التراث الشعبي الفلسطيني.

في الأثناء، قال الشاعر المصري في افتتاح أمسيته الشعرية، إنه “ليس هناك قوة على وجه الأرض تستطيع هزيمة الشعب المصري.”

وقال: “ماتخافوش على مصر، ولا على ثورة مصر، وبالتالي ماتخافوش على قضية فلسطين، ولا على قضايا الوطن العربي كله، والمجد للشهداء.”

وقال إن “الشعب المصري لقن درساً للصهاينة والأمريكان في الثورة المصرية”، على حد قوله، وأضاف: “أوباما كان بيتعلم على الفيسبوك، وقال للعالم: اتعلموا من الشعب المصري.”

وحيا نجم “شهداء” ثورة مصر، كما حيا الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وقال إن “النصر قريب من أعيننا.. الناس قلقانة على مصر.. عندنا الشباب دول شياطين.. ماحدش حيقدر يضحك عليهم زينا، احنا انضحك علينا.”

جاءت مشاركة نجم في الأمسية الشعرية بدعوة من مركز أبحاث ودراسات اللاجئين في عمان، بمناسبة ذكرى “اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، الذي يصادف 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام.

نجم القصائد المضفورة بالحرية

مارسيل خليفة

أحمد فؤاد نجم بنى جنته كما شاء، صاغها قصيدة قصيدة واستدرج ناساً كثراً إلى هذه الجنة كمستمعين حالمين، كعشّاق أبديين، كأرواح شاردة، يبحثون عن شيء آخر غير يقينياتهم، يبحثون عن ذواتهم في ذوات أخرى. عاش السجن والمنفى وكانت القصيدة تحميه وتعطيه قوة الألم للحلم، للصمود. قصيدة أحمد فؤاد نجم مخلصة لتلك الحرية المفقودة تحت سلطات لا تحصى، سياسية ودينية وأخلاقية، ولكنها قادته ليتجاوز هذه السلطات التي لم يعترف بها والرغبة الجارفة في لذة خلق شيء آخر غير اليقينيات.

جاء نجم إلى بيروت وسكن معنا في أرض الغبطة الكاملة في ليال يوسّعها الخوف من قذيفة عشوائية، وكان لديه سبب يحمله على ذرف القصائد والأغنيات لشهداء كانوا معه ومع الشيخ إمام في حفلات داخل قلب المدينة المشتعل. كان نشيج قصيدته المنبثق من آلام الناس هو الذي أنشأ رباطاً من الحب. وقد سعى هذا الحب بلقائي الأول بأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في الجزائر ولاحقاً في بيروت وتونس.

ولمّا تزل ذاكرتي معطرّة بطلائع القصائد والأغنيات التي عبقت بنا في كل المطارح والأمكنة توسّعها الأغاني المضفورة بالحب وآه لهذا الطرب الذي ما زال مقامه ندياً. وكم جلسنا معاً في منزلي بالمصيطبة في ليال مشتعلة بالغناء والحنين وبأحاديث مكسوة بالحب، والحرب تدور في الخارج بلا هوادة وقلوبنا تترنح، تبحث عن مخرج يؤدي إلى الخلاص.

ما أكثر ما أحببت أيها الشاعر وأنت تئنّ وتحنّ على دمعة في قصيدة. وخارج ذلك كان هناك وقت للمزاح وللحب لتؤنس ليلنا وتستطيب الغواية. كنتَ وحشاً في الفلاة، طليقاً كشهقة روح في جسد تعذّبه الوحشة. أعرف أن الوحشة في كل مكان تترنّح في سيل الأيام الصاخبة وأنت في دوّار شمسها حاجاً وحيداً من درب إلى درب، لتختفي في ظل قصيدتك في بحر هذا الصمت الصباحي. ذهبتَ لتبحث عن نجمة الحرية الضائعة في السماوات البعيدة وقد فقد عالمنا بفقدها فرصته الوحيدة.

أحمد فؤاد نجم، نحبك أكثر.

الثوري حتى اللحظة الأخيرة

طوني فرنسيس

مع أنه بدأ كتابة القصائد قبل أن يلتقي الشيخ إمام بسنوات طويلة، فإن أحمد فؤاد نجم لم يعرف النجومية سوى عبر ثنائية إمام – نجم التي منعت انفصالهما عندما حاول نجم القطيعة في عام 1984. لذلك يصعب على الأجيال الجديدة استيعاب أي فصل بين الرجلين مثلما كان صعباً على محبيهما في بيروت أن يتقبلا فكرة حلول عزة محل الشيخ إمام كمغنية لأشعار نجم.

كانت عزة إحدى زوجات نجم (تزوّج من ثماني نساء) وأراد في لحظة تخل إقامة «مشروع» فني معها بعد انتشار قصائده كالنار في هشيم الواقع العربي، إلا أن التجربة فشلت رغم حماس منظري اللحظات المواتية لها. وساعد صمت الشيخ إمام ورفضه التعليق على موقف صديقه في إعادة علاقتهما إلى مجاريها، خصوصاً أن الهموم التي تشاركاها وعبرا عنها، كانت – ولا تزال- اكبر من لحظة غرامية أو مشروع إنتاج فني.

منذ الأربعينات بدأ أحمد فؤاد نجم مسيرته «الفاجومية» الحرة. تأثره بالشيوعيين في تلك المرحلة لم يمنعه أن يصبح وفدياً لشهور عشية الثورة ضد نظام الرئيس حسني مبارك ثم مؤسساً في «حزب المصريين الأحرار» بعدها، وتصويته للرئيس محمد مرسي لم يمنع إعلان ندمه على هذا الخيار وصولاً إلى القول: «صوتي أصبح ثأراً بيني وبينه». لم يغرق نجم في التزامات ضيّقة تكبله، وحافظ باستمرار على تمرّد بلا حدود هدفه النهائي حرّية العرب و…استرجاع فلسطين.

كانت هزيمة 1967 وراء انفجاراته الشعرية المتلاحقة. صحيح أنه بدأ تجربة مشتركة مع إمام منذ تعارفهما في 1962 إلا أن الهزيمة هزتهما كما فعلت في الأجيال العربية، فانطلقا إلى هجمات لاذعة ستقودهما دائماً إلى السجن ودوماً إلى مزيد من الانتشار.

تبلورت تجربتهما في سياق نهوض وكبوات الحركة الوطنية المصرية والعربية في الأعوام 67 -77 بدءاً من قصيدة «الحمد لله» ضد عهد جمال عبد الناصر، مروراً بـ «مصر يما يا بهية» و»غيفارا مات» و»شرفت يا نيكسون»…وصولاً ، أخيراً إلى قصيدة «عريس الدولة» ضد نظام مبارك قبل شهور من تنحيه.

«عم أحمد» كما كان يحب أن يناديه الأصدقاء، بلغت فرحته الذروة مع انطلاق الثورة في مصر وبلدان عربية أخرى. استرجع قصة حياة أمضاها بين السجون والشعر والفن والزواج ولم ييأس من ظواهر شابت وتشوب حركات «الربيع العربي». ومع أنه وجه نقداً لاذعاً للواقع في قصيدته إلى الأمة العربية «التي دفنت كرامتها تحت التراب وهي حية» واعتبر أن مصر «عروس بعد الثورة ضاجعها الإخوانجية»، شدّد في حوارات أن «المكسب الحقيقي من الربيع العربي هو الشباب الحر الذي يشبه الورود والذي لا يخشى شيئاً». وقال أيضاً للشباب المصري والتونسي وغيرهم من شباب العالم العربي: «لا تخافوا الإسلاميين. غداً سيفهمون أين الصح وأين الغلط…والجيل الجديد من الإسلاميين سيكون مختلفاً ومتنوراً يعيش الواقع نفسه الذي نعيش». واختصر نجم الجواب في سؤال عن سورية بسؤال اعتراضي:» قولوا لي متى في التاريخ تمكّن حاكم من هزيمة شعبه»؟.

في 1984 حضر نجم وإمام إلى بيروت ليواكبا خروجاً من اجتياح 1982 وليبثا أملآ في شبيبة كبرت وورثت منهما الكثير تورثه بدورها لآخرين. ووصية بيروت للاثنين كانت أن يبقيا معاً، فبقيا رغم تقلبات الأزمنة وتهافت الكثيرين ممن احتلوا الواجهات على الاستثمار في اسم الثنائي الجميل أو في اسم أحدهما.

بقي نجم يقول حتى النهاية إن «الشيخ إمام رفيق عمري وهو كان كالعصفور الذي أخذ كلماتي ودار بها في الدنيا»، وعندما اندلعت الثورة نزل إلى ميدان التحرير صارخاً: « يا إمام ياحمار …كيف تموت ولا ترى حلمنا يتحقق …كنت أود أن نكون معاً لنغني هنا».

رحل نجم وسبقه الإمام وسيتوافر وقت طويل أمام الباحثين لكتابة كلام كثير عن الكلمة والصوت وأغاني الآمال والخيبات.

شاعر «الغلابة» والأجيال

القاهرة – سعيد ياسين

يملك شعب مصر من الإنسانية ما لا يملكه أي شعب آخر، مصر قوية مهما حدث والمصريون يتمتعون بالقوة، وهم استطاعوا خلال سنتين أن يغيروا نظامين، ويدخلوا رئيســـين السجن، ولو حدث هذا في أي دولة في العالم لحدثت مجازر كبيرة». هذه كانت آخر كلمات «الفاجومي» أحمد فؤاد نجم الذي غيبه الموت في السادسة من صباح أمس «الثلــثاء» عن عمر يناهز 84 عاماً، علماً أنه عاد إلى القاهرة من عمّان مساء الاثنين، كان في زيارة إلى الأردن للتضامن مع اللاجئين السوريين هناك، وكان يبحث عن تقديم مساعدة حقيقية تصل إلى مستحقيها.

كان نجم صوتاً من أصوات الشعب العربي المهمة، خصوصاً أنه سبح طويلاً ضد التيار واستطاع طوال الوقت الاحتفاظ بمكانة كبيرة في قلوب الشعوب العربية، وفي عيون سلطة جاءت عليه مرة، واضطهدته مرة، وسجنته مرة لعدم اتفاقه معها… وقد سجن مرات عدة بسبب مواقفه من الحكومات المتعاقبة، ودخل في خلافات سياسية مع كبار المســـؤولين في مصر، واستطاع أن يحفر لنفسه اسماً من ذهب خالص في قلوب الجميع من دون قرب من سلطان، أو عمل في مجلة أو صحيفة، أو مرتب من دولة، أو صحبة مع نظام.

تميز نجم بجرأته وقدرته اللامحـــدودة على الاخـــتلاف مع الجمـــيع فـــي كل وقت، وبكلّ مفردات اللغة التي تعودنا أو لم نتعود عليها، حيث كسر كل القواعد بدايةً من اللغة في شعر العامية للتعبير عن كل مفردة شعبية، قد لا يكون لها قيمة وسط شعراء يحتفون دائماً باقترابهم من الفصحى.

وعلى رغم أن ارتباطه بالسياسة ظلم روائعه الرومنطيقية، وهي كثيرة وفريدة بما فيها قصائده في حب مصر، إلا أنّ كثيرين يدركون أنه كان واحداً من أهم شعراء الرومنطيقية المصرية.

ولد نجم في قرية كفر أبو نجم في مدينة أبو حماد في محافظة الشرقية، في 23 أيار (مايو) 1929، لأم فلاحة وأب ضابط في الشرطة، وكان من بين 17 ابناً لعائلة لم يتبقَّ منها على قيد الحياة سوى خمسة. عاش طفولة صعبة بعد وفاة والده، والتحق عام 1936 بملجأ للأيتام في «الزقازيق» حيث قابل عبدالحليم حافظ، وخرج من الملجأ عام 1945 وكان عمره 17 سنة، ثم انتقل إلى شقيقه في القاهرة، وبعد ذلك عمل في معسكرات الجيش الإنكليزي، وتنقل بين مهن بسيطة منها ترزي، وفلاح، وعامل بناء، وعامل في السكك الحديد، وعلّم نفسه القراءة والكتابة وبدأت معاناته الطويلة تكتسب معنًى، واشترك مع الآلاف في التظاهرات التي اجتاحت مصر عام 1946.

بدأ نجم كتابة الشعر في الخمسينات من القرن الماضي، وعرف في الستينات بقصائده السياسية النقدية المرتكزة على حس اجتماعي عميق تجاه الحرية والعدالة الاجتماعية، ما أدى إلى اعتقاله أكثر من مرة في فترة حكم الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات. هكذا، أصبح من أهم الظواهر الشعرية السياسية بعد لقائه بالملحن والمغني الراحل الشيخ أمام الذي شكل معه ثنائياً معروفاً اشتهر بأداء الأغاني الشعبية التي حملت صبغة سياسية عكست روح الاحتجاج في الشارع المصري وتحديداً بعد «نكسة» 1967.

كان الاثنان بمثابة ظاهرة في حياة الجامعات المصرية وحركتها في مطلع السبعينات، واستمرّت أغنياتهما حتى رحيل إمام عام 1995، وانتشرت في الوسط الطالبي وكان لها دور كبير في انتفاضة 19 كانون الثاني (يناير) 1979 التي أطلق عليها الرئيس السادات اسم انتفاضة «الحرامية». واتسع نطاق شهرتهما في العالم العربي وأصبحا معروفين لدى غالبية الشباب، حتى أن شهرتهما في البلاد العربية كانت أكثر اتساعاً منها في مصر.

ألّف نجم أغاني كثيرة تعبّر عن رفضه للظلم وحبه الفياض لمصر، واستيعابه الكامل للواقع الأليم. ومن بين من غنوا أغانيه الموسيقي السوري بشار زرقان الذي ربطته به علاقة عمل استمرت سنوات، ومن أهم أشعاره كتابته عن «غيفارا» رمز الثورة في القرن العشرين، و«يعيش أهل بلدي» و «جائزة نوبل» و «الأخلاق» و «الخواجة الأميركاني» و «استغماية» و«الأقوال المأسورة» و «هما مين واحنا مين» و «البتاع» و«الكلمات المتقاطعة» و «حسبة برما» و «كلب الست» و «نيكسون جاء» و «بابلو نيرودا» و «تذكرة مسجون» و «شقع بقع» و«الثوري النوري» و «الندالة» و «ورقة… من ملف القضية» و «شيد قصورك». ومن أشهر ألقابه: «الفاجومي» و «سفير الفقراء» و«المناضل» و «رمز الشعر السياسي في العالم العربي» و«زعيم الأشاوس» و «شاعر الغلابة»، وكان يرى أن العامية أهم شعر عند المصريين «لأنهم شعب متكلم فصيح، والعامية المصرية أكبر من أن تكون لهجة وأكبر من أن تكون لغة، وهي أهم إنجاز حضاري للــشعب المصري» على حد قوله.

تزوّج الفاجومي أكثر من مرة أولها بفاطمة منصور التي أنجب منها عفاف، وبالفنانة عزة بلبع، والكاتبة صافيناز كاظم التي أنجب منها ابنته «نوارة»، وممثلة المسرح الجزائرية الأولى صونيا ميكيو، وأميمة عبدالوهاب التي أنجب منها ابنته زينب.

شهادات

لم تنقطع شهادات الإشادة بنجم حياً أو ميتاً وكان الشاعر الفرنسي لويس أراغون قال عنه: «إن فيه قوة تسقط الأسوار»، وسماه الناقد علي الراعي «شاعر البندقية»، واحتفت به مصر احتفاءً غير مسبوق طوال الساعات التي أعقبت رحيله، إذ امتلأت صفحات الثقافة والفن في الكثير من المواقع الإلكترونية بنقل خبر وفاته، الذي كان إشاعة طاولته في التوقيت نفسه من العام الماضي. ووضعت قناة «أون تي في» شارة سوداء حداداً على رحيله، وتقدم رجل الأعمال نجيب ساويرس ببالغ العزاء والأسى لأسرة الفقيد، منوهاً إلى ذلك في شريط الأخبار الذي يعرض أسفل الشاشة. وامتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» و «تويتر» بالكثير من التغريدات والتعليقات من محبيه وعشاقه في شتى أنحاء العالم العربي ومن مختلف المجالات، بحيث وصفه رئيس حزب التجمع السابق رفعت السعيد بأنه رمز من رموز مقاومة الفساد، وأشار إلى أنه جعل من شعره أداة قوية لمحاربة الفساد.

أما رئيس الحزب المصري الديموقراطي محمد أبو الغار فقال إنه شاعر مناضل، ويُعدّ واحداً من أسباب نجاح حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973. ونعته هند صبري على صفحتها الرسمية بقولها: «البقاء لله يا مصر… رحل صوت الحركات الطالبية… أحمد فؤاد نجم مات… عنصر كبير في تشكيل ثقافتي عن مصر لأن أبي من عشاقه… حبب الفلاح والعامل والأمي بالشعر، رحل قلم وصوت القوميـــين والاشتراكيين والحركات الطــالبية في الستينات والسبعينات، وقلم ثورة البارحة واليوم، صوت جيل، البقاء لله يا مصر، أنا حزينة». وكتب مصطفى بكري: «كان شاعراً وطنياً ينطق بلسان الشعب، مبدعاً في كلماته. كان شعاعاً ينطلق من جوف الظلام».

وكتبت الإعلامية ليليان داوود: «وداعاً أحمد فؤاد نجم، مع كل لقاء من ملعب الصفا إلى مهرجانات بيت الدين إلى اللقاءات الأخيرة في القاهرة، كنا وما زلنا نتسابق لحفظ أشعارك».

ونعاه الكاتب والمؤلف بلال فضل بقوله: «الله يرحمك يا عم أحمد، في الجنة ونعيمها بإذن الله»، ونشر فيديو يجمعه برفيق عمره الشيخ إمام في إحدى سهراتهما الفنية».

وكتب المؤلف براء الخطيب: «نجم الوطن والثورة والحركة الوطنية… رحل، أحمد فؤاد نجم… شاعر الوطن، ألقاك على خير، السلام أمانة لكل الصحاب اللي سبقونا يا أبا نوارة». أما الناقدة ماجدة خيرالله فكتبت: «وفاة شاعر كبير، ما زال قادراً على التغريد وغزل القصائد شعراً في عشق مصر، برغم سنوات عمره، يشبه سقوط شجرة معمرة كانت تظلل بيتك، وتمنحك زهوراً تملأ المكان عبيراً طيباً، مصر البهية، أم طرحة وجلابية، الشابة دائماً رغم المحن، بتقولك وداعا يا نجم».

قُدمت حياة أحمد فؤاد نجم في فيلم سينمائي عرض تجارياً عقب ثورة 25 يناير، وتناول أهم المراحل التاريخية والثورية في حياته، ونضاله في محاربة الاحتلال الإنكليزي مصر ومعاناته الظلم والقهر والقمع السياسي وعمليات اعتقاله وسجنه، وضم أهم القصائد التي كتبها ولحنها الشيخ إمام وتغنى بها، وقام ببطولته خالد الصاوي وصلاح عبدالله وكندة علوش وجيهان فاضل وفرح يوسف، أما التأليف والإخراج فلعصام الشماع. وكان المؤلفان محمد بركة ومحمد البرعي يعكفان على كتابة مسلسل تحت إشرافه يتناول قصة حياته في شكل موسع.

شاعر الـ «بلوز» الثوري بعود الشيخ

أحمد مغربي

فاجومي من جنسنا. ما لوه مَرَه سابت». قرأت هذه الكلمات لأحمد فؤاد نجم، في مجلة لليسار المصري في عام 1986. جاءت الكلمة التي تحوّلت عنواناً لفيلم عن نجم صنعه الممثل خالد الصاوي بعد «ثورة 25 يناير»، في قصيدة استغربتها. كانت وقوفاً شعريّاً أمام ضريح عبدالناصر «مين ده اللي نايم وساكت والسُكات مسموع/ سيدنا الإمام ولّا صلاح الدين/ ولا الكلام بالشكل ده ممنوع». استغربت أن يعتذر نجم من ناصر ويصفه بأنه «فاجومي من جنسنا». كرّ شريط سريع من الذكريات. ربما كان جيلنا أولاً في تفتّحه على شعر نجم، المُعارِض لناصر والمندد بتجربته وهزيمته الحزيرانية المدويّة. على أوراق وكاسيتات مُهرّبة، طُبِع ديوانه الأول «بلدي وحبيبتي – قصائد من المعتقل»، فكان نقداً شــــرساً للناصريّة ورموزها كافة، كوزير الخارجية أحمد الزيّات («يامرحرح خالص مالص/ يا رقيق جداً وسمين) إلى محمد حسنين هيكل (بصراحة يا أستاذ ميكي)، إلى وزراء المال والدفاع (أربعة يدخلون النار بشدّة: شمس بن بدران… وعباس بن رضوان… والمشير بن عامر… «عبداللازق بن المسبب). لم يغفر لناصر هزيمة الـ67 وضياع سيناء. وعلى عود المغني الشيخ إمام، نُسِجَ شعر نجم ليُغنى في ألحان متنوّعة، بعضها قلّد تراثاً موسيقياً، وأكثرها عزف في ما يشبه صيغة مرتجلة تشبه الـ «بلوز» وموسيقى الكاونتري، بصنعة المُغني الأزهري إمام. لم يرثِ ناصر في موته.

وخاض صراعاً مريراً مع السادات. سخر من وصوله إلى السلطة «يا واد يا يويو»، وانفتاحه على الغرب «فاليري جيسكار دستان»، ورفع الصوت عالياً ضد تقرّبه من أميركا «شرّفت يا نيكسون بابا/ يا بتاع الووتر غيت»، ومن علاقاته مع شاه إيران «هنا شقلبان/ محطة إذاعة حلاوة زمان/… أخويا الشاه بزرميط الإيراني» وكذلك مناوأته ثورة الخميني «دول شيعة وإحنا سنّة/ إيران فين ومصر فين/ عايزين يدخلونا نظام وِدنك منين».

وعارض مبارك وسخر من التوريث، ثم وقف ضد سلطة الإخوان، وكذلك نقد السيسي. لم تكسره السنون ولم تُخفه سلطة، مهما تجبّرت. كان «فاجومي» فعليّاً. «الاسم؟ صابر/ التهمة؟ مصري/ الجلد؟ حنطي/ القد؟ رمحي». تخيّلته دوماً رمحاً مصريّاً آتيّاً ربما من جيش رمسيس المقاتل ضد الهكسوس، وهي صورة جاءتني من تكرار قراءة رواية «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ. تصوّر كثيرون أنه ظاهرة عابرة، لجيل الستينات والسبعينات من القرن الماضي، خصوصاً في لبنان وسورية وتونس. لكن، الـ «بلوز – المصري» الثوري للثنائي نجم وإمام استمر، عابراً من جيل إلى جيل، كعبدالحليم حافظ وألفيس برسيلي والبيتلز. كان محظوراً باستمرار في مصر، ربما ما عدا أغنية «دول مين» التي أدّتها سعاد حسني، وفيها تحيّة لجيش العبور المنتصر.

في «ثورة يناير» ترددت أشعاره وأغاني نجم. كلمات «الورد اللي بيفتح في جناين مصر»، أبّنت شهداء ميدان التحرير. أخرجته الثورة إلى شاشات التلفزة، مع رعاية من صديقه نجيب ساويروس.

يبدو أن هواء العلن لم يلائم رئتيه اللتين تعوّدتا هواء السريّة والمعتقل، وكذلك لم تلائم شيخوخته التي قرّبته من كلماته «رغم انسدال الشيب ضفاير ضفاير/ من شوشتي لما لحدّ وسطي». يبقى أن حال مصر عند رحيله تُذكّر بكلماته «كلمتين يا مصر/ يمكن همّه آخر كلمتين/ حدّ ضامن، يمشي آمِن، أو مآمِن يمشي فين».

أحمد فؤاد نجم.. مصر الشاعرة

عباس بيضون

أحمد فؤاد نجم الراحل أمس شاعر كبير. نحن في العادة نتحسّس من أن نقول عن شاعر بالمحكية إنه شاعر كبير، لكن أحمد فؤاد نجم وقلة مثله أتاحوا لنا أن نقول ذلك باطمئنان واثق، هناك بالطبع تكنيات أخرى لأحمد فؤاد نجم. إنه شاعر الشعب وهو أيضاً شاعر الاحتجاج والتمرد، وهو، إذا ابتعدنا أكثر، مصر الشاعرة ومصر التراث ومصر الشعب، لذا نشعر حيال رحيل أحمد فؤاد نجم في هذه الأوقات بالذات بأن شيئاً من حياتنا نقص، بل نشعر نحن الذين عاصرنا احتجاج نجم، بأننا نطوي معه جزءاً من سيرنا الشخصية، إذ في كل منا طبعة من نجم وإيقاع، وأحسب أن كثيرين منا خامرنا أن ننزل إلى الشارع وأن نطلق أصواتنا بأغنية «مصر يمّه يا بهية».

تبدأ الحكاية بعد هزيمة حزيران 1967، كانت هذه ربيع الغضب والانكسار والكسوف والحزن المقهقه المغلوب، في هذه اللحظة ولد تحت فلك حزيران الخائب ثنائي من شاعر وموسيقي مغنٍ هو ثنائي الشيخ إمام عيسى واحمد فؤاد نجم.

تماهى الثنائي مع الجرح الشعبي والقومي والوطني، مزج بين راديكالية سياسية وخميرة تراثية فولكلورية شعبية، كان النقد السياسي في أرقى درجاته، يُقال بإيقاعات ومقامات موغلة في حياة الشعب وتراثه الفلاحي وفولكلوره الضارب في القدم وتلاوينه العامية وبلاغته الموروثة وتنويعاته النغمية وأداءاته العريقة وتاريخه الفني وأوزانه التاريخية. كل هذا التراث، بما أُنسي منه أو كاد أن يُنسى، بما تفرق وتشعّث في الأقاليم والمناطق، كان نصب عيون أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام بكل غناه وأطواره ومدارسه وبقاعه. كان تحت يد إمام ونجم، الأول يُغنيه والثاني ينظمه ويصوغه. هذا الغنى التراثي كان يتجدد ويترهّن وينسل ويتشقق عن روح جديدة وموضوعات ومقاربات وأجواء راهنة، لقد صبّ الثنائي في التراث المصري والشعبي الفلاحي دماً جديداً وجعلا منه، أي التراث، ليس ابن لحظته فحسب، بل ابن زمانه وساعته وعصره بكل ما في الكلمة من معنى، ولا أحسب أننا نجد فناً عربياً معاصراً بقدر ما نجده في شعر نجم وأداء الشيخ إمام.

يمكننا هكذا أن نقول إن أحمد فؤاد بتحنّكه الشخصي وتمرّسه بتراث شعبه ولغته قد قدّم حلاً لهذه الفجوة التاريخية التي تجعل الإرث الشعبي والتاريخي في تفاوت واضح مع مستجدات العصر، وتجعل الأخيرة منقطعة بالكامل عن تاريخ الشعب وكأنها من غير زمانه. هذا الحلّ الذي اعتمد المحكية الصادرة عن إرث حي أو ما زال حياً، قد يكون جواباً حراً على إشكال تاريخي. فأحمد فؤاد النجم المتمرس بالتراث إلى حد يجعله متلبساً له كان يسدّد دائماً إلى لحظات راهنة ويومية، بورتريهات ساخرة وغير ساخرة لأشخاص، تعليقاً مباشراً على أحداث، هجاء لفئات وطبقات، غناء وجدانياً مجروحاً لمصر وللمناضلين والشهداء. يمكننا أن نقرأ في شعر نجم يوميات مرحلة، وأن نجد فيه وثيقة تاريخية فهذا المرجع الفلاحي كان يوظف لأغراض غير فلاحية، بل هي أغراض جامعة ومدينية بهذا المعنى.

كنا نتعالى على الشعر الشعبي ونمجّ المباشرة والتحريض، فالمباشرة والتحريض يحوّلان الشعر إلى أمثولة وإلى درس وعظي. شعر أحمد فؤاد نجم الذي كان شعبياً بقدر ما كان مباشراً وتحريضياً، جعلنا نفهم أن المسألة ليست مسألة أساليب، إنها في الحساسية والأداء وزاوية النظر. شعر أحمد فؤاد كان أصيلاً في مباشرته وتحريضيته وحتى في شعبيته. لم يحوّل هذه إلى طلاء وإلى افتعال وإلى غناء براني، لقد كان حقيقياً فيها ونشعر فيها بجلده، بنفسه، بصوته.

كان الثنائي نجم ـ إمام منعطفاً فعلياً وليس فسحة عابرة. لا زال شعر الأول وغناء الثاني في خواطرنا وأفواهنا عند كل حدث وعند كل مناسبة، وما زلنا نجد في هذا الغناء وذلك الشعر نزيف قلوبنا ورعف وجداننا.

محمد علي شمس الدين: الحنجرة والفراغ

ملأ أحمد فؤاد نجم في أواسط القرن الماضي بحنجرة الشيخ إمام، الفراغ الشاسع الممتد من المحيط إلى الخليج، أعني الفـراغ التعبيري الشعري المتصل بالشـــعب، والــــذي هو بالــضرورة إنشادي، مباشر، حار، سياسي، اجتماعي، وشعبي مركزه مصر.

لم يكن بإمكان هذا الإنشاد النقدي والساخر لأحمد فؤاد نجم والضارب على الوتر اليومي لكل مواطن في همه وغمه وقهره أن يكون فصيحا. كان قدره أن يكون بالمحكية لغة الحياة اليومية وكان القهر الاجتماعي والسياسي واصلا إلى ذروته في مصر، يوم طلع أحمد فؤاد نجم من حنجرة الشيخ لينشد «حاحا وبقرة حاحا»، و«رجعوا التلامذة يا عم حمزة»، و«كلب الست»، و«بصراحة يا مستر فيكي إنك رجعي وتشكيكي».

وما أشبه من مقطوعات شعرية وموقعة على حنجرة المغني في زمن كانت عليه التربة المصرية بأمس الحاجة لمطر عام يرويها أو على الأقل يحميها من الموت بالقهر الاجتماعي والقهر السياسي.

يتلقف هذه الأناشيد جميع الناس من أهل بلده ويحفظونها ويعيدونها وهم يشيرون بالإصبع إلى كل واحد ممن يعنيهم نجم بالتلميح من سياسيين وصحافيين وأهل مجتمع. كان شعر أحمد فؤاد نجم كفضيحة كبيرة تقهقه في شوارع القاهرة، وصلت أصداؤها إلى كل بلد عربي.

ناس نجم ـ إمام فقراء كانوا، وعمالا وفلاحين وصيادين ومشردين في الشوارع ومنسيين في الترع وفي الغيطان، يعيش الكثير منهم فوق المقابر التي أسكنت آباءهم وسوف تأكلهم، وآخرون في المزارع أو المصانع أو الشوارع يكدهم العرق والجهد لينال الواحد منهم لقمة عيشه أو ما يستر به جسده العاري من حيث كان سادة المزارع والمصانع والشوارع يتربعون على عروشهم كما تربع الفراعنة فوق عظام بناة الأهرامات النخرة. في هذه اللحظة التاريخية بالذات من حياة مصر جاء صوت الثنائي نجم ـ إمام ليملأ بالحنجرة الإنشادية الفراغ المخيف، الفراغ المنذر بالزلازل والثورات، الفراغ الذي لا يمكن أن يملأه في روح مصر سوى هذا الإنشاد الذي يشبه هذه الروح تماما: قديم جدا وراهن، حزين جدا وساخر، بسيط جدا وماكر، موصول بأعصاب الناس الغلابة ولا يمــــكن أن يتلافاه الأسياد.

لا أنسى يوما سهرنا فيه مع أحمد فؤاد نجم في القاهرة، أذكر كان ذلك في الذكرى الخمسين لشوقي وحافظ في ثمانينيات القرن الفائت، قال لي عبد الوهاب البياتي يومذاك إننا مدعوان لسهرة شعر وطرب «والذي منو» في منزل نجم ذهبت على تردد بسبب مزاج خاص بي.

أذكر منزله تحت مستوى الشارع ولا أنـــسى ما كــــان يــــحدث أثــــناء وجودنا في المنزل من أمر عجيب. كان المــــارة العابرون في الشارع فـــوق، يتـــبادلون مع نجـــم وهــــو في منزله تحت، عبــارات الود والسخـــرية من دون أن يرده وهو بوجهه الأسمر الصعيــــدي المعروق وعيـــنيه اللامعتــــين كعيني هـــر سيامي في الظلام يوزع صوته وجســـده بــين الحـــضور وعلى طقطقات النراجيل.

 (عم احمد).. فلاح مصر الفصيح.. والملك الصعلوك.. يغادر محبوبته بلا وداع

رحيل ‘الفاجومي’ احمد فؤاد نجم يطوي مرحلة وظاهرة فريدة في تاريخ الشعر والسياسة

لندن ـ’القدس العربي’ـ من خالد الشامي: ‘الاسم: صابر. التهمة: مصري. المهنة: وارث عن جدودي والزمان صنع الحضارة والنضارة والامان). هكذا عرف نفسه في قصيدة بعنوان (تذكرة مسجون). اما الوصف الاحب الى نفسه فهو ‘حفيد الفلاح المصري الفصيح، ومواطن عربي منتهك الارض والعرض ومكبل ومطارد’.

انه ‘عم احمد’ او احمد فؤاد نجم الذي استيقظ المصريون امس ليكتشفوا انه غادرهم بهدوء وبلا وداع، بعد ان ملأ حياتهم شعرا وشغبا، ابداعا ودهشة وسخرية لعقود، هز خلالها عروشا واطاح ملوكا ، وكسر محرمات وقيودا، وايقظ ضمائر واشعل غضبا، وكان الثمن ان قضى سنوات طويلة من عمره وراء القضبان، الا انه حول السجن نفسه الى مصدر الهام، وكتب بعض احلى قصائده فيه، ليسجن سجانيه، ويثبت حقا انه لا يوجد من يستطيع ان يسجن مصر، كما قال في قصيدته من سجن القلعة الرهيب.

انه الفاجومي، الشاعرالملك الصعلوك، المتمرد على الزمن والنظام، وعلى نفسه، الذي يؤشر رحيله الى نهاية عصرالعمالقة، وطي صفحة ومرحلة وظاهرة فريدة، في تاريخ الشعر والنضال والسياسة والتاريخ في مصر والعالم العربي.

وكانت أولى قصائده المزعجة تسخر من عبد الناصر والنظام والجيش بعد حرب 1967 ويقول فيها: ‘يا أهل مصر المحمية بالحرامية.. الفول كتير والطعمية والبر عمار/ وان شا الله يخربها مداين عبد الجبار’، في إشارة إلى عبد الناصر الذي امر باعتقاله فورا، وان يبقى في المعتقل ‘طول ما هو عايش’.

و بعد نحو عام رحل عبد الناصر، ليفاجأ الجميع به يرثي الزعيم الراحل كاشفا عن حبه الشديد له، ثم يشن بصحبة رفيق روحه الشيخ امام عيسى، حملة ضد السادات اشعلت ثورة طلابية، وكانت وراء التعجيل بقرار الحرب ضد اسرائيل في العام 1973، ومن ابرز قصائده في تلك المرحلة (هما مين واحنا مين) وقال فيها (احنا الحرب حطبها ونارها. احنا الجيش اللي يحررها. واحنا الشهدا ف كل مدارها. منتصرين او منكسرين)، وعندما ا ندلعت الانتفاضة الشعبية في يناير 1977، اقتبس المصريون من قصيدته ابياتا وهتفوا ضد السادات (هو بيلبس اخر موضة، واحنا نسكن سبعة في اوضة)، فكان مصيره المعتقل مجددا.

وعندما جاء الرئيس الاسبق حسني مبارك، اطلق كافة المعتقلين السياسيين الا الفاجومي خوفا من لسانه، الا ان هذا لم يمنعه من مواصلة نضاله، حتى انتقد مشروع التوريث في قصيدة مشهورة بعنوان (عريس الدولة) .

رحل الفاجومي تاركا محبوبته التي هام بعشقها طيلة حياته، وكثيرا ما مرت علاقته بفترات من التوتر والاحباط وحتى الغضب الا انه لم يفقد ايمانه بها، وبدوره التاريخي كما كان يصفه: (مصر؟ انها شمعة غمرها النهر. كلما ساد الظلام تطفو على السطح لتضيء العالم).

قبل عدة سنوات، زارت ‘القدس العربي’ الفاجومي في بيته، وهو عبارة عن شقة متواضعة في الدور السادس (بلا مصعد) من مساكن معروفة باسم (الزلزال) في هضبة المقطم المطلة على العاصمة، وقد عرفت بهذا الاسم منذ بنتها الدولة لايواء منكوبي الزلزال الذي ضرب القاهرة في العام 1992، الا ان بيته لم يكن يطل الا على سوق شعبية للخضراوات بجانبها تلة كبيرة من القمامة تنبعث منها رائحة كريهة.

وبالرغم من وجود موعد مسبق، فقد وجدنا الفاجومي نائما، فهو كان يفاخر بعدم احترامه ليس فقط للمواعيد بل للزمن نفسه. ثم عرفنا انه كان مريضا بالانفلونزا، الا انه اصدر تعليمات مشددة الى ابنته زينب بأن تدخلنا فور وصولنا.

وبعد ان تناولنا كوب الشاي المقدس لمحت كتابا تحت وسادته، فإذا به (الاعمال الكاملة لصلاح جاهين) احد اقطاب الشعر العامي، وعندما سألته ان كان يقاوم المرض بأشعار (منافسه)؟ نظر الي، وكانت الاجابة محاضرة في فضل صلاح جاهين على الشعر العربي وعليه شخصيا كشاعر، اما خلاصتها الحقيقية فهي ان الشعراء العظام وليس انصاف الموهوبين او المدعين هم من يقدرون العظماء امثالهم.

اما المفاجأة التي ربما لايعرفها كثيرون عن هذا الرجل النحيف الذي اختار ان يكون الجلباب الريفي البسيط زيه المفضل، انه قارئ نهم من العيار الثقيل، فالى جانب الاثاث البسيط في الغرفة، وقفت شاهقة مكتبة ثرية تضم عددا من الكتب النادرة في الفلسفة والتاريخ والسياسة والدين.

وعندما سألته مازحا ان كان يمكن ان استعير احد تلك الكتب او (اسلكه) بالعامية، بمعنى ان اسطو عليه، اذا به يستنفر مستفسرا عن اسم ذلك الكتاب، ثم قال (ربما ممكن تقديرا لدور ‘القدس العربي’ اثناء حكم مبارك)، مضيفا (انني احترم صحيفتكم كثيرا لدرجة انني افكر ان اكتب عندكم).

كان (عم احمد) محبا للحياة والحرية بشكل مذهل رغم انه قضى زهرة شبابه في المعتقلات، ولم يمنعه ذلك من الزواج خمس مرات، ومن بين زوجاته المطربة عزة بلبع والكاتبة صافيناز كاظم، والممثلة الجزائرية سونيا مكويو. ورغم الفقر الذي لازمه منذ ولد في اسرة تضم ستة عشر اخا واختا، ثم التحاقه بملجأ الايتام في الزقازيق بالدلتا (الملجأ نفسه الذي نشأ فيه المطرب الراحل عبد الحليم حافظ)، حتى ان احدى الهيئات التابعة للامم المتحدة اختارته سفيرا للفقراء في العام 2007. كان شجاعا قاسيا امام الاباطرة، لكن دمعته قريبة كطفل امام المعاناة الانسانية، قويا رغم ضعفه بل وهزاله، يمضي نهاره مشيا على الاقدام، ينسى ان يتناول الطعام ليومين احيانا طالما ان كوب الشاي مع السيكارة متاح، ثم يعود الى طبق الفول الذي هو طعامه المفضل حتى انه ذكره في العديد من قصائده فضلا عن قصيدته المعروفة (موال الفول والطعمية). كان شخصا كالزئبق لايمكن العثور عليه بسهولة حيث كان يرفض ان يحمل الهاتف الموبايل، ومثالا اسطوريا لـ (ابن النكتة) الذي لا يكف عن السخرية من كل شيء واي شيء رغم حزنه. رأيته مرة يبكي ويضحك في آن عندما ذكرته بما قاله عندم طلبت منه ذات مرة ان يوجه كلمة في احد البرامج الى مبارك بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، وكان النظام في عز قوته، فإذا به ينطلق على الهواء: اقول لمبارك اتقي الله، انت تقترب من الرحيل الى العالم الاخر، والا هينجدوك (سيوسعونك ضربا) لما تروح هناك’ لينفجر الجميع في الضحك غير مصدقين ما قاله. كان ذلك قبل اندلاع الثورة، وقبل ان تمطر السماء في مصر (ابطالا وزعماء وثوارا) من كل نوع.

رحل عم احمد لكنه سيبقى للابد كما قال في مطلع قصيدته الاشهر (بهية): (عصفور محندق يزقزق كلام موزون وله معنى). نعم رحل بلا وداع وبلا رثاء رسمي، لكن محمولا في قلوب الشعب، ومحفوفا بروح التوق الى الحرية. وترك روحه وزقزقاته تحوم حول روح محبوبته، وهذه لن تموت.

آخر الخوارج.. لم يسعه العالم

أحمد ندا

ارتضى للشيخ إمام أن يستمر كصعلوك محترف

يا بحر قول للسمك طول ما الشبك فوقك

لا العشق كارك ولا رمل الشطوط شوقك

انزل قرار النجا واغطس.. ولاتقبّش

موج العلالي خطر في النوّ.. ومغبّش

داري على شمعتك وتحب ما تحبش

الصبح نور يا سمك.. واعشق على ذوقك

الانسياق وراء الرغبات قدرة لا يملكها كثيرون. حواجز كثيرة تقف على طريق إرادة الانفلات الكاملة كالمجتمع والأخلاق والدين والتعقّل. الحياة تستحق أن تُقتحم بلا اكتراث، تستحق الارتجال من دون النظر في العواقب، الخسائر دائما آتية على هيئة حسابات المنطق، والمنطق خدعة جذابة صالحة لتعليق الخيبات والكسل. الطريق نهايته حتمية –الموت- وأصحاب البصيرة وحدهم من يعرفون أن لا يبقى غير اقتناص اللحظات.

 على صهد الأرض السمرا أنا بويا النيل سوّاني

ممصوص وخشن من برّا زي الطينة الأسوانى

والخضره ف قلبي وقلبي دايما على طرف لساني

ولساني حصاني رماني وتعبنى كتير وأذاني

ياما جابني وياما وداني من قوله في الحكايات

على حسب وداد قلبي

عاش أحمد فؤاد نجم كما أراد، لا كما تظهره السيرة الرسمية كصعلوك فحسب، بل الرجل الذي وعى أن الحياة أقصر من أن تضيع في سياقات جماعية، فكان الفرد المتحرّر من قيود الجماعة، يطلق لسانه السليط بالأزجال والقصائد الحادة، في حين كانت الأخلاق البورجوازية تقدم “الفن الرفيع” و”الأدب الهادف” على كل ما سواه. لم ينس نجم ضرورة أن يخون هذه الأخلاق، أن يضعها تحت قدميه، أن يتجاهلها بصوته الأجش من السجائر والحشيش وهتاف التظاهرات. عاش نجم كأنه يعيش أبداً، ومات كأنه يموت غداً. قال ما أراد، خارجاً عن الدولة والسائد والمجتمع، نبذ المجتمع فاستقبلته الأرواح القلقة لطلبة الجامعة في نهايات الستينات وبدايات السبعينات بطريقته وطريقتها، حفاوة لا تعرف المؤسسة، هو لا يعرف المؤسسة، حين سأله وكيل النيابة في قضية “قلب نظام الحكم” قال: “إحنا عاوزين نعدّله”.

هاجم عبد الناصر بألم المحبّ. أحبّ عبد الناصر ككل أبناء التجربة الستينية. كان عبد الناصر بكل تسلّطه وديكتاتوريته أباً حقيقياً لهم. الأحلام الكبرى تليق بالصعيدي الذي نادى بالجماهير، وتغنّت باسمه الأمة العربية، لذلك جاءت النكسة كشرخ في بناء الحلم. كل شيء يمكن تحمله إلا هذا.. “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا – يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار”. لذلك بكاه بحرقة عند موته، وبكاه كل من ذاقوا زنازينه: “وإحنا نبينا كده/ من ضلعنا نابت.. أبوه صعيدي وفهم/ قام طلعه ضابط/.. فاجومي من جنسنا/ مالوش مرا عابت/ فلاح قليل الحيا/ إذا الكلاب سابت/ ولا يطاطيش للعدا/ مهما السهام صابت/ عمل حاجات معجزه/ وحاجات كتير خابت/ وعاش ومات وسطنا/ على طبعنا ثابت/ وإن كان جرح قلبنا/ كل الجراح طابت/ ولا يطولوه العدا/ مهما الأمور جابت”. نعم كل الجراح طابت.. فاجومي مثله والفاجومي هو المندفع كلمة آتية من خبايا معاجم الفصحى فلا يظن ظانّ بأن نجم بلا أسلاف عرب، هويته المصرية هي بِنت بُعدها القومي.. منح نجم لقبه “الفاجومي” لناصر، كما منحه محبته تامة من قبل.

 وناس تعيش بالبتاع

وناس تموت بالفول

وناس تنام ع البتاع

وناس تنام كشكول

آدي اللي جابه البتاع

جاب الخراب بالطول

لأنه حتة بتاع

مخلب لراس الغول

باع البتاع بالبتاع

وعشان يعيش على طول

عين حرس بالبتاع

وبرضه مات مقتول

على النقيض من ناصر، كان السادات وعاء سخرية نجم ومن يومه الأول. لم تكد تمر السنة الأولى على توليه الحكم، وبعد زيارة نيكسون لمصر إلا وسارع بـ”شرفت يانيكسون بابا” ولم يتركه في مناسبة إلا وذكره بلقبه “شحاته المعفن”. كان قاسياً في هجائه للسادات، ولما جاءت معاهدة السلام كانت غضبته وفرصته للهجوم العاتي على السادات ومن معه. قُربه من الحركة الطلابية جعله واحداً من أضلاع انتفاضة يناير 1977 والتي أسماها السادات “انتفاضة الحرامية”.. أحد عشر عاماً قضاها نجم في المعتقل بحكم ساداتي بعد سخريته منه ومن طريقته في الكلام.. الاستخفاف بإمكانات الرجل وتخوينه بعد المعاهدة جعلتاه لا يشعر بشفقة على اغتياله.. “عين حرس بالبتاع/ وبرضه مات مقتول”، من قصيدة “البتاع”، الأشهر والأكثر إيلاماً في هجاء السادات..

الحنين ف القرب بارح

والنوى جارح يا عزة

يا ابتسامة فجر هلت

بددت ليلى الحزين

يا ندى الصبح اللى شقشق

فوق خدودى الدبلانين

بل شوقهم

صحى لون الورد فوقهم

كل خد وشمله وردة

ومين يدقوهم غيرك انتى ومين سواكى

يا حياتى .. يا ملاكى

يا نسيم الحب لما هب هز القلب هزة

يا هوى الأحلام يا عزة

يتحدّث نجم عن نساء حياته كما يتحدث عن الثورة.. كانت النخبة مثل بدلة من الفولاذ، تفرض مقاساً ثابتاً للمحبة، الغواية ليست من مفرداتها. نجم كان شخصاً خارجاً عن المألوف، كذلك كان ارتماؤه في حضن الثورة والنساء، خارجاً عن المألوف، يحبّ وجود الناس في حياته، يحبّ تعامله معهن تدليله لهن.. أحبّ وجود الثورة في حياته وأحبّ تعامله معها.

وتزوج نجم مرات عديدة، أولها من فاطمة منصور وأنجب منها عفاف، ثم عزة بلبع والتي كتب لها واحدة من أرق قصائده، والكاتبة صافيناز كاظم وأنجب منها الناشطة والصحافية نوارة نجم، كما تزوج ممثلة المسرح الجزائرية الأولى صونيا ميكيو، وآخر زيجاته كانت أميمة عبد الوهاب وأنجب منها زينب. ومثل زيجاته كانت مشاركاته في الأحداث العامة منذ التحركات الطلابية النشطة في السبعينات، وانتفاضة يناير، والتظاهرات ضد نظام مبارك وولده، وأخيراً ثورة يناير 2011 وتوابعها.

 علاقته بالشيخ إمام، على غرابتها وفرادتها، كانت النقطة الأبرز في مشوارهما. ارتبطا معاً كثنائي خارج عن مألوف الأغنية الرسمية. لم تكن أغانيهما بنت الإذاعة بكل فلاترها الأخلاقية والسياسية، ولم تكن بنت المدينة المهذبة، الأغنية بنت الهامش متخلية عن تهذيبها، وآخذة جذرها من ثنائي سيد درويش وبديع خيري. ليست أغنية وطنية بمعناها المؤسسي التي تخرج من بين يدي مبدعي الدولة، أغنية بجملة لحنية قصيرة وكلام حاد يليق بهتافات الjظاهرات، ومن دون ماكينة الإعلام في تلك الأيام انتشرت أغانيهما حتى وصلت بهما إلى أوروبا. ومن بعدها خلاف أدّى إلى قطيعة حتى وفاة إمام.

خطوات الزمن الفارقة بين فوران نجم وغضباته، وطيبة إمام وشيخوخته وشعوره الممضّ بالغبن، وهو ابن فرقة الشيخ زكريا أحمد، مثله مثل سيّد مكّاوي، ولم يحظ بنجومية مكّاوي ولا مكانته إلا بين فصائل الهامش اليسارية في العالم.. أراد إمام أن يتنفس شيئاً من حياتهم وارتضى نجم له أن يستمرّ كصعلوك محترف، تقاطعا وانقطعا..

وكمن ترك لسانه عند قبر أحبائه، ترك نجم الشعر أو تركه الشعر إلا قليلاً، أغنيات لمسلسلات هنا وهناك بين الفينة والأخرى، لقاءات متلفزة يتذكر فيها “أيام شقاوته” ويعلن عن حبه “للنسوان” لكن نجم الفوار الزجال الذي لم يترك مناسبة ألا وحوّلها شعراً، كانت أصابته الشيخوخة.. الأمر الذي لم يصدّقه أحبابه، فكلما خرجت قصيدة سياسية فيها روح التمرّد نُسبت إلى نجم مباشرة، كتلك المكتوبة أيام مبارك “يا شعبي حبيبي ياروحي يا بيبي ياحاطك في جيبي يا ابن الحلال”. وظلّ كثيرون لسنين يظنّونها لنجم، والكثير من القصائد مرتبطة بثورة يناير التصق باسمه وتاريخه وصورته الذهنية، لكن نجم الذي تجاوز الثمانين كان على موعد مع الفرجة على جيل جديد يصنع تاريخه الخاص. اليوم يوقن الجميع أن نجم توقف تماماً عن كتابة الشعر.

مصر تشيع احمد فؤاد نجم ‘شاعر الناس′ محرض الجماهير وأيقونة الثوار.. ورمز الشعر السياسي في العالم العربي

‘القدس العربي’ ـ المحرر الثقافي: تبقى فكرتنا عن مصر ناقصة بدون أشعار الراحل الكبير أحمد فؤاد نجم، الذي لانبالغ لو قلنا ان المرء بحضور ‘نجم’ يشعر كما لو انه موجود في مكانين في الوقت نفسه، المكان الأول الذي صورته قصائده المتمرده حيث نقلت مصر الى أرجاء العالم العربي، والمكان الثاني حيث حكايتنا الاولى.

أحمد فؤاد نجم او كما يسمى ‘الفاجومي’ هو ابن اللحظة الثورية وملهمها، انتقد عبدالناصر والسادات ومبارك والاخوان وهاجم حزب الله اللبناني بعد تورطه في النزاع السوري. نزل الى ميدان التحرير، وتظاهر مع المتظاهرين، وانتخب محمد مرسي ثم ندم على انتخابه. كانت أخر كلماته لابنته نوارة وصديقه التاريخي محمد هاشم ‘خلي بالك من الميدان’.

تستعرض ‘القدس العربي’ في عددها اليوم شهادات عدد من الشعراء والأدباء العرب.

احمد مات

قاسم حداد ‘

(احمد مات،

لكي نتذكر انه كان حيا،

وهو من بين شعراء العرب في مصر، الذين منحوا شعر العامية في مصر روح ونكهة حلم التحرر العربي بامتياز، حيوية شعره جعلت القاريء ، فيما يقرا قصائده ، لا يكاد يتوقف لدى طبيعة اللهجة ولا جنسية الشاعر، ليس فقط للعلاقة التاريخية الاجتماعية العربية مع عامية مصر، ولكن خصوصا لان احمد فؤاد نجم كان يصدر عن واقعية الضمير العربي في الكتابة المصرية. هذه واحدة من العبقريات الحضارية التي كلما تمكن، او حاول، شاعر مثل نجم ان ينجزها في نصوصه، جاءت الإخفاقات السياسية والاجتهادات الخائبة لتخريبها او فتح العمل لانحساراتها، وها نحن نريد تفادي الخضوع لحسرتنا لفقد كبير مثل … نجم.

اخر خبر في الراديوهات)

‘ شاعر بحريني

في غياب نجم الشعر

د. عبد العزيز المقالح ‘

برحيل الشاعر الكبير احمد فؤاد نجم تفقد الامة العربية كلها، وليس مصر البهية وحدها، اشجع شعرائها على الاطلاق، ويغيب بغيابه نجم من ألمع نجوم النضال بالكلمة الصادقة المخلصة، المغموسة بدم القلب.

ويكفي انه صاحب الصرخة التي اطلقها بعد اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، وهي الصرخة التي استقرت في الضمائر، واعني بها ‘رجعت سينا ضاعت مصر’.

كانت قصائده القريبة من المشاعر، والتي تستقبلها الخاصة والعامة على درجة من الاعجاب والتفاعل تشكل نوعا من البيانات الوطنية الثورية التي تعكس مشاعر المواطنين، وتكشف بوضوح وشفافية عن احزانهم وآلامهم وتطلعهم لمستقبل جديد.

ويسعدني انني تعرفت عليه عند بداية ظهوره وانطلاق كلماته، كما حضرت عددا من الجلسات التي كانت تجمعه مع الفنان العظيم الشيخ إمام، وتابعت عن قرب كيف كان هذا الثنائي يثير قلق النظام وعصاباته، ويدفع به ـ في محاولات متلاحقة الى اسكات هذا الثنائي ـ بالسجن تارة والتهديد والتخويف تارة اخرى.

واللافت ان هذا الشاعر الكبير لم تكن كل الاجراءات التي تتخذها اجهزة القمع تزيده الا اصرارا وثباتا.

وما يستحق الاشارة اليه في هذه التحية ان احمد فؤاد نجم استطاع ان يقارب بلغته الشعرية بين العامية والفصحى وان يجسد في قصائده ما سماها بعض النقاد باللغة الوسطى، التي تحظى باهتمام المثقفين وعامة الناس على حد سواء.

عزاؤنا لمصر اولا، وللأمة العربية ثانيا، وللشعر نبض الجماهير ثالثا.

‘ شاعر يمني

الاستثناء

شوقي بغدادي’

احمد فؤاد نجم هو امتداد لبيرم التونسي ولفؤاد حداد ولصلاح جاهين، لكن في منحى اكثر شعبية ولذلك شكل مع الشيخ إمام في الستينات ظاهرة ثنائية نادرة في اختيار الكلمات الشعرية المناسبة للوضع السياسي مع الحان شعبية يسهل حفظها وهذا ما جعل منزل الشيخ إمام في تلك الفترة محجا لكل المثقفين والفنانين العرب الذي كانوا في ضيق من الانظمة السائدة في تلك الفترة.

لذلك يذكرني موت أحمد فؤاد نجم بواجبات كل فنان ومثقف ان لا يبتعد عن شعبه وعن نبض الشارع الحي في بلده تحت اي ذريعة كانت سواء باسم الحداثة او باسم الجمال الفني، لذلك انا حزين على نجم ،لانه برحيل هذا الشاعر ستنتهي ظاهرة تكاد تكون بلا امتداد حتى الآن، الا اذا فاجأنا الشعب المصري بشعراء وملحنين وأصوات جميلة قادرة على الاحتفاظ بالظاهرة الفنية الشعبية التي تزعمها بشكل عفوي الشيخ امام كمغن وملحن، واحمد فؤاد نجم كمبدع كلمات اصبحت سارية على الألسن اكثر من أي شعر آخر… هكذا يموت الشعراء.. يتركون وراءهم كلماتهم التي لا تموت. وكل شاعر يحلم بالخلود يجب ان يفكر جيدا بهذه الظاهرة المصرية التي جسدها أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام اروع وأجمل تجسيد جعلتنا نحن السوريين في الستينات نحيي اجمل اجتماعاتنا في البيوت والمقاهي ونحن نجلس ونستمع ونصغي بخشوع ومتعة الى الشيخ إمام يغني كلمات أحمد فؤاد نجم… اما الآن ونحن نعيش في ظروف اصعب من ظروف مصر فنكاد لا نجد نموذجا لأحمد فؤاد نجم معنا ولا الشيخ إمام.. لا يوجد الآن في سوريا المنكوبة من يقوم بهذا الدور العظيم الذي قام به الراحل فؤاد نجم.

‘ شاعر سوري

شاعر الاعتراض الثوري

هاني فحص ‘

علاقتي بأحمد فؤاد نجم تشبه علاقة كل شيء بهذا المعلم الفني والانساني، لهذا الناقد اللاذع الذي كان نقده وسخريته قمة في الجمال، وكل علاقة عامة يمكن ان تكون لها خصوصيات ..خصوصية علاقتي بنجم أني رجل دين ‘مشاغب’ بالمعنى المنهجي، فأبحث عن الاصوات الشعرية والفنية التي تلتقي مع ما يعتمل في داخلي من شعور معتق بالحاجة الى الحرية والخبز المغسول بالعرق، وهنا التقيت بأحمد فؤاد نجم مبكرا وقرأت ‘عزة’ ورأيتها وأتفقت معها على ان اكتب مقدمة لديوانه عن طهران، وانا أيضا صاحب تجربة مع الثورة الايرانية قبل الدولة وبعدها.

وانا شيعي لم اجعل من تشيعي فاصلا بيني وبين أي آخر مختلف وكتبت المقدمة ولكنها لم تنشر.

تقديري ان السبب هو أنني قلت ان كثيرين في تاريخنا النضالي الحديث يساريون بما قد يعنيه اليسار من انحياز الى العدل.. ولكن ليسوا شيوعيين.. واحمد نجم سواء كانت هناك شيوعية او لم تكن فسوف يكون معترضا لانه موجوع ولان موهبته هي الاعتراض.. يبدو ان ذلك كان سببا في منع النشر في زمن كانت فيه بقايا الستالينية مسيطرة على حيز من العقل اليساري لتحول المعرفة الى ايديولوجيا… مزيَفة ومزِيفة وكان أحمد فؤاد نجم في السجن وهذا زادني حبا له وقراءة لشعره وقراءة لمصر في عينيه وصوته وصبره وجسمه النحيل… وأورثت شعره لاولادي وبناتي فسلموه ايضا الى اولادهم وبناتهم وكنت على علاقة متينة مع زوجته السابقة صافيناز كاظم، والتقيت بنوارة وهي صغيرة، ورأيت أباها في عينيها.. وامها في في الآخرين.. تماما كمصر التي هي في عين أحمد فؤاد نجم عزة التي هي خلاصة مصر في العين، كما قال أحمد عندما أتاه زوار الفجر.

واكتمل شوقي الى احمد عندما التقيته قبل سنة ونصف تقريبا واكتشفت أن كلا منا في لحظة ما وكأنه يبحث عن الآخر.

والتقينا في قعر البئر التي ينبع منها الشعر والعلم والحب والايمان والوطنية والدين…

لست مدعيا ذلك.. أنا اقول ما يدور في وجدان جيلي والجيل التالي الذي استيقظ على احمد فؤاد نجم وكأنه قد كتب شعراً لتوه في ميدان التحرير. ولعل اجمل ما أردده في خلواتي وبعد صلواتي وعندما تهجم علي احلامي مضمخة برذاذ النيل ‘مصر يما يا بهية يم طرحة وكلابية’

‘الزمن شاب وإنت شابة.. هو رايح وانت جاية’

تماما مثلما كان محمود درويش يغني فلسطين في العالم فإن أحمد فؤاد نجم يغني مصر في بلاد العرب وفي احياء الفقراء في كل بلاد العالم وبكاؤه على غيفارا كان يدمعنا جميعاً.. وحتى لا اكفر فأنا احببت نهج البلاغة لعلي بن ابي طالب وقرأت سيرة عمر بن عبد العزيز والتقيت مع أحمد فؤاد نجم على صفحات هذا التراث من الانسانية والشفافية والاصالة…

‘ مفكر اسلامي لبناني

سر الخصوصية

خلدون الشمعة ‘

لا شك أن أهمية أحمد فؤاد نجم انما تكمن في تأثيره الشامل كشاعر شعبي استجاب للحدث استجابة لم تهمل شيئاً من التفاصيل. وهذا التأثير يمكن أن يوصف بأنه تأثير استثنائي بكل المعايير. فعلى الرغم من أن الشعر الشعبي، بلغته البسيطة القادرة على التوصيل، وعلى اختلاف نماذجه في اللغات الأوروبية، يتوجه عادة إلى جمهور من فئة عمرية واحدة أو متقاربة، فإن شعر أحمد فؤاد نجم، شأنه في ذلك شأن أقرانه بيرم التونسي وصلاح جاهين، يمتلك قدرة آسرة على التأثير والتحريك ذي الطبيعة الشاملة التي تجمع بين العامة والخاصة. وهذا هو سر خصوصيته. فبينما يتسم الزجل اللبناني بالتميز الجمالي المثير للإعجاب، فإن شعر نجم العامي بمضمونه السياسي الصاخب وبالتزامه الطوعي غير المفروض من قبل سلطة عليا، يمتلك خاصية التحريك الجماهيري الشامل. تلك هي الخصيصة الأبرز في شعر الفقيد.

‘ كاديمي وناقد سوري

من هنا مرّ نجم

ناصر فرغلي ‘

الوصف: واحد مِ العبادْ

شاعر، ولا (بانت سعاد)

في الحق أعند م العناد

والإسم: نجم احمد فؤاد.

حين كتبتُ هذه الرباعية لمشروع غنائي تلفزيوني في 2009، كان ما أدهشني هو ما انتهيت إليه في وصف أحمد فؤاد نجم، فهو فقط: أحمد فؤاد نجم.

لم تتفق مسيرة شعرية مع سيرة ذاتية في شاعر، قدر ما هو الحال في نجم وشعره. لم يكن مستغربا أن يكون الرجل وشعره الغنائي الأكثر حضورا في ميادين التحرير، مهما اختلفت وتوزعت حناجر الشبان على رؤوس أصولية أو ليبرالية أو يسارية أو فوضوية، كلها جمع بينها الغضب والثورة وأغاني إمام ونجم.

لعل نجم هو الوحيد الذي جعلته الأغنية شاعرا. فكل من عداه كانت رحلتهم في الطريق العكسي: من الشعر للغناء.

ولعل نجم هو الوحيد الذي بامتداد تاريخه حملت كلماته الأغنية على كتفها ولم تكن تابعاً خجولا للموسيقى والموسيقيّ المغني.

يبقى إنجاز نجم إشكاليا على الدوام، من حيث تراوحه بين الهجاء السياسي وبين الطموح الشعري، ومن حيث ‘مؤانسته’ لليسار العاجز المتناقض في نضال قعدات المزاج، بنفس القدر الذي كان يحفز به الثورة نفسها كفكرة نظيفة في صفحات أنفس بيضاء.

يكفي نجم أن نقول: من هنا مرّ نجم.

‘شاعر مصري

وداعا إلى حين

سميح شقير ‘

وداعاً أخي وصديقي ورفيقي في رحلة هجاء الواقع ورفضه بحثاً عن واقع اكثر عدالة وإنسانية وداعاً .. احمد فؤاد نجم .. وقد كنت شوكة في حلوق المستبدين .. صديقاً للفقراء .. جاعلاً من أكواخ مصر قامة في الروح تضاهي الإهرامات ، بشعرك العاري من المداورة والزيف أزحت الستار عن الم الناس وأحلام البسطاء ساخراً من السجون والسجان عميقاً كالنيل كنت .. وشامخاً كالمسلة ، وكنت صديقي الذي يشعرني بأن القاهرة بيتي وبان الشام تسكن في احداق القاهرة ، فوداعاً يا صديق العمر ولو الى حين .

‘ فنان سوري

شاعر النيلين

الصادق الرضي’

‘ألف رحمة لكل صاحب كلمة حق في وجه سلطان جائر’ كتبت هذه العبارة لأصدقائي على الفيس بوك، بعد مطالعتي باكرا لخبر رحيل الشاعر الكبير ‘أحمد فؤاد نجم’، لم أندهش وأنا أطالع موجات الحزن السوداني تنهمر على أثير ‘الشبكة الإلكترونية’ من مختلف أنحاء العالم، يحفظون شعره عن ظهر قلب، حفيّون بسيرته وسريرته، صديقنا الشاعر الكبير أزهري محمد علي لم يجد عبارة تسعف حزنه على رحيل نجم، فنشر على حسابه صورة جمعته مع الراحل في إحدى زياراته إلى القاهرة، ووجدتني أتجول محسورا ألتمسُ عزاءا في عبرات الأصدقاء.

كنتُ أنصتُ لآخر مقابلة معه على إحدى القنوات الفضائية، برغبة مستحيلة في تشرّب نبرات صوته وهو يقطرُ فخراً بشعبه الذي أنجز ثورتين خلال 3 سنوات، يتقطر حبّاً وإعزازا لشعبه ووطنه؛ ولم أفلح في كبح جماع دمعة حين صرح بأنه سيكون ضيفا على ملكة هولندا في العاشر من هذا الشهر لاستلام جائزة تستحقه وهو أكبر من أي جائزة.

ليس النيل وحده ما يشدُّ أواصر القربى بيننا ومصر، هناك أكثر من نيل يربط بيننا، وصوت أحمد فؤاد نجم الشعري جدول وجداني سرى إلينا، مثله صوت عبدالرحمن الأبنودي، وآخرين، ولنا في شعر ‘العامية’ جدوال قرّبت بيننا وعذب المنهل من هناك.

حين تعرف جيلنا على ثنائية (نجم/ الشيخ إمام) وعلى عبدالرحمن الأبنودي، عبر أشرطة الكاسيت المهربة، وبعض المجموعات الشعرية، كانت دكتاتورية (مايو)- عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، على وشك الإنهيار تلك التي ربضت على صدر الشعب السوداني نحو 16 عاما، تزامن ذلك مع ظهور أصوات شعرية بازخة، نسجت مجدها الشعري والثوري على نول ‘العامية’، والعامية عندنا ذات تعدد مثير، برز وقتها صوت الشاعر الكبير محمد الحسن حسن سالم حميد والشاعر الكبير محمد طه القدال، بجانب أصوات رائدة في ‘العامية’: محجوب شريف، عمر الطيب الدوش، هاشم صديق، وآخرين.

امتزجت تجارب نجم والشيخ إمام والأبنودي وقتها بتجارب القدال وحميد والفنان الراحل مصطفى سيد أحمد، على المستوى الثوري والشعري، وارتياد آفاق جديدة وجريئة في التعبير، عن نبض الناس وحياة الشارع؛ وتقاطعت حكايا السجن والمعتقلات، ومن بعد تمثُّل الزهد عن مغانم ‘النجومية’ الزائفة.

ليس حزنا عابراً، على رحيلك يا نجم، إنه حزنٌ متجذرٌ على رحيل جيل بدأت رايته تغربُ، برحيل رموزه واحداُ تلو الآخر، جيل عرف كيف يقبض على جمرة المبدأ، كيف ينضجُ الوعي بلا تكلف وادعاء.

وأخيرا: ( عارفين أنا فين/ أنا ساكن قلبي ومتونس/ بالناس والناس الونسه كتير/ ماليين القلب وشاغلينه/ سارحين في الدم/ وفي التفكير/ وجناين قلبي العمرانه بالناس/ الأزهار/ العصافير/ سايعاني وسايعه اللي باحبه/ وتساعي معايا/ رفاقه كتير/ شايفين انا فين ؟/ الشاطر فيكو يحزر فزر في دقيقتين/ والأشطر طبعا حيحزرها في غمضة عين/ أنا …… فين ؟)

‘شاعر سوداني

الشاعر الظاهرة

محمد الحاج صالح ‘

كم من الظواهر والقضايا ضاعت أو ضُيعتْ أو تكاد. تلك حال ظاهرة الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم.

لم يكن الشيخ ولا الشاعر معروفان في سورية أبداً عندما كنت أحضّر عام 1975-1976 لفحص السنة الخامسة في الطب في جامعة حلب، وأسمع لهما طوال الوقت. اعتدنا نحن الطلاب السوريين على الدرس مع الغناء. وكانت فيروز صاحبة الحظ الأوفى في الدرس معنا ثم أم كلثوم وحليم ثم بعض المطربين العراقيين الرجال طبعاً(!)

اليساريون والحداثيون أميل لفيروز طبعاً. كان الأمر كما لو أنه جزء من الهوية. ولوْ فيروز طبعاً كان الجواب اليساري. فجأة ظهر المنافس، أولاً حيياًثمكاسحاً.

وللتاريخ وبكل تأكيد أوّلُ من عرف السوريين على الشاعر والشيخ هو الأستاذ حميد الزنابيلي الذي كان يدرس في القاهرة ورفيق الحركة الطلابية في القاهرة. كان حميد يأتي بالتسجيلات ويحكي لنا في بحيرة من دهشتنا وإعجابنا، عن الحركة الطلابية المصرية. والأهم، أذكر، إعجاب ‘حميد’ وحماسه المعدي للعلاقة بين الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ وبين الحركة الطلابية. كنا نتخيل وهو يصور لنا قاعات الجامعات والساحات الجامعية والشاعر والشيخ والاعتقالات ‘وزوار الفجر’ المصطلح المصري الذي فرض نفسه على الساحة العربية من خلال الحركة الطلابية المصرية والشاعر والشيخ في قلبها. كنا نتخيل سهراتهم وغناءهم كلمات الشاعر وبصوت الشيخ، فنلتهبُ غيرة ةحماساً لأن نقلدهم. وقلدناهم.

وللتاريخ ومن الطبيعي أيضاً أن تنتشر كلمات الشاعر عبر صوت الشيخ في الأوساط المعارضة السورية الأكثر جذرية، أي في أوساط ماصار حزب الشعب لاحقاً وفي أوساط رابطة العمل ثانياً. ومن هذين الوسطين انتقلت العدوى. حتى إن أوساطاً لا تمت بصلة لأصل الاحتجاج والتمرد في كلمات الشاعر التقطت ما في الموجة من كسب جماهيري وشرعت تستمع وتتباهى بأنها تستمع، من أوساط الشيوعيين خارج الجبهة الوطنية إلى الشيوعيين ضمنها وإلى القوميين السوريين، وأخيراً إلى شبيبة النظام وإعلامه.

وبدأت الظاهرة تضيع وتتسع وتتميع. استفاد النظام من دعوة الشيخ والشاعر باكراً قبل أن يتوفى الشيخ. ويقال إن الشيخ عاد إلى مصر غاضباً من تصرف النظام السوري وإعلامه، وإن أول شرخ بين الشاعر والشيخ نشأ هنا.

ثم عاد الشاعر إلى سورية بدعوة من النظام أكثر من مرة. وكان هدف النظام توظيف كلمات الشاعر في الممانعة كبوق.

لكن الشعر يبقى شعراً حتى وإن مال الشاعر أو انتحر أو مات

‘ أديب سوري

صوت الانسان

هاشم شفيق ‘

الشاعر احمد فؤاد نجم كان شاعراً جماهيرياً بامتياز، وشاعريته حظيت بإعجاب قطاع كبير من الناس،لانها شاعرية تتمتع بجمال الشعر الراقي، ذي اللمسة الباقية وليست السريعة والمباشرة والآنية، بل كانت كلماته تغازل الابدية…

قصيدته قصيدة شاعر فنان التزم بالقضايا الانسانية، واصغى لهمومها طويلاً بحسه المتفرد حتى جسدها فنياً وجمالياً في قصائده، التي نهلت من واقع مترع بالتفاصيل اليومية للانسان المصري المتعب من ظلم الانظمة، والكادح المغدور والمطحون تحت وطأة الآلة الرأسمالية.. من هنا كان صوته صوتاً انسانياً عربياً ، غنى للحرية وللفكر المنطلق وللمظاهر الحرة، حتى اخترق صوته الأفق المصري ليكون شاعراً عربياً خالصا.. لقد ارتدى الجلابية ليقول انا جُبلت وجُلبت منكم يا ايها الفقراء..

لقد رأيته مرة في الدوحة في احد المهرجانات الثقافية وهو يرتدي هذا الزي الذي يشبه قصيدته..

لقد كان احمد فؤاد نجم، نجم القصيدة الشعبية العربية التي خاطبت الروح والهواجس والمشاعر الانسانية، لهذا فهو سيبقى حياً بيننا.

‘ شاعر وأديب عراقي

يا عمّي فؤاد

عدنان العودة ‘

يا عمّي فؤاد.

والبقرة حلوب..حاحا..تحلب قنطار حاحا..ودخلوا الخوجات..شفطوا اللبنات..

هكذا غنّيتك صغيراً يا عم..كنت في الرقّة على ضفاف الفرات البعيد..وذقتُ من عذب نيلك..لتصيغ من يومها نظرتي لحالنا العربي التعيس..

ومنذ شهر التقيتك في دبي..تسكعنا سويةً ليومين..في شوارعها..كنتَ كهلاً..بذاكرة بحار وبلاد وناس وشعراء وأغاني..

حدثتني عن جائزة الأمير كلاوس..التي كنت ستذهب إلى هولندا لاستلامها..في العاشر من هذا الشهر..

غير أن الموت أبى أن يمنحك هذه الفرصة..

لكل شعر روّاده وأساطينه وشبابه..أما أنت يا عم فؤاد فعم الشعر والشعراء..عم مصر والعروبة والناس..

إذ لا أعتقد أن أحداً يذكر مصر..دون أن يذكر قصائدك:

يا مصر يا حلوة يا بهية..أو..صباح الورد اللي فتّح في جناين مصر..

والبحر بيضحك ليه..وسايس حصانك..وأنا أتوب عن حبك أنا..

مصر مرآة قصائدك..وقصائدك مرآة مصر..

عمي فؤاد..يا فاجومي يا لاذع..يا مالئ الدنيا وشاغل ناسك..يا رفيق السهر والتجمعات والثورات..

تختلف كل التيارات السياسية في توجهاتها..وتتفق على تبنّي أغانيك..

حتى الاسلاميين..الذين كرهت وجدوهم في السلطة..نزلوا إلى شوارع مصر في مظاهراتهم..وغنّوا قصائدك..

أترى..أنك مُلك الجميع دوناً عن نفسك..

في حديثك لي عن الموت..قلت..كنت قد أجلّت موتي إلى أن تنتصر ثورة شعب مصر..

ومن ثم قلت لي..وهذه المرة أريد أن أؤجله إلى أن تلد ابنتي زينب وأرى حفيدي يبصر نور ثورة مصر..

وأن أزور الشّام..

يا أبو النجوم..

أناديك كذلك..كما يناديك صديقنا الموسيقي العراقي كوكب حمرة.. يا أبو النجوم..

ها قد أفل نجم حياتك..التي بدأتها فقيراً وأنهيتها فقيراً..

من ملجأ للأيتام..إلى شراكتك الفريدة مع الشيخ إمام..إلى سجون عبد الناصر والسادات..زادك رفضك للاستعمار والديكتاتورية وسعيك التنوير وتحقيق العدالة الاجتماعية..ومعاولك ومناجلك قصائدك الناقدة الساخرة..قصائدك الحواديت..الحوارات..اللاذعات..الرشيقات..اللاتي يسهل على أي امرأة أميّة أن تحفظهن وترددهن حتى وإن كانت في أقاصي حقول الصعيد..

الشاعر ضمير ومرآة عصره..هكذا يُقال..

وأنت كذلك حقّاً..أنت ضمير مصر ومرآة حياة ناسها..

أنت ديوان اهراماتها..وبياض قطنها..وهبة نيلها..

عمّي فؤاد..

يا أبو الأغاني والنجوم..

اليوم وقد رحلت..سقطت من سماء الشعر نجمة..

وأطلّ مكانها….قمرٌ من شعرك لا يغيب..

وجاءت الشّام بنفسها إليك…

‘ شاعر وكاتب دراما سوري

شاعر ضد الاستبداد

غازي الذيبة ‘

برحيل الشاعر الشعبي احمد فؤاد نجم، أحد اكثر شعراء العامية المصرية رواجا وحضورا في الوجدان الجمعي المصري والعربي، تتوقف نبرة القصيدة المضادة، المباشرة، الصاخبة، ويحتل فراغ غيابه صمت مريب، سيحتاج الى وقت شاق حتى يأتي يماثله في الحضور. حين رأيته قبل أعوام على شاشة التلفزيون يتحدث بطلاقة، ومن دون أي تردد أو خوف من الكلمات، كنت أرى شاعرا يمتلك طاقة استثنائية في تاريخ الشعر العربي، على هجاء الواقع، وعلى الفور كان يحضرني الشعراء الخارجين على نص المجتمع القار، سواء من المتمردين على انظمة الخلفاء والسلاطين والولاة، أو اولئك الخارجين على قانون القبلية من صعاليك الشعر العربي العظام.

وعبر سنوات حضوره الباذخة بالحياة والتقلب في مواسمها، سلوكا وشعرا، ظل نجم مخلصا لفطريته وفصاحته العامية، مسكونا بهموم الناس واحوالهم، واقفا على خط النار، مدافعا عنهم، حتى دفع من عمره، سجنا ومنعا وترهيبا، تغلب فيها على شياطين الاستبداد، بمكانته الرفيعة بين الناس البسطاء والمثقفين. كان حضوره في ميدان التحرير، واستقبال الثائرين على استبداد العسكر في الثورة المصرية، ووقوفه ليشدو بقصيدته صباح الورد، اكثر اللحظات اشتعالا في روح شاعر بقامته، وهو يرى الناس يشدون بكلماته قبل ان يقولها.

سيكون لرحيل نجم، الذي عاصر هزائم الامة واحلامها، وشدا لثوراتها، وغنى لشهدائها من البحر الى الخليج، وهجا مستبديها، محلا، لن يرتقيه الا من يمتلكون تلك القوة الضارية على الحلم بالامل والحياة. فوداعا لروح شاعر الفقراء والمهمشين والصباحات المعطرة بالامل، وطوبى لقلبه الحر،

الذي عاش به حرا طليقا، وما يزال صوته يتردد في الآفاق، حاملا الامل بتجدد الحياة في عروق الامة والشعوب المقهورة.

‘ شاعر اردني

الكلمة الملتزمة

زهير أبو شايب’

من المؤكد أن شاعرا بحجم أحمد فؤاد نجم سيترك فراغا كبيرا حين يغيب عن الساحة الثقافية العربية في مثل هذا الوقت الحرج بالذات. لقد كان نجم أحد الشعراء الذين حرسوا الشعرية العربية طيلة ما ينوف عن نصف قرن وأنقذوها من دعاوى الانفصال عن الواقع التي شاعت طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ففيما كانت القصيدة الفصيحة التي تزعم انها ذاهبة الى الحداثة تتورط في مقولات الاستعلاء عن طين الواقع وتنظيف نفسها من السياسة كانت القصيدة المحكية التي يكتبها نجم وقلة قليلة أخرى من الشعراء المصريين تتشبث بالواقعي والسياسي وسعت بقوة وعمق الى الالتزام بقضايا الكادحين والفقراء والمضطهدين.

لقد سجن أحمد فؤاد نجم لكل هذه الأسباب .. سجن من أجل مصر وسجن من أجل الفقراء وسجن من أجل العدالة والحرية ولذا ظلت قصيدته الناطق الرسمي باسم الواقع المصري .

لقد بدأ احمد فؤاد نجم تجربته الشعرية من السجن حيث صدر ديوانه الأول وهو في السجن ولذا ظل شاعر هموم الكادحين من بداياته ولا شك في أن غيابه سيجعل قضايا الفقراء والمقهورين تخسر صوتها الأول والأعمق في الثقافة العربية.

‘ شاعر فلسطيني

آخر كلماته ‘خلي بالكم من الميدان

حسام عبد البصير

القاهرة ـ ‘القدس العربي’:شيعت مصر امس جثمان شاعرها الكبير احمد فؤاد نجم احد ابرز معالمها الثقافيه الذي حفظ الملايين اشعاره والتي مثلت بالنسبه لهم وقود الثورة في سنوات القمع العربي إذ هتف بها طلاب الجامعات والمدارس وعمال المصانع في كل ازمة المت بالوطن..

وبعد اربعة وثمانين عاما هي سنوات عمره قدر لصاحب الجسد النحيف ان يوارى ثرى وطنه الذي لطالما انشد له حلو الكلام ومره على مدارستين عام..مثل الشاعر الكبير الظهير الرئيسي لليسار المصري في عالم الشعر وكانت كلماته هي الوقود والمحرك لثورة الخبز في 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977 حيث شكلت وقود انتفاضة الجماهير الحالمة بالخبز والحريه كما مثلت قصائده العمود الفقري في مواجهة اتفاقية كامب ديفيد التي ابرمها مع اسرائيل الرئيس انور السادات وبحسه الموغل في الوطنية ورشاقة كلماته نجح شعر ‘الفاجومي’ وهواللقب الاكثر االتصاقاً بنجم في التغلغل للطبقات الدنيا من المجتمع وبات يمثابة ملهم الجماهير على التمرد في مواجهة سياسة الانفتاح على الصعيد الاقتصادي التي اعتبرها الشاعر الراحل اكبر الاخطار التي قضت على تجربة عبد الناصر التي اتاحت نوعا من العدالة الاجتماعية للفقراء..

وبحسب صديقه وناشر دواوينه محمد هاشم فقد توفي احمد فؤاد نجم رمز الشعر السياسي في العالم العربي صباح امس في منزله بالقاهرة عن عمر 84 عاما وشيعت جنازته بعد صلاة الظهر من مسجد الحسين حسب وصيته .. ولد احمد فؤاد نجم في عام 1929، في قرية كفر ابو نجم بمحافظة الشرقية، لدى اسرة اهم مايميزها كثرة عدد افرادها وعرف مبكراً حياة الفقر والحرمان بعد وفاة والده ضابط الشرطة وامه ذاق طعم اليتم تم وضعه في ملجأ للايتام وهناك التقى بالعندليب الاسمر عبد الحليم حافظ . وخرج من الملجأ وعمره 17 عاما وعاد الى قريته ليعمل راعيا للبهائم وعمل بعدها في عدة اماكن بينها العمل في معسكرات الاحتلال البريطاني في مجال التشييد والبناء ..وقد خيم الحزن على الشارع المصري بجميع اطيافه ونعا العديد من الرموز نجم وقال عمرو موسى امين الجامعة العربية الاسبق في تصريحات خاصة للقدس العربي ان مصر فقدت اليوم احد اهم اعلامها الثقافيه وإنه لمن المحزن ان يرحل نجم قبل ان يشهد مولد الدستور الجديد للبلاد والذي لطالما انتظره معتبراً رحيله خسارة كبيره للعالم العربي بأسره واصفاً غياه بأنه كان احد اهم المحرضين على الثورات ضد البطش والظلم والفساد ..وبلهجة يغلفها الاسى نعى الامين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي للجماهير العربيه الشاعر معتبراً إياه احد موجهي الشارع واشار في تصريحات صحفيه إلى انه ‘أثرى الحياة الثقافية المصرية بأشعاره التي عبرت عن الهويه المصرية الأصيلة ضد الظلم والطغيان على مر العصور’ وتابع العربي ‘سيظل الراحل علما من أعلام شعراء العامية المصرية ورمزا للنضال والكفاح على مر الأجيال’ فيما كتب المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي مؤسس التيار الشعبي المصري عبر حسابه على موقع تويتر: ‘عمال وفلاحون وطلبه.. يودعون اليوم صوتهم العفي النقي الجسور..وداعا شاعر الشعب احمد فؤاد نجم’ وفي تصريحات خاصة للقدس العربي اكد الشاعر سيد حجاب ان احمد فؤاد نجم احد كبار الشعراء الذين نجحوا في ان يكونون بمثابة البوصلة التي توجه الرأي العام عبر اشعار مست شغاف قلوب البسطاء والمثقفين على حد سواء وقال الفنان عادل امام للقدس العربي هذا يوم غير جميل بالمرة ان نفقد احد شعراؤنا الكبار الذين علموا البسطاء حب الشعر وناضلوا لسنوات وعرفوا مرارة الحياة ونعى الفنان نور الشريف نجم مؤكداً بأنه أحد الأفذاذ الكبار في عالم الشعر داعيا لتخليد ذكراه ‘نجم هو ايقونه من أيقونات الابداع على الخريطه العربيه’ واكد المطرب محمد الحلو احد الذين غنوا من كلمات الراحل ان تأثيرغيابه سيكون كبيرا على الحركة الثقافيه واثني عليهفي تصريحاته للقدس العربي واصفا اياه بانه ظل محتفظا بقدره مدهشة وموهبةاهم مايميزها انها شابه حتى بعد بلوغه الثمانين وفي ذات السياق اثنى المطرب على الحجار على الراحل مؤكداً أنه فارس الثوره والمحرض على المقاومه ..وقد بدأ نجم كتابة الشعر في الخمسينات وعرف في مصر في الستينات بقصائده السياسية النقدية للسلطه والتي اخترقت القصور ولم يوقف صاحبها التهديدات ما ادى الى اعتقاله عدة مررات في عهد الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وانور السادات.. ومن المفارقات ان نجم ظل يثني على عبد الناصر حتى الايام الاخيره من وفاته بالرغم من انه قاده للسجن.

ويعد نجم من اهم شعراء العامية في مصر جنبا الى جنب مع الشعراء الكبار عبد الرحمن الابنودي والراحلين فؤاد حداد وصلاح جاهين وغنى له على الحجار ومحمد منير ومحمد الحلو وفتح بيت منزله المتواضع والذي كان يحلو له ان يطلق عليه مجلس قيادة السطوح بحي المقطم بالقاهرة للاجيال الجديده وظل دائما يمثل اليد الحانية على شباب الشعراء لم يبخل عليهم بالنصح والارشاد غير ان الانجاز الاعظم للشاعر الراحل تمثل في ذلك التعاون الذي جمع بينه وبين الملحن والمغني الراحل الشيخ امام عيسى حيث مثلت اعمالهما الغنائيه هي الوقود لمختلف مظاهرات عمال المصانع و الطلبة في الجامعات خاصة مع بزوغ فجر عهد الرئيس الراحل انور السادات مطلع السبعينات والذي واجه معارضة شرسه من قبل قوى اليسار الذي مثل كل من نجم وإمام اللذين كانا بمثابة الرافعة التي نقلت النضال اليساري من عالم الندوات الى الفضاء الواسع في ساحات الجامعات والمصانع واصبح اغنياتهما التي كانت تسمع سراص في المنازل هي الهتافات التي تشعل الصدور في المظاهرات التي كان يطلقها الطلبة والعمال خاصة في انتفاضة 19 كانون الثاني/يناير 1979 التي اطلق عليها الرئيس السادات اسم ‘انتفاضة الحراميه’ وتجاوز كلا الرمزين نطاق المحلية وباتا نجمين بازغين في سماء العواصم العربية حتى تلك التي كان الخوف هو العملة المتداولة فيها كما وجد نجم وصديق عمره الفرصه سائغه امامهما لموضع قدم لكلاهما على الخريطة العالمية عبر عملهما الكبير ‘جيفارا مات’.

وخلال عمله في مدينة فايد تعرف على عمال المطابع الذين يميلون الى الفكر الشيوعي فتاثر بهم وكانت وراء مشاركته مع الالاف من المصريين في تظاهرات عام 1946.

وقد تنبأ عبر تجربته الشعرية الطويلة بوصول قطار الحرية لمصر والعواصم العربية تباعاً وتوعدت قصائده الديكتاتورية وصناعها وظل مبشراً بالعدالة الاجتماعية والحرية والخبز. حرص نجم ان تكون ابرز ادواته الفنيه السخريه التي نال كل من تعرض لهم بشعره النصيب العادل منها ولم يقف عند حاجز معين وباتت قصائده تمثل مصدر ازعاج للجميع سواء السلطة اوالنخب السياسية كافه حتى حسني مبارك ذلك الديكتاتور الذي كان الكثيرين يسعون للتودد له لم يتخلى نجم عن اسلوبه وقوض منامه بقصيدة رددها المصريين عن نجله جمال مبارك بعنوان مبروك ياعريسنا مفردات شعبية بسيطة..وقد حصل الراحل على العديد من الجوائز العالمية والمحليه ومنهاالجائزة الكبرى لمؤسسة الامير كلاوس للثقافة والتنمية الهولندية تقديرا لتاثيره الكبير في عدة اجيال مصرية وعربية، وكان يفترض ان يتسلمها في 10 كانون الاول/ديسمبر وقالت المؤسسة الهولندية ان ‘منح الشاعر هذه الجائزة ياتي تقديرا لمساهماته واشعاره باللهجة العامية المصرية التي ألهمت ثلاثة اجيال من المصريين والعرب.

فقد تميزت قصائده بحس نقدي ساخر وبتاكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية’.

وفي عام 2007 اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة سفيرا للفقراء. ومن المفارقات ان الديوان الشعري الاول صدر له وهو في السجن وحمل عنوان ‘صور من الحياة والسجن’ من خلال مشاركته في مسابقة كان ينظمها المجلس الاعلى لرعاية الادب والفنون وتبنته الكاتبة المصرية سهير القلماوي وبعد خروجه من السجن اصبح من شعراء الاذاعة المصرية..وكانت كلمات نجم واشعاره حاضرة بقوه حيث سبقت حضور جسده النحيل لميدان التحرير حينما ردد الاف المتظاهرين كلماته في ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 التي اسقطت الرئيس السابق حسني مبارك كما لعبت تلك الاشعار بعد ذلك في 30 حزيران/يونيو دوراً بارزاً في اسقاط حكم جماعة الاخوان المسلمين ورحيل السابق محمد مرسي عن قصر الاتحاديه للسجن الذي سبق اليه مبارك ليكون احمد فؤاد نجم هو الشاعر الذي نجح بالورقة والقلم في اسقاط رئيسين خلال ثلاثة اعوام فقط.. ومن آخر كلمات نجم قبل ايام انه سعيد لان مصر سارت في الطريق نحو الحريه وتخلصت من جلاديها تباعا .. همس في اذن ابنته نواره نجم قائلاً .. معدتش خايف من الموت.. وداعب صديقه التاريخي محمد هاشم دامعاً .. خلي بالك من الميدان.. ‘

كلمتين إلى مصر

احمد فؤاد نجم

كل عين تعشق حليوة

و إنتي حلوة في كل عين

يا حبيبتي أنا قلبي عاشق

و اسمحيلي بكلمتين

كلمتين يا مصر يمكن

هما أخر كلمتين

حد ضامن يمشي آمن

أو مِـآمن يمشي فين

……………………..

شابة يا أم الشعر ليلي

و الجبين شق النهار

و العيون بحرين أماني

و الخدود عسل و نار

و اللوالي (اللؤلؤ) بابتسامتك

يحكوا أسرار المحار

يللي ساكنة القصر عالي

إيمتى يهنالي المزار

كلميني يا صبية

طال علي َّ الانتظار

كلمتين يا مصر يمكن

هما أخر كلمتين

حد ضامن يمشي آمن

أو مِـآمن يمشي فين

…………………

قصرك المسحور غيلانو

أغبى من دود الغيطان

بعد مص الغصن الاخضر

ينحتوا عضم العيدان

و اللي خلى الارض خضرا

و اللي خلى الدار آمان

عاش بجور ملو جوفه

مات بخوفه من الغيلان

طوّع الغلبان

ما قالش عن شقا العمر اللي كان

كلمتين بمصر يبقوا

هما أخر كلمتين

حد ضامن يمشي آمن

أو مِـآمن يمشي فين

………………..

أدي كلمة من عذابي قلتهالك

باقي كلمة

من حنيني صنتهالك

في الضلوع من دنيا ظلمة

كنت خايف يلمحوها

يقتلوها في سكة ظلمة

سقسقت و النور بشاير بشاير

زهرة الصبار يا سلمى

يا نسيم الشوق يا طاير يا طاير

خد لمصر في الصبح كلمة

طول ما يبقى الركب ساير

بالبصاير والعينين

يبقى ضامن يمشي آمن

يبقى عارف يمشي فين

آخر كلمتين

بيار أبي صعب

هذه المرّة «تجمّع العشّاق» أمام جامع الحسين. الجنازة البسيطة التي خرجت من المسجد القاهري، صوّرتها الكاميرات من كل الزوايا الممكنة. من يقول إن في هذا الصندوق الخشبي المرفوع على الأكف وسط آهات وهتافات خافتة، أحد أكبر شعراء مصر والعرب في القرن العشرين؟ وريث عبدالله النديم وبيرم التونسي، وأحد هؤلاء الذين أعطوا العامية المصرية فصاحتها إلى جانب فؤاد حدّاد وصلاح جاهين والآخرين. أحمد فؤاد نجم تكلّم بلسان الناس، وغنّى أوجاعهم، حمل هموم الفقراء وغضبهم وأحلامهم وعزيمتهم وفطرتهم وحسّهم الساخر. «شاعر الغلابى» الذي نبكيه الآن بصمت، شكّل وجدان أجيال، وأرّق مضاجع عظماء، بكلماته العارية، ولسانه السليط، ونقمته الهادرة، وضحكاته المجلجلة. قصائده عبرت العهود والمراحل، من «عبد الجبار» إلى «شحّاتة المعسّل»… من نكسة الـ 67 و«كامب دايفد»، إلى ثورة ٢٥ يناير ثم 30 يونيو. وكان قبل أربعة أيام فقط يبشّر من عمان بـ«ثورة ثالثة». لنقل إنها كانت وصيته. «كلمتين يا مصر يمكن/ هم آخر كلمتين».

«الفاجومي» الذي غيّرت رواية مكسيم غوركي الشهيرة حياته، ووضعه عمّال المطابع الشيوعيون على الصراط المستقيم، كانت له أمس جنازة تشبهه في هذه الأزمنة القلقة، المتأرجحة بين خيبة عقيمة وأمل عظيم. جنازة بلا فخامة رسميّة. ولماذا يحتفي الـ«ديابة» بالشاعر الصعلوك الذي كرّس عمره لمقارعتهم وفضحهم وتعريتهم والسخرية منهم، وبقي يتحدّاهم حتّى الرمق الأخير بأبيات جلفة كالمبرد، حادة كالسكين، وفي الوقت نفسه تنضح بلاغة ورقّة وعذوبة؟

84 عاماً أمضى منها 18 في السجن لم تكن ذلك العمر الكبير. لكن نجم شرب الكأس حتّى الثمالة، مسرفاً في التمرّد والعشق وملذّات الدنيا. قبل أشهر صرّح بأنّه لا يزال يشرب ويدخن ويحب ويقرض الشعر مثل ابن الخامسة والعشرين. في الحقيقة كان تمرّده هو عنوان شبابه الدائم، وانتمائه لطبقته وشعبه، وراديكاليّته في مواجهة اسرائيل والاستعمار، وعدائه الشرس للمتأسلمين، وجرأته على مقارعة السلطة، وانفتاحه على الشباب الذين كان يسرّه أن يقلّدوا قصائده وينسبوها إليه. إنّه أحد هؤلاء الخوارج الذين ماتوا كما عاشوا، منسجمين مع أنفسهم. كان ينبغي أن يسافر إلى أمستردام لاستلام «جائزة الأمير كلاوس» بعد أسبوع، لكنّه غيّر رأيه فجأة. فضّل أن يذهب ليتصالح مع رفيق دربه الشيخ إمام عيسى، ويجلس مجدّداً إلى جانبه في الصورة بالأبيض والأسود، تماماً كما في باريس 1984 خلال حفلة «الأماندييه» التي سبقت القطيعة. ونحن سنبقى نستعير صوته لنشتم الطاغية، ونبصق بوجه الظالم، وندافع عن المقهورين في الأرض، ونطلق الرصاص على المحتلّ.

أحب عبد الناصر رغم كل شيء: الفاجومي رحل قبل «الثورة الثالثة»

سيد محمود

القاهرة | خرج المثقفون المصريون ظهر أمس لوداع أحمد فؤاد نجم (1929 ــ 2013) من «مسجد الإمام الحسين» إلى «مقابر الغفير» في «السيدة عائشة». جنازة أرادوها شعبية على بعد خطوات من حوش قدم في الغورية، المكان الذي شهد الولادة الحقيقية لموهبة «الفاجومي». كان بإمكان خبر الموت أن يكون شائعة كما اعتاد انصاره، لولا أنّ مقربين من الشاعر، وعلى رأسهم الناشر محمد هاشم، أكدوا الخبر على صفحاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي فجر أمس حين توفي عن 84 عاماً، أمضى أغلبها مطارداً من السلطات. كذلك أكد التلفزيون الرسمي خبر الوفاة من دون تفاصيل أخرى، فيما تحدّث مقربون منه أنّ الوفاة جاءت نتيجة عارض صحي لم تتحمله شيخوخته. تحدّث مشيعون عن التوقيت الحرج الذي غادر فيه «الشاعر البندقية» الذي أعلن أخيراً أنّ مصر «ستعلنها ثورة ثالثة». أكثر ما لفت في طقس الوداع أنّ «الفاجومي» غادر مطمئناً إلى أمرين: الأول يتعلق باستمرار الثورة ممثلة في إصرار ابنته الناشطة نوارة التي بدت منهارة في التشييع أمس وجيلها، والثاني يتعلق بتكريسه شاعراً كبيراً، هو الذي عاش على الهامش، فصنع متنه الخاص. الأغرب أن يأتي هذا التكريس من الغرب حيث نال «جائزة الأمير كلاوس» الهولندية (الأخبار 14/9/2013) تقديراً لمسيرته التي ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب، وتميّزت بحس نقدي ساخر «بتأكيدها الحرية والعدالة الاجتماعية»، لكن الموت لم يمهله لتسلّمها في 11 من الشهر الحالي. مقابل هذا الاحتفاء العالمي، لم ينل نجم أي جائزة من الدولة التي نظرت اليه كشاعر «خارج عن النص» حتى سنواته الأخيرة. عاش حياة غير عادية بتعبير صلاح عيسى الذي أرّخ لحياته في نص متميز بعنوان «شاعر تكدير الأمن العام»، حيث تتبع تحوّل نجم إلى أيقونة مرادفة لمعنى الثورة الذي ظل منشدها، منذ أن قرّر الكتابة بالعامية على خطى أستاذه بيرم التونسي. هكذا، أفرز نصوصاً اعتمدت كلياً على النقد الاجتماعي والسياسي، وكانت أقرب إلى بيانات الهجاء منها إلى الشعر في بداياته الأولى.

وكان بإمكانه أن يظلّ زجّالاً لولا التحولات التي عاشها ودفعته إلى خوض تجارب خشنة سعى إلى تأملها في كتابات زاوجت بين الهم العام والخاص. ولد في 23 أيار (مايو) 1929 في قرية كفر أبو نجم في مدينة أبو حماد (محافظة الشرقية ــ دلتا مصر) بين 16 شقيقاً آخرين. بعد وفاة الأب الذي كان ضابط شرطة «مشاغباً أحب نجم لأنّه كان الأشد قبحاً بين إخوته» كما قال الشاعر مرة، عاشت الأسرة ظرفاً اجتماعياً قاسياً انتهى بالتحاقه بملجأ أيتام عام 1936 حيث تزامل مع المطرب الراحل عبد الحليم حافظ، ليخرج عام 1945. بعد ذلك، عاد إلى قريته ليجرّب مهناً هامشية كثيرة وضعته في أسفل السلم الاجتماعي في لحظة تاريخية مفصلية عاشتها مصر قبل 1952 مع احتدام التناقضات التي جعلت «ثورة يوليو» حدثاً ضرورياً أعطى لنجم فرصة اكتشاف حقيقة وضعه الطبقي.

خلال تلك السنوات، تعرّف إلى مجموعة من العمال الشيوعيين وفّروا له فرصة قراءة روائع أدبية تؤكد فكرة الالتزام التي لازمته طوال حياته، وأبرزها رواية «الأم» لمكسيم غوركي التي قال إنّها «ارتبطت ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته».

توّج نجم هذه المرحلة بالعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية طوافاً لتوزيع البريد في فضاء اجتماعي وجغرافي كشف له حجم التناقضات الطبقية في مصر، مدركاً أنّ القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية. بعد اندلاع ثورة ١٩٥٢ وصدامها الأول مع خميس والبقري عاملي «كفر الدوار» الشهيرين، واجه نجم للمرة الأولى عشقه للثورة بأزمة طاحنة تفاقمت مع صدام السلطة مع اليسار، إذ وجِّهت له للمرة الأولى تهمة التحريض على السلطات، وهي تهمة رافقته حتى نهاية الثمانينيات.

في تلك السنوات البعيدة، عاش صاحب «يعيش أهل بلدي» فترة شديدة التعقيد، إذ وجهت إليه تهمة الاختلاس، ووضع عام 1959في السجن 33 شهراً. وفي السنة الأخيرة له، أي عام 1962، شارك في مسابقة ينظمها «المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون» وفاز بجائزته، فصدر ديوانه العامي الأول «صور من الحياة والسجن»، وكتبت مقدمته الناقدة الشهيرة سهير القلماوي ليشتهر وهو خلف القضبان.

بعد خروجه، سعت الدولة إلى ترويضه. عيّنه الكاتب يوسف السباعي موظفاً في «منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية» على أمل استئناسه بـ«حظيرة الدولة»، غير أنّ تعرّفه إلى الشيخ إمام عبر المناضل سعد الموجي أدخله تجربة كانت الأغنى في حياته وصنعت هذا التحول الدرامي الذي وضع شعره على طريق الخلود ضمن تجربة استمرّت حتى عام 1984 مع الشيخ الضرير. قبل هذا اللقاء، لم يكن الشيخ إمام قد لحّن أغنيات خارج التواشيح الدينية، متابعاً فيها سيرة أستاذه زكريا أحمد، إلى أن أعطاه نجم أغنية عاطفية هي «أنا توب عن حبك أنا» التي يسمّيها نجم «البكرية» وكانت نقطة البداية في مشوار استمر ربع قرن، وشهد فترات مدّ وجزر. عاشا معاً في بيت صغير في حارة خوش قدم (معناها بالتركية قدم الخير) ودفعت بهما الأزمة السياسية التي عاشها النظام الناصري في علاقته بمعارضيه إلى تقديم أغنيات احتجاجية، واشتهرا كثنائي غاضب صاغ بالأغنيات خطابات الرفض والمعارضة للنظام الناصري بعد النكسة. وكانت أغنية «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا» التي سمّيا فيها عبد الناصر بـ«عبد الجبار» كفيلة بإدخالهما السجن وتمضية ثلاث سنوات وراء القضبان انتهت بالإفراج عنهما بعد وفاة جمال عبد الناصر. ورغم دخول نجم السجن تسع مرات، إلا أنّ الفترة الأطول التي أمضاها وراء القضبان كانت في عهد عبد الناصر، ومع ذلك فقد رثاه بقصيدة «زيارة لضريح عبد الناصر» وظل يدافع عنه أمام منتقديه. ورغم محاولات النظام الناصري امتصاص الظاهرة في قنواته الرسمية، إلا أنّ احتضان الحركة الطلابية المصرية للثنائي صان التجربة وتحولت أغنيات «بهية»، و«حاحا»، و«يا محلا راجعة ضباطنا»، إلى أقوى حزب معارض في مصر، وخصوصاً في عصر السادات الذي سمّاه نجم «شحاتة المعسل»، وتحول بعد هذا المسمى إلى «شاعر تكدير الأمن العام» بتعبير صلاح عيسى. لعبة القط والفأر مع النظام بلغت ذروتها خلال حكم السادات الذي سمى نجم «الشاعر البذيء». ثم نجح حسني مبارك في إبعاد نجم عن الصدام المباشر إلى أن جاءت «ثورة 25 يناير» وقرر الشباب أنّهم «الورد اللي فتح في جناين مصر». نزل نجم إلى التحرير في كل الأحداث التي صنعت تحولات هذه الثورة وردد خلف الشباب الكثير من أغنياته مع إمام، وصولاً إلى دعمه المطلق لعبد الفتاح السيسي. إذ أعلن تأييده لترشيح السيسي لرئاسة مصر وانتشرت صورته وهو يوقع على حملة «كمل جميلك» لتصيب الشباب المناهض لحكم العسكر بالذهول. لكن موته جاء ليغلق كل تلك الملفات، فاسترد «أبو النجوم» صورته وصوته كمنشد الثورة أو كما عبرت الناشطة بسمة الحسيني على صفحته على الفايسبوك: «لا أحد ينسى أنّه ظل شوكة في حلق أي نظام. مهما اختلفنا معه يكفي أنّه رفع صوته في وجه عبد الناصر في عز جبروته وبطشه، وفي وجه السادات في عز فجره، وواجه مبارك في عز صمت الشعراء والمثقفين».

على الصعيد الشعري لم ينل ما يستحقه من اهتمام نقدي جاد باستثناء مقالات كتبها نقاد كبار أمثال الطاهر مكي، وإبراهيم فتحي، وعلي الراعي. ظل شعره بعيداً عن الدرس الأكاديمي، وبالتالي خارج دوائر الاعتراف الرسمي التي كانت موضوعاً لسخرية الشاعر حتى بعد اتساع الهامش السياسي في السنوات العشر الأخيرة التي تحول فيها نجم إلى وجه تلفزيوني معروف. ثم جاءت «ثورة يناير» لتعطيه قدراً من الإنصاف. أعادت وزارة الثقافة إصدار أعماله الكاملة في طبعة شعبية وجدت رواجاً كبيراً، لكنها لم تسهم في وضع نصوص نجم في معمل الفحص النقدي حيث تميز بين الزجل المكتوب بغرض النقد الاجتماعي والهجاء السياسي وبين النص الشعري الخالص. في تجربة شعراء العامية المصريين، يقع نجم من حيث التصنيف العمري بين شعراء الستينيات، الجيل الذي جاء بعد الأب المؤسس فؤاد حداد وشاعر التحول الكبير صلاح جاهين. يُعَدّ نجم في طليعة جيل عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، ومجدي نجيب، وفؤاد قاعود، وهو أقرب في كتابته إلى الأخير. وفيما راهنت تجربة حداد على تخليص الشعر من زجل بيرم التونسي وإعطاء العامية مخيلة جديدة توازن بين تقاليد الشعر العربي الكلاسيكي ونزعة تجديد تنهل من الشعر الفرنسي، سعى جاهين إلى مواكبة حركة التجديد المتمثلة في شعر التفعيلة المكتوب بالفصحى مع كتابة مصدرها لغة الحياة اليومية تُعلي من النزعة البصرية، وهو أمر طوّره الأبنودي، معتمداً على تراثه الشفاهي الصعيدي وأضاف إليه حجاب بسعيه للبناء على منجز جاهين والإنصات إلى مهمشي قرى الصيادين. غير أنّ «الفاجومي» كان أقرب في روحه إلى تجربة فؤاد قاعود الذي كان يكتب رباعيات زجلية تستثمر روح النقد الاجتماعي لدى بيرم التونسي. لكن نجم ــ وهو شاعر مدينة بامتياز ــ أخذ هذه الروح إلى حدها الأقصى وأحدث تحولاً حين ربط هذا النقد بنمط من الهجاء السياسي شاع في لغة الحياة اليومية مع نزعة كاريكاتورية جعلت قصائده صالحة لتقدم في فضاء الأداء الدرامي كما نعرفه في قصائد «البتاع»، «شحاتة المعسل»، «موال الفول واللحمة». وهو الفضاء الذي مكنه من العيش والاستقرار في ذاكرة تعيد إنتاج أعماله في أشكال فنية كثيرة بفضل قدرته على التقاط نماذجه الدرامية بحسه الاجتماعي الساخر الذي جعل شعره لصيقاً بالناس أكثر من أي شاعر آخر بين مجايليه.

وإلى أن تحين لحظة وضع تركته تحت مجهر النقد، لا يمكن النظر إلى تجربة نجم من دون إدراك القانون الذي حكم نظرته إلى الشعر كفضاء لممارسة الحرية والتحايل على شروط الحياة ومن دون التأكيد أنّه شاعر الشعب الذي أكد في أكثر من مناسبة أنه تعلم من الناس، وراهن على أنّ مديح السلطان مصيره مزابل التاريخ، فحسم خياره وانحاز إلى شعبه حتى قال عنه الشاعر الفرنسي لوي أراغون: «إن فيه قوة تسقط الأسوار»، وسماه علي الراعي «الشاعر البندقية».

جنازة شعبية ونعشه على الأكف: بلّغ عمّي إمام أنّنا عملنا ثورة

محمد الخولي

القاهرة | سلك أحمد فؤاد نجم أمس «الطريق اللي ملهوش راجع» بعدما ودعه أصدقاؤه ورفاقه وتلاميذه، إلى مثواه الأخير في «مقابر الغفير». الطريق الذي سلكه نجم كان طويلاً. عن عمر يناهز 84 عاماً، رحل فجر أمس في منزله في المقطم. ورغم رحيله في هذه السنّ، إلا أنّ خبر وفاته كان مفاجأة للجميع، فالرجل لم يرقد يوماً، بل كان عائداً من السفر منذ ثلاثة أيام فقط بعد مشاركته في مهرجان تراثي في عمان، حيث تنبأ بثورة ثالثة في مصر قائلاً: «ما تخافوش على مصر. النصر قرّب من عينينا. الناس قلقانة على مصر. عندنا الشباب دول شياطين. ماحدش حيقدر يضحك عليهم زينا».

هؤلاء الشباب «الشياطين» الذين كان نجم يراهن عليهم طوال الوقت أصيبوا بصدمة غيابه التي بدت واضحة عليهم أمس أثناء تشييع جنازة «الفاجومي» التي خرجت من «مسجد الإمام الحسين»، وشارك فيها العديد من النشطاء والسياسيين مقابل غياب وزير الثقافة صابر عرب أو أي تمثيل حكومي أو رئاسي.

رفض المشيّعون إيداع جثمان الفقيد في سيارة الموتى، بل أصرّوا على حمل نعشه على أكتافهم حتى مدافن الأسرة في «مقابر الغفير» في «السيدة عائشة»، وأعلنوا إقامة عزاء له مساء أمس في «مسجد بلال بن رباح» في المقطم، وكذلك في «مسجد عمر مكرم» غداً الخميس.

صاحب القصائد الثورية التي كانت وقود شعارات «ثورة 25 يناير»، تنبأ بالثورة منذ السبعينيات حين كتب عن انتفاضة الـ 1979 يقول: «كل ما تهل البشاير/ من يناير كل عام/ يدخل النور الزنازن/ يطرد الخوف الظلام». وأرشيفه الشعري يؤكد أنّه «الفاجومي» الذي هجا الرؤساء وهم في عز عنفوانهم وقوتهم، فسجن في عهد الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، واستمرت انتقاداته للسلطة في عهدي حسني مبارك ومحمد مرسي، لكن من دون أن يتعرض للسجن في أي من العهدين.

ومن أبرز الشخصيات التي شاركت في تشييع جثمان نجم أمس مؤسس «التيار الشعبي المصري» حمدين صباحي، ورئيس «الحزب المصري الديموقراطي» محمد أبو الغار، والرئيس السابق لـ«حزب التجمع» رفعت السعيد، والقيادي في الحزب نفسه حسين عبد الرزاق، ومدير «المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» خالد علي، والسيناريست والصحافي بلال فضل، ومؤسس فرقة «اسكندريلا»حازم شاهين التي كانت تغني أشعار نجم، والمنتج محمد العدل، والشاعر زين العابدين فؤاد، وصاحب «دار ميريت» الناشر محمد هاشم، والمذيعة ريم ماجد، والشاعر تميم البرغوثي الذي كان والده الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي قد غرّد على تويتر قائلاً: «أحمد فؤاد نجم. ستظل تزعجهم من هناك. الوداع يا صاحبي»، إضافة إلى حضور عدد كبير من النشطاء السياسيين.

وأكد الحضور أنهم حضروا لتشييع نجم كواحد من أهم الشعراء، استخدم الشعر للتعبير عن البسطاء وهمومهم، وكان مناضلاً، عنيداً طوال حياته. وقال حمدين صباحي إنّ «عزاءنا الوحيد في رحيله أن أعماله ستبقى حاضرة فى كل موقف»، بينما قال خالد علي إنّ نجم «ظل يناضل حتى آخر يوم في عمره ودفع الثمن من عمره الذي قضاه في السجون».

وبينما بدت ابنته نوارة نجم منهارة ومذهولة وسط الحشود، كانت ناشطة مشاركة في التشييع تبكي وهي تقول: «بلّغ الشيخ إمام يا نجم إنّنا عملنا ثورة، واتبعنا من كل الناس واحنا مبعناش». نجم هو الآخر لم يبع كلماته على مدار تاريخه. كان حاضراً بكلماته اللاذعة، وقصائده الثورية، أميناً على الكلمة «بذيئاً» كما وصفه السادات.

في خوش قدم… بدأت الحكاية

مدحت صفوت

القاهرة | فؤاد نجم والشيخ إمام… مَنْ يحسدُ مَن على الرحيل؟ السؤال يفرض نفسه بعد وفاة الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، واهتمام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة بنبأ رحيل «شاعر الثورة».

حين توفي الشيخ إمام في السابع من حزيران (يونيو) 1995، لم تهتم وسائل الإعلام الرسمية بالنبأ الجلل. وبالطبع، تجاهل التلفزيون الرسمي الخبر، ولم يلق بالاً برحيل «مطرب الشعب». اكتفت صحيفة «الأهرام» بزاوية صغيرة ونعي لم يتجاوز سطرين؛ إذ نشرت: «المغني الكفيف الشيخ إمام (78 عاماً) توفي أمس. كان يعاني من السكر، وكان الشيخ إمام قد اشتهر بعد نكسة عام 67. وقدم العديد من الأغاني النقدية التي كتبها له أحمد فؤاد نجم، كذلك فإنه حاصل على الأسطوانة البلاتينية من الاتحاد الدولي للأغنية»! كان يمكن تغطيةَ خبر وفاة أحمد فؤاد نجم أن تكون أسوأ لولا… «ثورة يناير». بفضلها، نال حظاً أوفر في الاهتمام بنبأ رحيله، ووصل الأمر إلى بث التلفزيون المصري خبر الوفاة ونعي الشاعر.

كان اللقاء الأول بين نجم والشيخ إمام سنة 1962 في منطقة «خوش قدم» ليبدآ مسيرة فنية ونضالية استمرت قرابة منتصف الثمانينيات. كتبا ولحنا عشرات الأغنيات الوطنية والسياسية، التي لاقت في البدء قبولاً من السلطة المصرية في العهد الناصري، إلا أنها سرعان ما ضاقت ذرعاً بحدة «الفاجومي والشيخ». هكذا، اعتقلتهما معاً بعد صدور أغنيتهما «الحمد الله» بعد النكسة. ومع بداية العهد الساداتي، تقاسم الشاعر والملحن مطاردة السلطة وزنازينها خلال الأعوام 1972، 1975، 1977، و1978. من جهته، اعتبر نجم «خوش قدم» ورشة تصنيع قصائده؛ وكتب ذات مرة: «كل يوم عن التاني، كنت أتمكن أكثر من صنع الشعر لأني كنت أفهم أكثر من خلال الاحتكاك بالشباب المثقف في سهرات «خوش قدم» الممتعة. ومن أهم القناعات التي اعتنقتها في تلك الفترة أنّ الفن بشكل عام، والشعر بشكل خاص، كائي حي. أي إنّ «الشعرا بيخلفوا القصايد زي الناس ما بيخلفوا العيال»».

في منتصف التسعينيات، على صفحات «الأهرام» ذاتها، نشر عدد من الكتاب والفنانين والمثقفين نعياً «مدفوع الأجر» للشيخ إمام، كان نصه «البقاء لله. القوى الوطنية المصرية تنعى للشعب المصري والأمة العربية، فنان الشعب الشيخ إمام عيسى، ولد في أبو الفرس عام 1917 ومات في خوش قدم عام 1995، وتقام ليلة المآتم في الثامنة حتى العاشرة في «مسجد عمر مكرم» اليوم الجمعة». وحوى النعي العديد من الأسماء اللامعة، على رأسهم رفيق دربه فؤاد نجم. بعد رحيل «الفاجومي» أمس، سارعت الصحف والقنوات لإعلان العزاء والحداد على روح نجم واستحالت مواقع التواصل الاجتماعي إلى دفاتر عزاء. وعلى المستوى الإعلامي أعلنت قناة «أون. تي. في» الحداد على صاحب قصيدة «جيفارا مات»، واضعة شارة سوداء فوق شاشتها.

رغم الخلافات التي دبّت بين الثنائي وأدّت إلى قطيعة عام 1984، إلا أنّ هذه التجربة الاستثنائية ستبقى ماثلة بعدما ألهمت أجيالاً منذ النكسة حتى «الثورة الثالثة» التي وعدنا بها «الفاجومي» قبل الوداع.

قصائده التي لن تموت

محمد الخولي

يصعب على الباحث أن يحدد على وجه الدقة كم قصيدة كتبها أحمد فؤاد نجم، فقراؤه يكتشفون كل يوم قصيدة له. الملاحظة الوحيدة التي يمكن رصدها خلال مراجعة قصائده ودواوينه أنّ أغلبها كتبها في سجون النظام، سواء كان في سجن جمال عبد الناصر، أو أنور السادات من بعده. قصائد نجم لا يزال الشباب يقتبسون أبياتاً منها، ويتداولونها على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن أهم قصائد نجم «الرسالة رقم (1) من معتقل طره» (كتبها في معتقل طره/ يناير 1977) و«السندباد» (1970)، و«ح نغني» (1974)، و«بهية» (معتقل القناطر 1968) ، و«سلام للأرض» (معتقل القناطر 1970) ، و«انا رحت القلعة» (معتقل القلعة 1972)، و«القواد الفصيح» (سجن الاستئناف 1973) ، و«الخط دا خطي» (معتقل القناطر 1971)، و«أوأه» (معتقل القلعة 1973)، و«في المعتقل» (معتقل القلعة 1969)، و بيان هام» (1976)، و«نوارة» (1973)، و«سايجون» (1974)، و«الشعب الزين» (1969)، و«محكمة» (1970)، و«ورقة من ملف القضية» (1973)، و«الشحاتين» (1980)، و«اليويو» (1972)، و«قيدوا شمعه» (معتقل القناطر 1971)، و«كلب الست» (1965)، و«دولا مين» (1973)، و«تل الزعتر» (1976)، و«صباح الخير» (معتقل القلعة 1973)، و«شيد قصورك» (معتقل القناطر 1973)، «رسالة: واه ياعبدالودود» (1967)، و«الجدع جدع» (1968)، و«بيانات على تذكرة مسجون» (معتقل القلعة 1974) ، و«على الربابة» (سجن الاستئناف 1973)، و«شقع بقع» (1969)، و«هما مين» (1977)، و«البتاع» (1980)، و«الزيارة: زيارة لضريح جمال عبدالناصر» (1984). تلك بعض من قصائد نجم وغيرها الكثير التي نالت شهرة واسعة خاصة تلك التي لحنها وغناها رفيق دربه الشيخ إمام عيسى.

الراديكالي النزق الذي هجا «الستّ» مرتين

نجوان درويش

القدس المحتلة | [إلى مصطفى إبراهيم صاحب «المانيفستو»]

يشاء القدر أن أكتب لك في يوم هو الألم مجسّداً. فليس في كل يوم تستقبل الأرض شاعراً، كما أن إرجاع شاعر إلى التراب ليس بالأمر الهيّن. وعلى كثرة ما يتخيّل خيالي، فإني لا أتصور أحمد فؤاد نجم ميتاً. يمكن لي أن أتخيله مطلّاً على مشيعيه بتعليق ساخر أو ممازحاً «التربي» الذي حفر قبره. كل ذلك ممكن ولكن لا أتخيله وديعاً مستسلماً. كما أني لست الوحيد الذي فوجئ اليوم أنه ابن 84 سنة. فحتّى إطلالالته الأخيرة، والوهن باد على صحته، ظلت فيها فتوة الشباب بل ومسحة طيش تحول دون حسابه من الشيوخ.

أتذكّر كم كانت تسحرني «بذاءته» وأرى «الأدب» كلّه فيها.

هل تذكر هجاءه لأم كلثوم؟ كلا، ليس تلك القصيدة التي يعرفها الجميع عن «كلب الست» الذي عضّ فتى فحبسوا الفتى حين علمت الشرطة أن غريمه كلب أم كلثوم. ولكن أقصد تلك الهجائية في «الفوازير» التي يعنيها بها: «يا وليه عيب اختشي يا شبه ايد الهون/ دنتي اللي زيّك مشي يا مرضَّعة قلاوون» وقلاوون كما تعرف أحد حكام مصر في العهد المملوكي. تصوّر اللؤم. تصوّر أن هناك من كان بإمكانه أن يقول هذا الكلام عن أعظم مغنية عرفتها مصر والعرب وربما العالم. (في ساعات يأسي المطبق أقول لنفسي إن حياتي لم تكن فظاظة كلها وإني عرفت السعادة في ساعات سماعي لصوت أم كلثوم).

في مرة، استدعت أم كلثوم نجم للقائها في بيتها، وهو أمر لم تكن تفعله كثيراً، تلك السيدة الأشبه بقلعة عالية الأسوار. حين دخلتْ عليه في الصالة أشارت بإصبعها نحوه من فوق إلى تحت وقالت مع ابتسامة: «هو إنتَ»؟(روى نجم القصة في لقاء تلفزيوني) طلبت منه أن يكتب لها أغنيات. أمعن في بذاءته؛ قال لها: أنا لا أكتب لأحد، قصائدي عندك. غفرت له «كلب الست» ولكن لم تغفر له تبجّحه. انتهت المقابلة. ولم تغن له «الست». تخيّل ماذا كنّا سنكسب لو غنّت أم كلثوم قصيدة أو بضع قصائد من «الفاجومي»؟

وعودة إلى تلك الهجائية اللئيمة التي كتبها لأم كلثوم، فإن عظمة الثقافة المصرية برأيي هي أنها كانت قادرة على إنجاب أم كلثوم وقادرة على الإتيان بأحمد فؤاد نجم الذي في لحظة ما قام بهجائها. لأسباب مبدئية كما زعم لاحقاً؛ حسّه بالعدالة الاجتماعية في «واقعة الكلب» كان أعلى من شغفه بفنّها و«عبادته» لصوتها. كان يدرك أكثر من أي إنسان معنى هذا «الكيان العظيم» الذي تشكله «الست»، لكنه كان نفسه ولا يمكن أن نلومه على ما كتب.

لا يمسّني شيء أكثر من الراديكالية، وخصوصاً حين تكون خاسرة، ولولا الراديكالية لما كانت الحياة تستحق أن تعاش. الشعر مسّ من الراديكالية. ولكنها أحياناً، بل وكثيراً ما تشطح. فأم كلثوم التي قال فيها نجم في لحظة طيش: «مدحتي عشرين ملك وميت وزير ورئيس/ وعبد الملك والمفتري وعتريس» هي مغنية تحرر وطني من أرفع مقام ولعلها من أفضل ما صار للعرب في تاريخهم المعاصر. لكن الراديكالي وخصوصاً في صباه قليل صبر. ونحن نحبّه رغم ذلك بل لأجل نزقه، لأننا نعرف أن هذا النزق حب أبكم وأن البذاءة طريقة في الدفاع عن الإنسانية حين تكون مهددة.

أما قيمته الشعرية، فلنترك الكلام فيها للنقاد، الذين لو انتبهوا لقالوا إنّه خلاصة وتتويج جهد شعراء العامية المصرية، ولو أنصفوا لقالوا إنه أهم شاعر مصري بعد أحمد شوقي. هويته المصرية والعربية، أُمميته، موضوعاته، تقدميته، موقفه الطبقي، ثوريته، لغته الشعرية الخصبة الثرية المتنوعة، اتساع مساحته الإيقاعية ورونق جملته الأخاذ، سخريته، تناقضاته أيضاً. كل ما سبق، جعله من هو.

سيطيب لي أن أتخيل جنّةً يدخلها نجم فَزِعاً منقبضاً بجلّابيته. وأتخيل الست هناك في أعلى مقام (مثلما كانت على الأرض) تشير نحوه بإصبعها من فوق إلى تحت وهي تكتم ابتسامة ممتلئة: «هو انتَ، تاني؟».

من رام الله إلى يافا… فلسطين ارتدت ثوب الحداد

رشا حلوة

عكا | لمحبيه من أبناء الأرض المحتلة وبناتها علاقة خاصة مع «النجم». والأهمّ أنّ حبّ الناس له لم يكن يوماً موسمياً، وكلماته لم تكن متعلقة بفترة زمنية وإنسانية محددة، بل هي حية منذ لحظة كتابتها حتى يومنا هذا. وبذلك، استطاع كشاعر أن يجعل الكلمة السياسية بمثابة سرد وجودي غير متعلق بزمكانية ما؛ فهي تحكي عن انتفاضة الخبز عام 1977، وتحكي عن ثورة «25 يناير» بالضبط. وحين قال: «وكلّ يوم في حبّك تزيد الممنوعات/ وكلّ يوم بحبّك أكثر من اللي فات»، كان يخاطب مصر، ولكنّ حبّه لـ«بهية» لم يختلف عن الحبّ لفلسطين ولم يحتج إلى كلمات أخرى للتعبير عنه.

قبل فترة قصيرة، انتشرت شائعة مفادها أنّ «الفاجومي» ينوي زيارة الضفة الغربية، وجرى تداولها على أنها خبر مؤكد مرفق بالعتب والمزايدات. لكن بعد يومين على الشائعة، نشرت ابنة الشاعر نوارة نجم «ستاتوس» عبر الفايسبوك نفت فيه الخبر، مؤكدة أنّ والدها صرح مراراً بأنه لن يزور فلسطين إلا بعد التحرير.

لم تغب فلسطين عن كلمته وحياته، ولم يفقد الأمل يوماً بأن التحرّر من الاحتلال آتٍ لا محالة، هو الذي قال بعد انتصار ثورة «25 يناير»: «يا إخوانا في فلسطين، إحنا جايين». عاشت فلسطين فيه وفي سفره على مدار حياته، وعاش في أهلها الذين وإن أقفل الاحتلال طرق بلدهم، لم يستطع أن يمنع قصيدة العمّ نجم بأن تصل إلى كلّ البيوت والقلوب. كان مشوار القصيدة من قلمه إلى فلسطين، هو التجسيد الحيّ لجملته: «يا فلسطينية وأنا بدي سافر حداكو».

لم يشاء محبّوه أن يرحل الفاجومي بلا كلمة وداع من فلسطين. بمبادرة عفوية، أقيمت مساء أمس الثلاثاء أمسية إكراماً لروح الشاعر في «مسرح الميدان» في حيفا بعنوان «فلسطين تودع أحمد فؤاد نجم»، تخللتها تأدية أغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بصوت الفنان الفلسطيني ألبير مرعب وابنته ماريا مرعب. علماً بأنّ ألبير خصص مسيرته الفنّية لتقديم أغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم إلى الجمهور الفلسطيني، بالإضافة إلى قراءات من قصائد «الفاجومي» قدمها الفنان عامر حليحل. وفي رام الله، سيعقد بعد ظهر اليوم الأربعاء بيت عزاء للشاعر في «مقهى رام الله». وفي يافا، ستقام أمسية بعد غد الجمعة بعنوان «الخط ده خطي» في «مسرح السرايا» تتخللها إضاءة شموع لروح الشاعر، وعرض فيلم قصير يتناول حياته، مع مداخلة حول شعره، وقراءات من قصائده وأغنيات يقدمها عدد من الفنانين الفلسطينيين.

سافر «الفاجومي»، ولم يكذِّب أحد هذا الخبر، ولم يخرج هو بصوته بتصريح ساخر يشتم به الموت ويعلن من خلاله حبّه المتجدد للحياة. لكن «وبات الأمل سندباد في الخواطر/ وعاش الأمل في الجوانح مسافر»، هي الدروس الحيّة التي علمتنا إياه قصيدة العمّ نجم الذي لا يموت وإن «الغربة طالت كفاية» وأكثر.

«آخر خبر» على الشاشات: الفاجومي مات

محمد عبد الرحمن

القاهرة | منذ الثامنة من صباح أمس، التقط ملايين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر أنفاسهم وتوقفوا عن الجدل السياسي الذي لا ينتهي منذ عزل الرئيس محمد مرسي. تفرّغ هؤلاء لنعي أحمد فؤاد نجم واستعادة أشعاره العزيزة على قلوبهم. لم يتداول الحزانى قصائد بعينها، بل تحول الـ«تايم لاين» إلى ديوان يجمع كل أشعار نجم تقريباً، وأعاد البعض تسجيلات نادرة له، سواء مع الشيخ إمام، أو آخرين، فضلاً عن صور ومواقف مرت في سنواته الـ84. وهناك من اختار قصيدة «جيفارا مات» للراحل مع تحريف مطلعها وتحويلها إلى: «الفاجومي مات» أو «نجم مات».

الحدث كان أيضاً مناسبة لممارسة الشماتة من قبل بعض المنتمين إلى الإخوان. بداية، اشتبك الحزانى على وفاة «الفاجومي» مع أنصار الجماعة، قبل أن يتفرّغ محبّو «الشاعر البندقية» لمتابعة أخبار الجنازة. وكان الحدث مناسبة ليتأكد كثيرون أنّ الحساب المنسوب إلى أحمد فؤاد نجم على تويتر الذي شارف على بلوغ نصف مليون متابع لا يخص الراحل. ورغم أنّ صاحب الحساب نفسه وابنة نجم الكبرى نوارة أكدا مراراً أن لا حسابات للشاعر على تويتر، استمر الإقبال على الحساب وتداول ما ينشر من تغريدات.

الناعون عبر مواقع التواصل اختاروا إما كلمات ركزت على كونه الشاعر القريب من الناس، والعصامي، والمعارض لكل الأنظمة، أو مقاطع من قصائده. المطرب حمزة نمرة المنتمي إلى الإخوان قال: «مهما كان رأيه السياسي، تجبرك الموهبة الفنية الفذة على احترام وتقدير عم أحمد فؤاد نجم. تعلمت منه الكثير ولم أتشرف بمقابلته. رحمة الله عليك». المذيعة في «بي. بي. سي. عربية» رشا قنديل نعت نجم بكلماته، فكتبت: «مُر الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمر. أما المديح.. سهل ومريح. يخدع صحيح ويغُر. والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا ع الحر». كذلك، سارع الشاعر أحمد شبكة إلى نشر قصيدة رثى فيها نجم: «جيفارا مات، وفاجومي عاش، أصل اللي زيّه حلمه لسّه مانتهاش، أصل اللي سمعه لسّة في حالة اندهاش، أصل اللي راح وياه في سكّة راح ماجاش، يبقى اللي يسأل عنه، قول له، فاجومي عاش»،

من الوسط الفني، كتب خالد الصاوي الذي جسّد شخصية نجم في فيلم «الفاجومي» (2011) أنّ روح الشاعر العظيمة القوية شعرت بأنها أكملت رسالتها، واصفاً نجم بأنّه أكثر من شاعر واحد، وأنّ على الشعب أن يتأمل طويلاً في شخصية هذا «الهرم المصري». أما شيريهان، فغرّدت: «في رحمة الله وسلامة، يا من كنت للمصري صوتاً وكلمة حق. وليس فقط المصري بل الإنسان». وأخيراً، ودّعه الفنان السوري سميح شقير صديقه قائلاً: «وداعاً أخي وصديقي ورفيقي في رحلة هجاء الواقع ورفضه بحثاً عن واقع أكثر عدالة وإنسانية. وداعاً أحمد فؤاد نجم، وقد كنت شوكة في حلوق المستبدين، صديقاً للفقراء، جاعلاً من أكواخ مصر قامة في الروح تضاهي الأهرامات. بشعرك العاري من المداورة والزيف أزحت الستار عن ألم الناس وأحلام البسطاء ساخراً من السجون والسجان. عميقاً كالنيل كنت. وشامخاً كالمسلة، وكنت صديقي الذي يشعرني بأنّ القاهرة بيتي وبأنّ الشام تسكن في أحداق القاهرة، فوداعاً يا صديق العمر ولو الى حين».

دمشق تردد أغنياته في مواجهة البرابرة

خليل صويلح

دمشق | لدمشق حصتها في ذاكرة أحمد فؤاد نجم، مثلما له حصته في ذاكرة الشام، منذ أن وطئت قدماه ترابها لأول مرّة، مطلع ثمانينيات القرن المنصرم. أتى برفقة الشيخ إمام كي يحييا أمسية غنائية. الصوت الشجي للشيخ الضرير، والقصائد الغاضبة لـ«الفاجومي». احتشدت صالة «ملعب تشرين الرياضي» بجمهور متعطش لنصٍ مغاير. غادر الشيخ إمام دمشق بعد أيام، وامتدت إقامة أحمد فؤاد نجم إلى خمس سنوات كاملة. البيت الذي استأجره في شارع العابد، وسط دمشق، كان محطة لشباب اليسار ، و«غرزة» لاستنشاق لحظة حرية مقموعة، ومشاريع لإطلاق أغنية طليعية، انتهت بتأسيس فرقة «المسحراتي» التي انطفأت برحيله إلى القاهرة. لن تخلو مكتبة شخصية دمشقية من كاسيت للشيخ إمام ونجم، ولن تكتمل سهرة شبابية يسارية من دون استعادة هذه الأغاني بروحٍ محليّة، إذ لطالما افتقدت دمشق شاعر عاميتها.

بعد نحو ربع قرن، عاد الفاجومي مرّة أخرى إلى دمشق التي يسميها «معشوقتي» بأمسيات أكثر صخباً وغضباً، توزّعتها مدرجات جامعة دمشق، وفضاء القلعة. الفترة الفاصلة بين هذين التاريخين عبرتها رياح عاصفة، لكن قصائد شاعر العامية الغاضب ظلت حاضرة بقوة، خصوصاً تلك التي أهداها إلى دمشق، بوصفها عاصمة الإقليم الشمالي لدولة الوحدة، وكأن لحظة الانفصال لم تقع إلا في الوثائق الرسمية. في زيارته الأخيرة لدمشق، قبل نحو ثلاث سنوات، كانت غرفته في فندق «الفردوس تاور» مضافة مفتوحة لجيل جديد، وجد في هذا الفلاح المصري بجلبابه وعفويته وسيجارته المشتعلة على الدوام أيقونة فريدة لصورة الشاعر، لا تشبه صور الآخرين في نخبويتها، إذ لم يتردّد لحظة واحدة في أن يكون ضيفاً على «بيت القصيد» بكل فوضاه وصخبه الشبابي. ألقى قصائد أكثر شجناً، وروى شذرات من سيرته في المعتقل، وعرّج على بوصلة شعره المتمرّد، قبل أن يزحف الصحافيون إلى غرفته لاستكمال حالة الشغف. ليست قصيدة أحمد فؤاد نجم إذاً ميراثاً مصرياً خالصاً، فقد وزّع أسباب البلاغة على جهات الخريطة العربية، من دون مواربة، وكانت دمشق في الواجهة، أمس واليوم، فهو أحد الشعراء الذين أعلنوا موقفاً صريحاً في الدفاع عن دمشق من طغيان البرابرة.

مات نجم: الله حي!

رامي الأمين

«شيوعي»، «تهمة» جاهزة لكل من يسمع أغنيات الشيخ إمام. وما أحلاها تهمة، حينما يقارنها المرء بـ «تهم» هذا الزمان التي لا تخلو من الطائفية والتعصب. و«الشيوعي» تستدعي تهمة ثانية جاهزة أيضاً: «كافر»، وفي رواية أخرى: «ملحد»، وأحياناً: «زنديق». وكل ذلك لأنك تستمع إلى الشيخ إمام يغني من كلمات أحمد فؤاد نجم. فالثنائي الذي افترق قبل وفاة إمام، بسبب الخلافات، كان «يوصم» بالشيوعية من قبل السلطة، ومن قبل المعارضات الإسلامية، وقد عبّر نجم خير تعبير عن هذه التصنيفات في قصيدته «ده شيعة واحنا سنة»، حين قال: «وناس تقول شيوعي وعامل نفسه شيعي، عشان خايفين طبيعي ليبقوا ثورتين». وهي عبارة تصح في أيامنا هذه رغم انقضاء سنوات طويلة على كتابتها من قبل نجم الذي أسلم روحه يوم أمس. في مجتمع طائفي، لطالما بدا الثنائي نجم وإمام نافراً، مستفزاً، ومدعاة نبذ من قبل الغالبية الساحقة التي لا تريد لأي تنوع أن يقلق راحتها.

هكذا، قلّما تسمع في جيل الشباب من يستمع إلى الشيخ إمام، وبعض «التكفيريين» منهم يقول فيه ما لا يقال في الخمرة، ويدعون إلى اجتنابه. فيما تجتاح التفاهة، مدعّمة بجيوش من السطحيين، عالم الغناء، ولا تستفز جيلاً من الشباب المنقسم بين تيارين جارفين: الأول يمجّد التفاهة، والثاني يمجّد السلطة الدينية التي لا تقف بالمناسبة في وجه التفاهة، بل تذهب إلى حلف من تحت الطاولة معها. ويجتمع التياران بزخمهما لانتزاع كل ما يعارضهما من طريقهما. لكن في المرحلة «الذهبية» التي بزغ فيها نجم وإمام، استطاع اليسار أن يحتضنهما فنياً، وأن يسوّق لهما كما ينبغي، ولذلك الصقت بهما «تهمة» الشيوعية، نظراً إلى تبني الأحزاب الشيوعية لهما. لكن بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وتقهقر اليسار العالمي، ومعه «اليسارات» المحلية، بدأ تقهقر نجم والشيخ إمام، حتى وفاة الأخير عام 1995. مات اليسار، ثم مات الشيخ إمام، وأطال الله بعمر نجم، حتى شهد مفاصل تاريخية، منها تحرير الجنوب اللبناني، ومنها سقوط أنظمة عربية قمعية، فضلاً عن مئات آلاف الفيديو كليبات الهابطة والفتاوى المضحكة على الشاشات العربية، وتسنى له أن يصنع نجومية ما، عبر تقديمه برنامجاً تلفزيونياً على قناة «دريم»، ومن ثم مشاركته كضيف في العديد من البرامج التلفزيونية. ومع ذلك لم يعطه ذلك قدرة على إحياء الشيخ إمام، لا بل شكّلت بعض اطلالات نجم ومواقفه السياسية صفعة للشيخ في قبره. بقيت شعبية إمام ونجم محصورة باولئك الذين تلحق بهم «لعنة الشيوعية»، فمتى رضيت السلطة الدينية عنهما، شاع ذكرهما، ومتى حلّت اللعنة الدينية أو السلطوية عليهما، أعيدا بالقوة إلى زنازين النسيان. كان نجم يحاول دائماً أن يخرج من الزنزانة، عبر مهادنة هاتين السلطتين، لكنه كان يعود إلى رشده في كل مرة، ويخرج عليهما ويهاجمهما، فيعود إلى النبذ من جديد. بموت نجم، يتضاعف خطر شطب الذاكرة المتعلقة به وبالشيخ إمام. اليوتيوب يخفف قليلاً من سطوة النسيان. أغنيات الشيخ تتداول اليوم على الفايسبوك وتويتر كتحية له ولنجم، في مناسبة رحيل الأخير. لكن الخشية أن تسيطر «المناسباتية» على أغنيات هذا الثنائي، فتحيا في المناسبات، ثم تعود إلى عتمة قبرها في الأيام العادية. حينها لا تنفع الذكرى، ولا ينفع الندم. ولا يعود ينفع سوى التقرب إلى الله، لنردد مع الكافرين الزنادقة الملحدين الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم: الله حي، الله حي، وسّع سكّة يمرّ الضي…

هاجي الرؤساء والسلطة

مدحت صفوت

القاهرة | قبل أن يتسلم «جائزة الأمير كلاوس» الهولندية يوم الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) في احتفال رسمي في القصر الملكي في أمستردام، ترجّل أحمد فؤاد نجم أمس عن عمر يناهز 84 عاماً. طوال مشوار حياته، عرف «عم نجم» بمعارضته للسلطات التي تعاقبت عليه، ورفضه لها، منذ ديوانه الأول «صور من الحياة والسجن». ورغم تقديره للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي وصفه بـ«أمير الفقراء المصريين»، إلا أنّه انتقده مراراً، وخصوصاً بعد النكسة، وسخر من انسحاب الجيش المصري في قصيدة «الحمدلله خبطنا تحت بطاطنا»، وسخر أيضاً من شعارات المرحلة التي فُرِّغت من مضامينها كـ«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». بعد وفاة عبد الناصر، كتب قصيدة رثاء بعنوان «زيارة إلى ضريح عبد الناصر» يقول في مقدمتها «السكة مفروشة تيجان الفل والنرجس/ والقبة صهوة فرس عليها الخضر بيبرجس/ والمشربية عرايس بتبكة والبكة مشروع/ من دا اللة نايم وساكت/ والسكات مسموع/ سيدنا الحسين؟/ ولا صلاح الدين ولا النبي/ ولا الإمام؟/ دستور يا حراس المقام ولا الكلام بالشكل دا ممنوع؟/ على العموم/ أنا مش ضليع في علوم الانضباط» ليؤكد أن الخلاف مع «ناصر» لم يكن على المبادئ بقدر ما كان على طريقة الحكم وأساليبه.

بالطبع، علاقة نجم بالرئيس المصري الراحل أنور السادات كانت أسوأ من من سابقه. هاجم «الفاجومي» السادات في الكثير من قصائده التي غناها الشيخ إمام عيسى، منها «ريسنا يا أنور» التي قال فيها: «إحنا معاك يا أبو لمعة يا قمعة، ياللي خربت بلادنا ف جمعة، إحنا معاك مهما تغلبنا، نجري وراك ونبيع مبادئنا»، ساخراً من جيهان السادات «إحنا معاك يا بطل مغوار، شوفنا الست ف خط النار، بكره الحلوة تقابل وزرا، وانت يا ريس تعمل زار». وفي أحد البرامج الحوارية، وصف نجم السادات بـ«الخائن» ولا تجوز عليه «الرحمة، لأنّه ضيع مصر بالتحالف مع العدو الصهيوني». وكان للرئيس المخلوع حسني مبارك نصيب أيضاً من هجاء نجم له ولعائلته. أثناء فترة حكم المخلوع، قال نجم إنّ «مبارك استطاع أن يحبس مصر»، مؤكداً أنه يقود الفساد. وبعد اشتعال «ثورة يناير» ونزوله إلى الميادين متأبطاً ابنته الناشطة نوارة نجم، انتقد إدارة المجلس العسكري إبان حكم المشير حسين طنطاوي، مطالباً بمحاكمة المجلس بأكمله بعد حادث تعرية الفتيات في ميدان التحرير والمعروفة إعلامياً بـ«ست البنات»، قائلاً بالحرف: «ارجعوا لثكناتكم، ودعوا الثورة المصرية، واللي هيجي جنب الثورة هنطلع دين أمو». بينما وصف الفريق أول وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي قائلاً: «قولت ده عبد الناصر الثاني، وواضح إنه فلاح مصري عارف إبليس مخبي ابنه فين». أما الإخوان، فلم يسلموا بالطبع من هجوم الشاعر الشعبي الذي كان أحد المنادين بالخروج في تظاهرات «30 يونيو» لإسقاط نظام الجماعة، واصفاً الرئيس المعزول محمد مرسي بأنّه «غلبان ويصعب على الكافر». وجاءت آخر تغريدات الشاعر الراحل عبر حسابه على تويتر، ساخرة من جماعة الإخوان قائلاً: «ابقوا قولوا للإخوان تصوّت ع الدستور بنعم عشان يدخلوا الجنة».

شهادات

إعداد: سيد محمود

رازي نابلسي*

ومن ذا الذي يجرؤ على أن يتهم الشاعر بالموت؟ نهضت اليوم من فراشي. ككل يوم، أتفحص شبكات التواصل الاجتماعي. وإذا بي أرى خبر وفاة جسد شاعر العامية الثائر الحر، أحمد فؤاد نجم. فما كان مني سوى النظر نحو مكتبتي، فوقع نظري على غلاف «أحمد فؤاد نجم ــ الأعمال الكامله». ابتسمت وقلت: لا يعقل أن يموت، لقد كتب للثورة، للحرية وللشعوب، لقد كتب للاحرار، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يعلن موته؟

لقد تعرّفت إليه في السادسة عشرة من عمري، رافقني في الأيام الطيبة وفي الأيام السوداء. قبل النوم، كان يقول: «بستنظرك». وفي الصباح الباكر: «أنا الشعب ماشي وعارف طريقي».

أكثر ما كان يستفزني أحياناً، حين كنت أسمع بعضهم يردد قصائده بصوت بارد. من كتب للقلب والثورة، عليك أن تسمعه وتردده من القلب والثورة. أحمد فؤاد نجم، يا من كان رفيق دربنا. لم أحضنك يوماً، وحضنتنا جميعاً.

ما زلت أحلم بالعودة والثورة والشعب حين يقول: «أنا الشعب ماشي وعارف طريقي». وما زلت أسمعه يقول: «يا مصر لسا عددنا كبير». من هو ذا الذي يجرؤ على أن يعلن موت من كتب الخلود. لم أره يوماً، بل قرأت وسمعت وشعرت وحلمت بأن تكون كلماته أذان ثورتنا، وأجراس العائدين.

تموت الأجساد يوماً بعد يوم، وكما كان إمام الثورة في ميدان التحرير يوم «٢٥ يناير»، سيكون الفاجومي الإمام في كل ميدان تحرير. أنا على ثقة بأن من يبكي اليوم، هو فقير، مظلوم، أسير، عامل، طالب في ميدان التحرير وثائر قد وضع بندقيته على كتفه وقال: يا فلسطينية، والثورة هي الأكيدة.

* ناشط فلسطيني

محمد محسن*

في يوم 28 كانون الثاني (يناير) 2011 المعروف بـ«جمعة الغضب»، وبعدما هدأت حدة المسيرات والاشتباكات، توجهت ليلاً إلى «دار ميريت» في وسط البلد. هناك، التقيت الناشر محمد هاشم و«عم نجم»، توجهنا قرب منتصف الليل إلى ميدان التحرير. في ذلك المشوار القصير إلى الميدان، كنت مبهوراً من فكرة مجاورتي لهذا الشاعر العظيم. وبفضل أحداث اليوم الرهيبة، ولقربي من «الفاجومي»، تملّكني شعور بأن مشروع نجم الثوري الذي صاغه شعراً عبر سنوات نضاله برفقة الشيخ إمام ماثلٌ أمام عيني في الميدان، بل رأيته يتحقق. كانت تلك لحظة فارقة بالنسبة إليّ، ولنجم نفسه. ها هو يرى حلمه بالثورة والحرية على وشك الاكتمال. ليلتها، شدني «عم نجم» من يدي وصعد معي إلى المنصة (كانت تلك أول منصة تُنصب في الميدان) ثم غنينا معاً أمام الحشود. صدحنا بـ«مصر يامّه يا بهية» وهي أول أغنية أغنيها في «التحرير» بعد نشيد «بلادي بلادي». أثناء تلك اللحظات الرهيبة، وبينما أغني مع نجم، أمام حشود غفيرة، شعرت بأننا اختصرنا عشرات السنين من النضال، أمام الملايين بعد يوم 28 الاستثنائي، ورأيت الأجيال وهي تلتقي في حب مصر.

الحقيقة أنني وغيري من الفنانين الشباب، نعيش على مذهب شيخ الطريقة «عم نجم»، هو وشريك دربه الشيخ إمام. نحن نستمد منه الأمل، من أشعاره وأغانيه وإيمانه الثوري النقي. كنت كلما نظرت إليه، أتساءل: إذا كان نجم في هذه السن المتقدمة وما زال يمتلك كل هذه الحماسة، فماذا نفعل نحن الشباب؟ علينا ألا نيأس. نجم كان بمثابة منبع أمل بالنسبة إلينا. فقد كان رحمه الله دائم التشجيع لي، وكان يقول لي عادةً: «استمر يا محسن.. فأنت صوت أصلي». ولطالما نصحني بألا أتخلى عن حلمي.

أذكر أنّي زرته مرة في بيته في المقطّم برفقة الروائي والشاعر أحمد العايدي، وعازف العود اللبناني رامي يعسوب. ليلتها، تسامرنا معه لساعات، وحكى لنا عن بيرم التونسي، وبديع خيري، وسيد درويش وزكريا أحمد. استعدنا تراثنا الموسيقي والشعري، فغنينا وحكى لنا، ولا أبالغ إن قلت إنّ مثل تلك الجلسات أسهمت في تشكيل وعيي الثقافي.

أحمد فؤاد نجم كان يكتب مقالات في دوريات ومطبوعات عدة، وقد حرص على تقديمي أنا ومجموعة من الفنانين والأدباء الشبان مثل مصطفى إبراهيم، ومايكل عادل، وأحمد عبد الحي، وأحمد مجدي همام، ومحروس أحمد، ولم يتوقف دعمه عند هذا الحد. فقد كان أحد أحلامي منذ أن بدأت مشواري الفني، أن أغني في دار الأوبرا، وفي المرة الأولى التي أتيح لي فيها تحقيق هذا الحلم بالغناء في «مهرجان الموسيقى العربية» في أواخر 2012، فوجئت بـ«عم نجم» حاضراً في الصفوف الأولى، ويومها، غنيت لحن «الحشّاشين» لسيد درويش في الافتتاحية، وأهديتها إلى ذلك الرجل الذي لم يكف عن دعمي وتشجيعي أنا وكل أبناء جيلي.

قد يظن البعض أن حبي لذلك الرجل بسبب وقوفه إلى جانبي. لكن الحقيقة أن الجميع كانوا يحبونه، فقد كان مثلا طرفاً رئيسياً في أغلب جلسات الصلح التي تُعقد بين الفنانين والأدباء في الدوائر الثقافية المختلفة، ويكفي أن تسأل رجل الشارع البسيط عن نجم لتسمع مجموعة الردود المعروفة: «راجل دماغ وشاعر عبقري». ولذلك أرى أن لقب «شاعر الفقراء» مستحق وواقعي جداً. الجميع يعشقون نجم. لقد فقدنا فعلاً قامة ثقافية وقيمة وطنية كبرى. رحم الله أحمد فؤاد نجم.

* فنان مصري

صاحب ألبوم «اللف ف شوارعك»

وحيد الطويلة*

ربما هو الوحيد الذي رحل راضياً ضاحكاً مبتسماً. رحل بعدما رأى قصائده انتصرت وغردت مع أرواح البشر والشهداء في كل ميادين مصر. رحل مطمئناً إلى أن أناشيده ستستمر ما دامت هناك ثورة بالعربية، أو ما دام هناك من يحلم بها. في كل مكان يصادفك عربي في العالم العربي أو خارجه، ستجد أن نجم ابن الايه حاضر يؤنس ويلسع، لسان من لا لسان له. عند كل سلم، سوف تقابلك ضحكة أحمد فؤاد نجم طالعة بالبشر والحياة والأمل والقدرة على مواجهة الحياة. الجماعات تختار منشدها، ومصر اختارت نجم منشدها لعقود طويلة وستظلّ.

* روائي مصري

محمد ربيع*

أخبرني صديق، منذ ما يقرب 20 عاماً، أنَّ أحمد فؤاد نجم شاعر شهير، قضى نصف عمره في السجون. كان يخرج من سجن ليدخل الآخر. صديقي هذا لم يكن يقرأ كثيراً. على العكس، وكنت أنا في أول طريق القراءة. بعد كلامه هذا، قرأت نجم وصلاح جاهين، وانشغلت بالنثر فلم أقرأ شعراً لغيرهما إلا بعد سنوات طويلة. وبقيت طاقة شعر نجم ماثلة في ذهني. نعم، نجم شاعر سليط اللسان، وما الشاعر إلا لسان كالخيزرانة. أذكر أنّ أحدهم حكى لي ما قام به نجم أثناء إلقائه قصيدته «البتاع». صاح بالبيت قبل الأخير «عيِّن حَرَس ع البتاع» ثم شَخَر شَخرةً قصيرةً حادةً وأكمل «وبرضو مات مقتول». والشخر، لمن لا يعرفه، صوت يأتي من سحب النفس من الأنف مع الاحتفاظ بالفم مفتوحاً. وهو علامة على سوقية الشاخر وانحطاطه. كان نجم يقصد السادات بقوله «عيِّن حرس». والحقيقة أنّ السوقية الموجهة إلى السادات، ولكل حاكم مصري، هي سوقية محترمة، جعل الله شخرة نجم في ميزان حسناته. إلا أن الفقد قد يأتي بلا وجع، تألَّم معظم من أعرفهم لفقد «أبو النجوم»، بينما ضحكت أنا وقلت: وهل يموت نجم؟ عاش حياته كما أراد، حراً من كل قيد، ساخراً من كلِّ سلطة، لا يهاب الحبس، ولا يعترف إلا بالناس وبمصر، بلا شوفينية بغيضة، وبلا أدب مصطنع. يا ليتنا نعيش حياتنا مثلما عاش نجم.

* روائي مصري

أسماء ياسين*

زمان، وأنا صغيرة كانت «المزيكا» والأغاني ممنوعة في بيتنا، «عشان حرام»! رغم ذلك، كانت شرائط الشيخ إمام وقصائد أحمد فؤاد بصوته موجودة عندنا. سمعناها عندما كنّا أطفالاً، ولم نكن نفهم أي شيء منها، لكن كنا نضحك ونتحمس، ونحس بأنه «كلام موزون وله معنى». ثم تغيرت الأمور، وكبرنا. شخصياً، أصبحت أرى شعر نجم بطريقة أخرى. وإكراماً للأيام الخوالي، أعدتُ فرزه، واستخراج الشعر الخالص منه، بعيداً عن الطنطنة والحماسة. قبل «ثورة يناير»، كان أحمد فؤاد نجم بالنسبة إليّ شاعراً عظيماً، لكن بعيداً عن الشعر الحماسي. وبعد «يناير»، كانت أغاني نجم والشيخ إمام في سماعات المنصّات هي التي تحمّسنا في برد الميدان ليلاً، وعاد الشعر، ثانية، بصوت أعلى. مرة. أعلم، يقيناً، أنّه كي تحب شاعراً، يفضل ألا تتعرف إليه شخصياً.

لكن ليس في حالة نجم. لا أظنّ أنّ التاريخ سيكون قادراً على التعامل مع نجم من خلال نصوصه فقط، مغفلاً حياته وأسلوبه وتاريخه المزدحم المتناقض الثري، ولكن شئتُ أو أبيت، قاومت أو استسلمت، وخصوصاً إزاء مواقفه السياسية الأخيرة، الاعتراف بشاعرية أحمد فؤاد نجم، سيظل جزءاً من تاريخ علاقتي بالوطن وبالعامية.

* كاتبة مصرية

دنيا مسعود*

هي دي حكايتك معايا، شوف بقى قلبي وجنونه؟! بيني وبينك يا باشمهندس عاوزيني أجيب ف سيرتك واكتب بقى بالنحوي عن الشعر والحركات دي. طب ده كلام بذمتك؟! طب ايش أوصلني أنا أجيب ف سيرتك والشعر ؟!!

طب انت حد ينفع يجيب ف سيرتك بالنحوي؟! أنا قلبي واكلني عليهم لتطلع تسب لهم والناس دي غلابة ومش حمل أخلاقك العالية ولسانك اللي بيسقط شهد. طب على فكرة مش باتريق. ماتشتمش. طب باتريق بس مش قوي. أنت فعلاً لسانك بيسقط شهد. انت عارف؟

أساسا أساساً، ما كنتش أعرفك ولا عمري حبيت الشعر السياسي ومباشرته، بس انت لئيم، قلعت السياسة الكرافتة، ولبستها لبس الغوازي. فاجر. بالرغم إنّي جامعية، وبفكّ الخط بس ربك والحق أنا فهمت المانافيستو من أغانيك.

وزي كل عمي البصر والبصيرة شفتك الشاعر اللهلوبة اللي فك طلاسم المصطلحات التخينة دي بأغانيه وكسب فينا ثواب وفهّمنا سياسة واقتصاد….. بس تمام، لحد كده وتشكر. وبعدين عابر سبيل قرر يسمعني فاجومي تاني خالص! «ومن ليلتها وقلبي مش طايق حنانه، ومن ساعتها وهو مش نايم مكانه». إيه اللخبطة دي؟! مش انت بتاع عن موضوع الفول واللحمة؟ ونيكسون بابا؟ وشيد قصورك؟

فاكره كويس يوم عيد ميلاد زينب السابع لما شفتك أول مرة. كل الأكابر بتوع «لا مؤاخذة» الثقافه كانوا ع السطح قاعدين ع الارض ومتأنتكين، وانا كنت لابسة الفستان اللي حيلتي وعاملة نفسي حلوة عشان أليق بالحضرة الطاهرة، وانت قاعد بجلابيتك كأنك بتقول لنا طز فيكوا.

ف اليوم ده غنيت. وأنت شتمتني! أخدت وقت عشان استوعب أن الشتيمه دي تعبير عن الرضى والكيف. طلع الصبح ونص العدد من امبارح نايم مكانه وأنت اختفيت. شوية وظهرت لنا بفول وعيش وفطار وموز. «علقوا ع الشاي يا عيال. موز أهه، واللي يفضل كلوه». ماحدش غيرك قال عليَّ المتهمه. يوم عيد ميلادي بعدما عرفتك بشهر وشوية كنت بلا مأوى. «يا أم زينب، عشي المتهمه دي وطلعي لها بيجامة».

أتاري يا خويا تحت الجلابية والشعر الدريس ملكوت تاني، أب حنيته تتفك ويتعمل منها تلات أربع ابهات! لأ، مش عارفة أقولها ازاي دي؟! أنت ازاي تمشي كده وتسيبنا يا جدع انت؟!

يوم ما سمعت محامي بيقول لك فيه واحد اسمه متولي سارق منك قصيدة، وبيقول إنّها بتاعته، وانك انت سارقها منه، وأنت بقى لازم ترفع عليه قضية يا بو النجوم، ردك يومها خرم لي نافوخي للأبد: «يا عم انت قضية ايه؟!! مش كفاية اسمه متولي؟! هنبقى احنا وربنا عليه؟! سيبه سيبه».

ما تزعلش مني يابا. أقول لك حاجة وتسبليش الدين؟! أنت مش من حقك تمشي وتسيبنا.

الموضوع مش بس الأغاني يا خويا وانت عارف .

على قولة ايمان مرسال

«سأعتبر موتك آخر ما ارتكبته ضدي».

لو سمحت، حاول تقعد مهذب عندك لحد ما اجي لك، وللا اقول لك؟!! اعمل اللي يلد عليك، يمكن يتعبوا منك ويرجعوك تاني

* فنانة مصرية

أميرة الأدهم*

كانت أمي تجادلني بخصوص النزول إلى التظاهرات أو السفر بمفردي وأرد عليها بكل إيمان: «حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين.» البكاء يغطي على الحديث عن شعر نجم، ومن الأنانية أن نتحدث عن انتقال فلسفة نجم إلى أرواحنا، ومن غير اللائق التجارة بسنين عمره الضائعة في السجون رغبةً في تفعيل أفكارنا الثورية. لكننا مساكين في تلك اللحظة مثل قلة حيلتنا وفرحتنا البلهاء أيام الثورة أمام نجم. جرينا فرحين ناحيته متباهين بأنه شهد لحظة جلس يحضّر لها طوال حياته. جرينا إليه فاستقبلنا وبكى ونحن أيضاً سنبكي، سنبكي كثيراً. فبعد الآن، عندما ستصعد إلى «دار ميريت»، لن تجد «عم أحمد» على كنبتها. وفي رمضان لا تنتظر أن يستضيف أحدٌ «الفاجومي» بصراحته ولسانه الطويل وحريته «اللي وسعت الدهشة وجارت على الأسرار»، ولن تصبح سيرة الحشيش والشاي ملهمة. صاحبهما الذي تغنى بعاداته، لم يعد هنا! بعد كل ذلك، لو حدث وتحقّق في يوم ما العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لن تجد مَن تجري إليه فرحاً ليبكي معك تعب سنينه. ستكتفي بالبكاء عليه.

أحمد فؤاد نجم ليس فقط ملحمة سياسية، ولا تاريخ نضال مع الأنظمة باختلافها، ليس فقط تحقيقاً لرومانسية الشعر فوق السطوح ومتطلبات الحياة البسيطة، عم أحمد لم يكن فقط لساناً صريحاً وحراً ودمه خفيف، ولا يمكن اختصاره في أناشيد حماسية للنزول في التظاهرات، ولا يمكن أن تجرب ذكراه ــ فقط ذكراه ــ لكي تحب مصر. «عم أحمد» حب جارف للحياة، هو ولادة الدمج بين الأفكار وتحققها على أرض الواقع، وذوبان الحاجز بين غزل الحبيبة والسعي وراء حضن وطنه: «شابة يا أم الشعر ليلي، والجبين شق النهار، والعيون بحرين أماني، والخدود عسل ونار». لمن يغني نجم بهذا الحب والشغف؟ حبيبته أم وطنه؟

هناك غيري سيحكي عن دور نجم في شعر العامية، وكيف أصبح أي شاعر عامية شاب يلمع نجمه لمجرد تشابه جمل منه مع نجم. هناك آخرون سيحكون أساطير نضال عن نجم، وذكرياته مع الشيخ إمام، وحبسه ومنعه، وقصائد غضبه، وانتمائه إلى طين البلد و«غلابتها» الذين حرص على أن يظل بجوارهم. هناك أيضاً من سيحكي عن مغامراته العاطفية وحبه الشديد للحب والحياة. ستسمع من الكثيرين تأثرهم بشعر نجم ونغمه وكيف غيّر حياتهم. أما أنا فسأبكي، ثم أتذكّر «إفيهاته»، وكيف صادفته مرة مرتين ثلاثاً أربعاً وابتسم ولا أصدق ذلك.

مصر ستنتفض وتتوج رحيله بجنازة عامة باكية أليس كذلك؟ أيام حداد وحبل للدردشة والتعليقات، هل تعرف المزايدة؟ النهش في موت نجم من أعوان أي نظام أو ممن لا يتحملون فكرة رحيل هذا الجميل، فتأخذهم السخرية إلى المزايدة على بكاء محبيه وحياته الشخصية مثلاً! أعتقد أنّ حتى محبيه سينجرون إلى تلك الضحكات في يوم ما لأنه كان مبهجاً حياً وراحلاً. كذلك فإن لا أحد يتحمل فكرة رحيل نجم. لا بد من أن يداويها بنميمة ما، أو بموقف له ينتقص من قيمته مثلاً. والرجل لم يقدم نفسه قديساً أبداً. كان «فاجومي» وما سيهدئني أن أتخيل روحه ترد على أي اتهام أو تهجم بـ«أيوه يا ** أمك. كنت بعمل كده وبحب الحياة وانبسطت بيها». في النهاية، لم يعد هناك أحدٌ ليجادلني في السفر أو المغامرات، لكن لم أتوقف عن تكرارها بكل إيمان: «حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين».

* شاعرة مصرية

أحمد سراج*

عيناه ورقاوان من شرق وزيتون. رجل نسيج وحده، صاف كالسماء، مندفع كالسيل، صادق كوعد عاشق، لا يدعي أنه يمثل أحداً، فيما هو على الحقيقة يمثلنا جميعاً، نحن الشعراء، المصريين، العرب، الباحثين عن الحرية والحقيقة. «كل عين تعشق حليوة، وانت حلوة في كل عين». منذ أن قرأت هذين السطرين وأنا أعلم أنني في حضرة قطب من أقطاب الشعرية الإنسانية، خرقته لغة سهلة الفهم، وكرامته أنّها تحوي كل ما يريد الشاعر والقارئ. في كل موقف أبحث عنه، فإذا ما وجدته اطمأن قلبي، إنه الشاعر الموقف، والموقف الشاعر، إنه ذلك المصري النبيل الذي لا يحمل قلبه ضغينة لأحد، فالحر يقاوم بنفسه وروحه ويجأر بكلمته مهما كانت النتيجة «كلمتين يا مصر هما آخر كلمتين، حد ضامن يمشي آمن، أو مآمن يمشي فين». ما يميز شعر نجم عندي، أنه شاعر يقول ما لديه ولديك دون تكلم، واحد من جموع المقاوم. جاء نجم في وقت اعتبر شعراؤه أنهم أعلى من القارئ؛ فردّ الأمر إلى نصابه؛ الشعر من الناس وإليهم وعنهم. نجم الباحث عن الحقيقة والحرية لمن حوله، فيما يرفرف دائماً مضيئاً وصادقاً.

* شعر مصري

سارة علام*

«كل ما تهل البشاير من يناير كل عام يدخل النور الزنازن يطرد الخوف والظلام، يا نسيم السجن ميل ع التعب وارمي السلام»، قالها نجم قبل أن نفعلها، بـ34 عاماً. وحين فعلناها، كان معنا، يغني أناشيده ويهتف للثورة، يشد عزمها ويقوينا. عام 2000، كنت في الإعدادية، أتردد على قصر ثقافة أسيوط ونادي الأدب، التقيت بعض الأصدقاء الشيوعيين يقرضون الشعر، وينسجون القصة، أذكر منهم عصام شعبان عضو لجنة الشباب في «الأعلى للثقافة». أهداني عصام «فلاشة» تحوي أغنيات نجم وإمام، وقال لي: «اسمعيها يا سارة». سهرت ليلة كاملة، أسمعها وأردد «مصر يامه يا بهية، الزمن شاب وانتي شابة، هوا رايح وانتي جاية». بعدها بأيام، اشتريت ما وجدت من كتب لنجم من بينها كتابه «أنا بقى وعادل حمودة». وحين تركت أسيوط، وانتقلت إلى القاهرة، وعملت في الصحافة، قابلته مرتين، عند محمد هاشم، في «دار ميريت» حيث كان يجمع ما تيسر من الأدباء حوله. يضحك ويشرب ويحكي. سأل نجم محمد هاشم «مين البت دي يا محمد؟». رددت: «أنا سارة يا عم نجم صحافية». ابتسم وقال: «انتي بت جدعة وقمر». وحين هبت «ثورة يناير»، كان نجم يجاور سيد حجاب في المقعد نفسه عند هاشم بعدما أنهيا خلافهما. كنا نتابع الأخبار بكثير من الخوف والقلق. وككل الأشياء التي يفعلها فجأة من دون استئذان، مات نجم، وسيقف هاشم يغني ونردّ: «نجم مات آخر خبر ف الراديوهات، وف الكنايس والجوامع وف الحواري، والشوارع وع القهاوي وع البارات، نجم مات مات المناضل المثال يا ميت خسارة ع الرجال»

شاعرة مصرية

شريف بكر*

عرفت نجم وأنا صغير. كانت قصائدة وأغانيه تتداول في بيتنا من والدي وأصدقائه. لم أدرك الفرق بين «الفاجومي» وأحمد فؤاد نجم إلا في مرحلة لاحقة في عمري. لكني أتذكر في معرض الكتاب عام ٢٠٠١، كانت هناك ندوة مسائية مع نجم ونجيب ساويرس. في هذا اليوم، اكتشفت الرجل وراء الأشعار. حكاياته التي تهكّم فيها على ساويرس «شوية العيال الي بشعر دول الي كانوا فاكرين انهم حَ غيروا البلد في السبعينات». ندمت زوجتي لأنّها لم تلتقط صورة لابنتنا معه عندما قابلته صدفة في المقطم قبل إفطار رمضان عندما وجدته في الشارع وسألها عما إذا كانت تريد مساعدة، وقبّل ابنتي ولعب معها وقال لها: «البت دي حتبقى نجمة». الله يرحمك أنت يا نجم.

* ناشر مصري

غياب – شاعر الغلابة وضمير الشعب المصري

عقل العويط

مات أمس في القاهرة، شاعر الشعب، أحمد فؤاد نجم، الذي شيّدت كلماته الطالعة من آلام الغلابة والفلاحين والعمال والطلبة، مداميك الوجدان الشعبي العام، بروحها الثورية واليسارية، ونكهتها العفوية، وأوجاعها العميقة، وخصوصيتها التهكمية الساخرة.

إذا كان من تعريف لهذا الشاعر، فأكثر ما يعرّف به أنه شاعر الضمير، وقد استطاع بكلماته الشعبية، العفوية، البسيطة، الملمومة من وجدان الشعب المصري، ومن شفاه الغلابة، أن ينضمّ إلى قافلة الذين يقيمون في ذاكرة الشعب وفي ضميره الجمعي.

منذ الخمسينات، لمع نجم الشاعر، الذي تألق شعره في الستينات، وخصوصاً عندما أخذ على عاتقه أن يحفر عميقاً في مسائل حارقة، متعلقة بقضايا الحرية والعدالة والديموقراطية والسياسة، جاعلاً من كلماته حمماً تصيب الجميع بشظاياها، غير آبه بهذا الفريق أو ذاك من أهل الطبقة السياسية.

بسببٍ من ذلك، تكاثر عشّاق كلماته في جموع الطبقات الاجتماعية المسحوقة، وفي أوساط الهامشيين والثوريين واليساريين والمظلومين، مثلما تكاثر “أعداء” هذه الكلمات من أهل السلطة والفساد، لذا سرعان ما عرف الشاعرُ السجنَ ولياليه الممضة وزنزاناته المهينة، أكثر من مرة، في عهد كلٍّ من الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات.

إلاّ أن الاضطهاد السياسي، الذي أصبح أقرب إليه من ظلّه، لم يزده إلاّ تشبثاً بالكلمة الحرة، الموجوعة، يقولها عاليةً، فترددها جموع المصريين، مغنّاة بصوت الشيخ إمام عيسى، رفيقه في النضال وفي الفن الشعبي على السواء. وقد شيّد الرجلان ظاهرة أدبية – غنائية كان لها تأثيرها العميق في أوساط الشباب والطلاب داخل الجامعات المصرية، ولا سيما في مطالع السبعينات، وساهمت إلى حدّ كبير في تأجيج انتفاضة التاسع عشر من كانون الثاني 1979 التي أطلق عليها الرئيس السادات آنذاك، تسمية “انتفاضة الحرامية”.

لم تكن حدود مصر هي حدود شهرة أحمد فؤاد نجم، ذلك أنه خرج إلى العالم العربي الأوسع الذي راح يردّد أغانيه في الثورة والهزيمة، وفي مقدمها “غيفارا مات”، معتبراً إياها صوتاً حرّاً لضميره الجمعي الموجوع والمغمس بالقهر والمظلومية.

ولد أحمد فؤاد نجم في العام 1929 في قرية كفر أبو نجم في محافظة الشرقية. عاش في ملجأ للأيتام بعد وفاة والده ووالدته، ثم خرج منه وهو في السابعة عشرة من عمره، ليعمل راعياً. تأثر أحمد فؤاد نجم بالفكر الشيوعي واليساري عموماً، واختلط بعمال المطابع، وشارك في التظاهرات التي شهدتها مصر في العام 1946، وخصوصاً في “ثورة الخبز” في كانون الثاني 1977، وكانت بمثابة الزيت الذي أجّج المواجهة مع سياسة الرئيس السادات ومسألة الصلح مع العدو الإسرائيلي.

في الأمس القريب أيضاً، خلال الثورة التي أعلنها الشعب المصري ضد الرئيس مبارك، عادت كلمات أحمد فؤاد نجم إلى الواجهة، لتلعب دورها في إسقاطه، وفي إسقاط خلفه الرئيس محمد مرسي.

شاعر الغلابة، تبقي كلماته في ضمير الغلابة.

يا عم نجم

عمر سعيد

يا عم أحمد، لا أعرف كيف أبدأ. يقولون هذا الصباح إنك مت. أبلغونا أننا يجب أن نواسي نوارة وتجاهلوا من سيواسينا. هكذا تريد أن تذهب بكل بساطة وكأنك لم تفعل شيئاً. تريدنا أن نقرأ الخبر ونمرّره. تخيل يا عم أحمد. إنهم يكتبون «توفي أحمد فؤاد نجم عن عمر يناهز 84 عاماً». يكتبون عمرك، ولو كانت الأعمار بالأرواح لكنت لا تزال تراقص الفرح في الساحات، وكنا نحن جميعاً أمواتا.

حسناً. قل لي ماذا نكتب في رحيلك. يا عمي، نحن قرأنا كلامك ورفضنا ما كانوا يريدون تدجيننا به في المدارس. أبي لم يكبّر في أذني، بل غنّى: «باسم اللي ماتوا صغار في المدرسة والدار والمصنع اللي انهار فوق الصنايعية».. لكني لم أتعلم كفاية لأودعك.

يا عم أحمد، منذ أربع سنوات حاول قلبك الانقلاب عليك. خفنا عليك وأنت كنت تهرّب سجائر «الميريت» في غرفة العناية الفائقة. قلت لنا إنك لن تموت قبل أن ترى مصر منورة بكسر فرعونها. ورددنا عليك إنك «كبرت وخرفت». لم تجادلنا بل شتمتنا كعادتك وحدثتنا بيقين، وكأنك تكتب قصيدة عما سيحدث. وبقيت حتى كسرنا الفرعون سوياً. الآن تذهب ولم يصل النور لبهية بعد؟ قلت لنا قبل رحيلك هذا: «ما تخافوش عليها»، لكننا لا نجيد الأمل. فقط نراه في عينيك ونتكّل على حسّك أنت.

يقولون الآن إنك ستزور سيدنا الحسين قبل الدفن. ويقولون إنك ستسكن في «ترب الغفير» بجوار الإمام الشافعي وعلي زين العابدين. أعرف أنك خططت لهذا. ربما يكون الأمر الوحيد الذي خططت له في حياتك. أتذكر حين كنت مسافراً ونسيت جواز سفرك ولم تكن تعلم اسم شركة الطيران ولا موعد الرحلة؟ حظك حلو يا أبو النجوم. نلت ما أردت. ستجاور أهل الخطوة. ولن تفارق سكان الزلزال.. لهم أقارب يتقاسمون المدافن مع الأموات كما تعلم.

على كل حال، أعلم أن القبر لن يسجنك كما لم تسجنك معتقلات حبيبك عبد الناصر ولا عدوك السادات. أعلم أنك ستراقبنا من سماء ما، تسحب نفساً من السيجارة وتضحك: «جتكم خيبة، فاكريني مش شايفكم.. عيال ولاد كلب».

يا عم أحمد. حان الوقت لتنهي المشاكل بينك وبين الشيخ إمام. يكفي أنه رحل قبل أن يودعك. الآن عدتما جارين مرة أخرى. لا تنسَ أن تحكي له ما حدث. قل له إن أولاد مصر أصبحوا يعرفونه جيداً. قل له إن الملايين غنت ألحانه في ميدان التحرير. قل له إن شهداء تلقوا الرصاص في القلب وهم يهتفون «الجدع جدع.. والجبان جبان». وصّل له السلام، وأيضاً لـ«الورد اللي فتح في جناين مصر». وصّل السلام يا عمي لسعاد حسني، وأمانة لحبيب قلبك نجيب سرور.

إلى ذلك.. نلتقي بعد أيام.. شهور أو سنوات. أنت تعرف. «حد ضامن يمشي آمن؟ أو مآمن يمشي فين». وإلى حينها، دندن أنت والشيخ إمام.. فهناك الكثير من الأحداث تنتظر رسائلكما.

إسكندر حبش: كم كان شاعراً

من دون شك، ثمة حلكة تهبط علينا، عند رحيل أي شاعر، وكيف لا إن كان شاعر له مثل هذا الحضور الوفير والوافر الذي كان يتمتع به أحمد فؤاد نجم. من الصعب أن نكون قد نجونا من قصيدة له أو من موقف (أكان اجتماعياً أو سياسياً الخ)، على الأقل، لأننا لم ننجُ من أغاني رفيق دربه الطويل الشيخ إمام الذي حمل كلمات نجم (كما كلمات غيره) وصدح بها، ليعبر عن تجربة تاريخية وسياسية في تاريخ مصر مثلما هي تاريخ العالم العربي، حين كانت مصر تقود هذا العالم بأسره.

لم يكن «العم نجم» شاعراً فقط، بل تعددت التوصيفات عنه لتصل إلى «مناضل كبير» و«ضمير أمة ومرحلة» و«صوت التعبانين» إلى العديد غيرها من تلك النعوت والصفات التي لا تجيد استعمالها إلا لغة الضاد، وإن كانت أحياناً هي صفات بعيدة عن نصه الشعري الذي من المفترض أن يكون الحاضر الأساسي في كلّ هذا الأمر.

لكن لا بأس بذلك كله، إذ ثمة قصائد كثيرة في مسيرته، لا تفعل شيئا إلا لتخبرنا كم كان شاعراً وكم كان هذا الصوت يطغى على صفاته الأخرى. لغاية الآن لا بدّ أن تبقى قصيدته «عزة» على سبيل المثال (وغيرها بالـــــطبع)، واحدة من تلـــــك الومضات الكبــــيرة التي خرقت الحـــــالة الشعرية ومشهـــــديتها، لا في مصر فقط بل في العالم العربي أيضاً.

من هذه الناحية، ثمة شعر ونوع شعري لا بدّ أن يكون أحمد فؤاد نجم أحد ملوكه المتوجين، ولكن أيضاً علينا أن نعترف بأنه لم يكن «الشاعر»، بمعنى لم يكن ذاك الأديب «المثقف» الذي أيضاً يملك مفهوما عن العالم، كلّ خطابه الآخر كان يتلخص في كثير من الأحيان في شتائم وصراخ، تبعده عن أن يكون صاحب نظرة تعيد تفكيك الخطاب السياسي و«الفكري» للسائد. بل لربما كان نجم ملك هذا الســـــائد، حين يتحول إلى «فاجـــــومي» لا يعرف كيـف يعبر إلا من خلال نكــــاته وشتائمه.

لا أعرف إن كان من المفيد وضع كلمة مثقف وثقافة، (وقد وضعتها أصلا بين مزدوجين)، لأنها في غير موقعها ولا في سياقها حين نتحدث عن تجربة أحمد فؤاد نجم، إذ أن إحدى خاصيات الرجل وخصائصه، الهجوم الدائم على الثقافة والمثقفين، وهو يعتبر انه لا ينتمي إلى هاتين الكلمتين. هذا من حقه ولكن ثمة سؤالا أجدني منساقاً إليه: هل أصبحنا في وقت، صار من المعيب فيه، أن يقول المرء عن نفسه إنه يقرأ؟ ولا أريد أن أقول إنه «مثقف»، إذ للكلمة وقع آخر. هذا بحث آخر ومسألة أخرى، لا نجد عليها إجماعاً (وليس هذا المطلوب بالأصل).

لذلك هل يمكن أن أطرح السؤال بشكل آخر؟ هل كان الزمن الذي يحتفي به أحمد فؤاد نجم، هو زمن الاحتفاء بالجهل؟

لا يمكن بالتأكيد، ولا بأي شكل من الأشكال، أن نعلق على حياة فؤاد نجم النضالية، أو أن نوجه لها أي «نقد»، إذ لا بد أن نرفع قبعاتنا احتراماً لها، ولكن أن يتذرع شخص باعتبار انه «شـــاعر»، ليمجّد «الجهل»، فهذا ما يحتاج إلى توضيح، على الأقل. توضيح شخصي.

ربما تكون المسألة هكــــذا لأنني شخـــــصياً لم افهــــم هذا الأمر؟ وأبحث عمن يستطيع شرحه لي؟

لكن ومع ذلك كله، لا بد من الاعتراف أنه كان لنجم حضور كبير بحجم شعره. عديدون هم الذين يجدون فيه كل أحلامهم. وهذا الأمر من صنو الأدب ومن أسباب وجوده: أن يكون شخصياً قبل أن يكون عاماً.

فادي ناصر الدين: في حضرة السلطان

يجلس الله على كرسيه وإلى جانبه يقف الشيخ إمام بنظاراته السوداء حاملا عوده بكامل أوتاره وبكامل حنجرته، وإلى جانبه يقف عزرائيل الذي يهمس بأذن الشيخ وبالمحكية المصرية «افرح يا شيخ، نجم جاي، وسايب وراه الهم، هم النيل وهم الطين وهم الشعر الحزين». ولا يخلو المشهد من بعض البلبلة في صفوف الملائكة الذين أربكتهم مراجعة نصوص قصائد أحمد فؤاد نجم وهم يعيدون ترتيبها بمكتبة الله الشعرية تمهيدا لوصول شاعر لطالما لم يستهوه الجلوس في حضرة السلاطين والملوك وما للسلطة من سلطة عليه. تعلم الملائكة أن أحمد فؤاد نجم عرشه قصيدته وسيفه لسانه السليط وهذا ما زاد من إرباكها. الملائكة مرتبكة وكذلك الشيخ إمام، لا شيء يضمن سلوكـــــيات العم نجم في حضرة السلطان الأكبر.

وحده الله كان مرتاحا ومبتسما بعد أن نمي إليه أن آخر جمل الشاعر كانت «السنة لهم أمريكا، الشيعة لهم روسيا، أما نحن الملحدون فلنا الله».

سحر مندور: لحظة من الحب

حلّ خبر وفاة أحمد فؤاد نجم عليّ بهدوء. لم أشعر بحرقة الخسارة، ولا بغضب السرقة. شعرت بحزنٍ مباشر، تحوّل شيئاً فشيئاً إلى ابتسامة وفاء، بينما أحرف الشاعر المتمرّدة دوماً تقفز عشوائياً إلى البال، من هذه الأغنية كلمة، من هذه القصيدة صورة، أحرفه الصارخة والساخرة تسابق خبر الوفاة إلى العينين، باطمئنان إلى أنه رحل بعدما رأى الشعب، شعبه، يملأ شوارع مصر. وهو كان بينهم، بجلابيته البيضاء وشعره الرمادي وعينيه الثاقبتين وفمه المبتسم لآلاف التحيّات والأجسام التي كانت تشدّ نحوه، من الميدان إلى سلم العمارة التي تسكنها دار «ميريت»، التي استضافت اســـتراحات الثوار. ثوار اللغة.

رأى أحمد فؤاد نجم الشارع يصيح ينفض عنه الديكتاتور المزمن، رأى السيدة المسنّة الضخمة تنهض رغم كل الثقل والزمن بجلابيتها السوداء، تلقي عنها تكوّرها بجانب جدار الرصيف، لتحكي عن تساويها بالإنسانية مع ابن الرئيس. رأى قصائده تمتلك حياةً، سمع أغاني شيخنا إمام تساهم في صناعة القول الحرّ، وتحتضنه كتراكم، بمصداقية الزمن. ورأى الشعب، شعبه، يخرج مجدداً ضد حكم عسكري، ورآه يخرج مجدداً ضد حكمٍ إسلامي أصولي، وهو الكاتب وشريك إمام في إدانة الديكتاتور والعسكر والأصولية في آن، وعلى مرّ العقود المصرية. رأى ذلك كله في سنواته الأخيرة، رأى الغد يتجهّز، فلم يرحل من دون هذه المعرفة، وكأنه رحل مكرَّماً.

لم يُسرق منا أحمد فؤاد نجم، هو الذي لم يبتعد يوماً عنا، نحن الشعب الطامح إلى كرامته في العيش وفي الرأي. ولا هو رحل في صحراءٍ فكرية تفتقد كل قطرةٍ أدبية، وإنما في مصر التي تشهد نهضة صغيرة في النشر، شعراً ونثراً، له في كلٍّ من شبابها مطرحاً، زاويةً آمنة.

لقد منحتنا ثنائية إمام ونجم زاويةً آمنة في سنين التشكّل، نحن الذين ولدنا في واقع محكوم بالديكتاتوريات، ومضينا في الحياة ننقدها ونطمح إلى عيشٍ مختلف. أغانيهم منحت المعنى اليساري، معنى العدالة الاجتماعية تحديداً، سياقاً شعبياً سهل القول، سهل التعبير، دقيق الملاحظة، لا يهمل التفاصيل، ولا يتحيّز ضد مُتعبٍ، ولا يهادن أي سلطة، ولو فنية. لقد غاصت كلمات نجم في المعاني تماماً كما تغوص أصابع العائلة المجتمعة في صحن فول بالزيت الحار.

يُقال إن مصر أم؟ فكتب عن آلام حيضها. يقال إن الفول قدر الفقراء، فطالب بحق الموت من اللحمة. قيل إن الضابط تلهّى بالغراميات عن الإستراتيجيا العسكرية، فمدّ نجم يده إلى صدر الضابط، نزع عنه النيشان و«زرع» مكانه وردةً تهكمية. وبقدرة قادر، تراه يخرج من التفصيل ليربطه بأساس المطلب، بأسس العدالة البسيطة، وتحديداً على مستوى الانتصار للفقير. الانتصار له، ليس فقط بوضعه على رأس جدول أعمال أي إدارة لأي بلد وتحديداً لمصر، وإنما لأنه ساهم مع كثيرين في نفض غبار الضعف عنه، وتكريمه بجعله أيضاً المصري الأول، المصري الملك، لما يبذله من جهد مضاعف في حب مصر، وعيشها. لم يخرج نجم بالمعنى إلى بحرٍ جديد، ولكنه ثبّت قصة مصر في أجساد فقرائها. وإذا كان نجم محارباً، فهو أيضاً مغازل مستمر هنا، وصاحب نكتة رائقة هناك، يخرج للقائها متكئاً على زنود الشباب، والشباب يتسابقون إلى تأمين السند لرجلٍ سندهم بينما كان عودهم طري، وها هو يخرج للقائهم وهم يصنعون القصة. يسندونه ليراهم وهم يكملون القصة.

لا قهر في خبر وفاة أحمد فؤاد نجم، وإنما هي لحظةٌ من الحب ملأى برائحة تراب مصر تجتاح القلب والعينين والذاكرة. لحظةٌ من الحب، إحساسٌ عميق بالشكر والامتنان، وأيامٌ كثيرة مقبلة تبرهن أن لغته باتت لوناً من ألوان الكلام.

شكراً لك يا عمّ نجم، على عيون الكلام.

قزحيا ساسين: الفاتح الطيّب

إنّ أحمد فؤاد نجم فاتح لغويّ في دنيا العاميّة المصريّة. فاتحٌ، قلمه أنيق الغمد، وصهيل حصانه يعطّر الأذن وتفتح له القلوب شبابيكها العاشقة.

هو المغامر، المراهن على لغة الحياة، بعيدًا من أي عنصريّة لغويّة. وهو العارف كيف تُعانَق لغة وتُحَبّ حتى تنجب بكلّ ما فيها من شهيّة الإنجاب كائنات يتبنّاها الجمال فلا يعْلَق على حروفها غبار الوقت ولا يذهب بها عنكبوت النسيان.

أحمد فؤاد نجم فاتح لغويّ طيّب. تسكنه قبيلة شعراء. ولا يعرف إن كان يدلّ على القصيدة بإصبعها أو بإصبعه.

أراه الآن. وكلّ آن، أمامي، هرمًا مصريًّا من لحم ودم. في صوته بحّة موشومة بألم الوحي الجميل، وفي عينيه غموض كالّذي تحتـــــضنه مــــياه النـيل.

لقد بنى مملكة من حيث لا يدري. مملكة لا يبنيها إلاّ الفقراء الموهوبون بالفقر والجمال. مملكة لا يغتني صانع تاجها إلاّ بعد موته، وذلك لأنّ الأرض تدير ظهرها للفاتحين الطيّبين، في حين أنّها ترغب إلى أن تكون خاتمًا في إصبع فرعون.

مع أحمد فؤاد نجم لبست العاميّة المصريّة العباءة المقصّبة، وحَنَّت بالحبر الثمين شعرها الطويل، ووقفت على شرفتها العالية تخبّئ مجوهراتها في صدر الغيم الأزرق.

اللغة هي أنثى الشاعر الأولى. والعاميّة المصريّة رمت على نجم شبكة أنوثتها فما أخطأته. أحبَّها من الكلمة الأولى، ولم يخنها مع لغة أخرى حتى الكلمة الأخيرة. إنّه الحبّ الحلال بلا تمييز لغويّ. إنّه الرّهان بكلّ بساطة. رجل يراهن على لغة أو على امرأة، لا فرق. فالخيانة مرفوضة، واللغة والمرأة والأرض ثلاث يعشن على دماء شهدائهنّ.

اليوم، تبكي عاميّة مصر. تبكي لأنّ الهرم الأبهى بين أهرامها قد اعتذر عن الحياة لأنّ كرسيّه على شرفة الخلود في انتظار. تبكي لأنّ الكثيرين من شعرائنا اليوم لا يحسنون الانتماء إلى لغة، والشدّ على جسدها في عناق طويل، لتنجب فلا يبقى أولادها في جسدها ولا تبقى هي محرومة من ولد على زند.

أحمد فؤاد نجم، إنّي حزين حزين، لأنّك تحمل كيس الغياب بطرف عصاك، وأنا مثلك بعد حين، وليس بيننا فنجان قهوة نريده حلوًا فنذوِّب فيه قافية.

علي مطر: فن للجميع

فكرت على الفور، كيف سأوصل الخبر إلى أخي حسن، أصغرنا، المعوّق، الذي أهديته كتابي الأول «المزغرد» والذي لا فن غنائياً يعرفه سوى أغنيات الشيخ إمام والتي طبعاً كتب معظمها أحمد فؤاد نجم.

أدخلت أنا اليساري البريء أغاني إمام ـ نجم إلى عائلتي، في أواسط الثمانينيات، شاركنا أخي حسن في كل تلك السهرات الــتي صدحت فيها الأغنيات، لحناً وكلمات، همّاً وأحلاماً بالعدالة. ذلك الفن أدهشني بالدرجة الأولى.

لطالما وعدت أخي بأني سأجمعه يوماً بأحدهما، إمام أو نجم، والأرجح أنني كنت أمده بالأمل الكاذب.

أحـــــمد فؤاد نجم أستاذ كبير. يستـــحق هذا اللــــقب على ما يقال للبــــطل الشطرنجـــي.

حقق نقلات في العامية المصرية؛ صوته في خلفية الأغنية، بات أصلاً منها. صوته الأجش، حساسيته الشعرية، انفعالاته الفطرية مواد نُحتت في قصيدته. وفيها اجتمع الصراخ والطرب.

لأحمد فؤاد نجم فــــن خاص وصل إلى أخي المعــــوّق ذي القدرات المحــــدودة وإلى أستــــاذ الجــــامعة والمناضل والمثــــقف. فنٌ للجمــــيع. تمــــنياتي أن لا يُستنسخ بــــل أن يُضـاف إليــــه

لبنان الحرب إذ تلقّف نجم وإمام/ عبيدو باشا

لا تمتلك أغنية الثنائي إمام – نجم، خصيصة محددة. ذلك إنها تتضمن، إلى جانب عناصرها الفنية، عناصر أخرى، أكثر دلالة على أهميتها، أولها التعويض عن الشعور بالعبثية وفقدان الكيان لدى الفرد، عندما يجد نفسه أمام الإله الكل/ السلطة. ثم، الدعوة إلى التضامن والأخوة، بعيداً من التزمت الأخلاقي، الدليل الواضح على الإكراه الإجتماعي، مُبطل استقلالية الفرد. أشياء، ضد الهرمية، أساساً. الهرمية بالنظام أولاً. تجربة ضد الذهنيات التقليدية. ذاك ما قاد التجربة اللبنانية إلى التجربة المصرية، لا العناصر الفنية. سوى أن أغنية الثنائي إقترحت حياة أخرى، إقترحت مسوغاً آخر، على التجربة الغنائية العربية.

وجد اللبنانيون العاملون بالأغنية السياسية، الأغنية العربية التقليدية، أغنية جبّة قساوسة، مضى على ارتداء القساوسة لها أزماناً طويلة. عندها، حلموا بالمطلق، بالمتاهة الكونية اللامتناهية. بشّرتهم أغنية الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، بالدغش الذهبي للكتابة. بتفسخ النظام الرأسمالي. لا بالوصافة. ذلك أن أبطال الأغنية السياسية، وهم يحلمون بأمهم الأغنية، تصلي للإله الفضولي الغريب، جدولوا حضور أغنيتهم في المراتب البديلة للأغنية التقليدية. أغنية الوله والحب والغرام، العطشى إلى حضورها المتكرر. نبّهتهم أغنية الثنائي، إلى الضوء الجديد في الأغنية، إلى الضوء الجديد للأغنية. ليس الثنائي، وحده، من نبههم إلى ذلك. لعبت تجربة الأخوين رحباني الدور نفسه. لعبت الأغنية الفرنسية، دوراً في ذلك. الأغنية المختلفة عن السائد.

فيرا وفيرو وبرسنس وبريل. أدّت الأسماء هذه دوراً بارزاً على مائدة العيد الخاصة بالأغنية السياسية في لبنان. أثرت تجربة الثنائي باللغة، من تمردها على النظام، بعدما بَنَت تجربة الأخوين رحباني نظامها وسلطتها. لا مبالغة في القول بأن أحمد قعبور ومارسيل خليفة وخالد الهبر وسامي حواط وزياد الرحباني وأسامة حلاق وحنان مياس والأخوين حافي وغازي مكداشي، وجدوا في الأغنية لغتهم المزدوجة. بالمصوغ وبالمنطوق. وجدوا في اللغة، ما يسمعونه وهم يتكلمون. لا غربة أبداً. وجدوا في أغنية الثنائي، صراخهم ودخانهم وبكاءهم والظلال الخفيفة الأخرى للحياة، في الحياة. وجدوا حساسيتهم في الأغنية، منذ استمعوا إليها، مهربة بأشرطة تسجيل رخيصة، من حفلات خاصة.

احتضنت أجواء اليسار الناشط القوي، في لبنان، خلال السبعينات من القرن الماضي، الأغنية المصرية الجديدة. صدّرت الحلقات اليسارية، الأغنية هذه، إلى النخب اليسارية في مجالي الفن والثقافة. وجدت فيها الأخيرة ما لم تره، في نهارات التعب الماضية. شدّت عليها، وهي تقف في مدن الهاويات، على مشارف الحرب الأهلية، لتضحي الأغنية في الحرب زاداً عند مصبّات الدم الطالع من تثنية اليمين واليسار.

المدهش في الأغنية، أنها عربت نفسها من دون كثير اجتهاد، بعدما قصد الشيخ إمام ما هو وافر في الأغنية العربية، من دون إفصاح أو تصريح: التجويد. لم يوشوش التجويد في الأغنية الجديدة أو المختلفة أو أغنية اللون الآخر. لم يرمّم تاريخه في الأغنية هذه، إذ أوجده بضربة واحدة بصوت هارب من مضامين الرسائل إلى عكس الأشياء الخلفية على حافة الشاطئ العربي، الأشياء  السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية والفكرية، عكسها على مرايا الناس في بيوتهم المصغية في اتجاه واحد. جففت الأغنية شعر الشباب الجدد بتجربة الأغنية الجديدة، شعرهم المبلول بالحسرات والإنتظارات والأصوات المبهمة، بعدما كادت تحترق تحت مجففات الشعر المحلية. وجدوا في الأغنية حشودهم المنتظرة. فك ذلك، طلاسم الوصلات الصوتية. توحدت الأصوات في الأغنية، ثم تفارزت، منذ أن فرّغ أحد الناشرين اللبنانين شريط حفلة خاصة، مسجلة، للثنائي المدهش، ناسباً كل النصوص إلى أحمد فؤاد نجم، من نصوص نجيب سرور إلى نصوص زين العابدين فؤاد.

لم ينسَ اللبنانيون الصورة المتداولة لزياد الرحباني وهو يهتم بأكوستيكات الصوت والآته في واحدة من حفلات الشيخ إمام، بالعيد الستين للحزب الشيوعي اللبناني، ذلك أنه الأقرب إلى تجربته وخصوصاً في “أنا مش كافر”، حيث مازج بين حساسية الشيخ وحساسية أحد أبرز مغني بيروت بأغنيته المعتبرة مختلة، عمر الزعني. غنى أحمد قعبور “أناديكم” بعدما غناها الشيخ إمام، محضها نهر ندائها، بمحركين، في حين بدت أغنية الشيخ أغنية لحن جنائزي رقيق بمحرك واحد. غير أنه كلما طال أمد العلاقة بأغنية الثنائي، انحلت ضفيرة من ضفائر الشعر المشترك بين الأغنيتين. هكذا، بدأت الأغنية السياسية في لبنان تدوّر حضورها وترتجّ بخصوصياتها أكثر وأكثر. الأهم، أن الأغنية السياسية اللبنانية، وجدت أسوتها بنفسها، من خلال ممارسة الإشتباك المباشر مع الطرف الآخر في الحرب اللبنانية.

أغنية يسار ضد يمين. لا أغنية عامة تخاطب الهم العام والشأن العام، كما فعلت تجربة المثنى المصري، بكلمات أحمد فؤاد نجم وغيره من شعراء العامية المصرية. بدت الأغنية اللبنانية كدراجة نارية أمام حصان الأغنية المصرية، وهي تخوض الحرب بأدواتها. “غيفارا” من الثنائي. “إسمع” من أحمد قعبور. “شرفت يا نيكسون بابا” من الأْولين، “يا علي” من مارسيل خليفة و”نشيد الظل العالي” من خالد الهبر. وهكذا. “غيفارا مات.. آخر خبر في الراديوهات”. “ياعلي نحن أهل الجنوب.. حفاة المدن.. نروي سيرتك.. على أصفى البرك والأودية.. إن حطام ابنائك واسلحتهم.. تغطي السفوح”. أغنية اللبنانيين السياسية، أغنية حرب. أغنية اشتباك. أغنية الثنائي نجم وإمام، أغنية هجّاءة. أغنية نقد وسخرية، إلى درجة أن الشيخ إمام راح ينشز عمداً في الأغنية ويتنحنح، ويدفع من ليس له علاقة بالغناء إلى المشاركة بالغناء فيها.

لم تبقَ الأغنية السياسية نفسها على الدوام، في حين بقيت أغنية الثنائي نفسها. الأغنية السياسية في لبنان أقرب إلى أغنية التشيلي فيكتور خارا، الإلتواءة العذبة العظيمة في عهد سالفادور الليندي. قطع بينوشيه أصابعه في أحد ملاعب كرة القدم أمام مدارج غاصة بالناس. الأهم في تجربة الثنائي المصري، اللغة البكر فيها. رحمها الخصب، وافتراع التجارب المختلفة عنها ومنها. مات الشيخ إمام. مات أحمد فؤاد نجم، مشدوهاً بهوة اللغة الجديدة وهي تمد يدها للتشويش على العالم. أخرج الرجلان الأغنية من غيتوهات الأغنية الوفيرة، بعيداً من المجاملات.

السفير

احمد فؤاد نجم ‘شاعر الغلابة’ الذي رحل شامخا ولم يعلن التوبة

تستعرض القدس العربي لليوم الثاني شهادات لمجموعة من الكتاب والأدباء العرب في رحيل الشاعر المصري الكبير احمد فؤاد نجم، الذي حركت قصائده العارية والجرية حناجر المتظاهرين في ساحات التظاهر المصرية والعربية ضد الأنظمة الشمولية.

(النجم الذي هوى)

اياد حياتلة ‘

قد يبدو غريباً أن يثيرَ موتُ رجلٍ في عقده التاسع شيئاً كثيراً لفلسطينيٍّ سوريّ في وقتٍ تحصد فيه آلةُ موتِ النظام السوري عشرات الشهداء يوميّاً، أمّا أن يكون ذلك الرجل هو الشاعر أحمد فؤاد نجم فتلك مسألةٌ أخرى.

الشاعر المصريّ البسيط، إبن حواري وزقاقات القاهرة الأكثر فقراً وحرماناً، الذي حوّل كلام الشارع المصريّ العادي إلى شعرٍ سياسيٍّ غنيٍّ بسخريّته المرّة، ومُفعمٍ بروح الثورة والأمل، والذي كان بمثابة رافعةٍ لروح الشباب العربي المعنويّة بعد نكسة حزيران، وحافظ على ذلك حتّى زمن الربيع العربي.

أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى، اللذان شكّلا في ستّينيات وسبعينيات وبعض ثمانينيات القرن الماضي ظاهرةً نادرةً تجلّت فيها توأمة الكلمة واللحن، الشعر والموسيقا، الكلمة الصادقة التي خرجت من الزنازين تدافع عن الفقراء والغلابة وتشدّ أزر الثائرين في فلسطين وأماكن كثيرة من العالم، وتنبضُ بالحبّ لمصر وأبنائها البسطاء وتاريخها ومستقبلها، واللحن العفوي المنسابُ من بين أصابع شيخٍ زاهدٍ فاقد البصر نيّر البصيرة.

كلمة أحمد فؤاد نجم، وعود الشيخ إمام، وطبلة محمّد علي، كانوا بمثابة فرقة أوركسترا للشعب العربيّ كلّه، يغنّون سيمفونيّة الحياة، صوتهم أعلى من صوت كلّ وزارات الإعلام العربيّة التي حاربتهم، فتلقّفتهم قلوب الجماهير تتناقلُ أشرطتهم السريّة بالخفاء، وتحفظ أغانيهم عن ظهر قلب، لتشدو بها في سهراتها الحميمة، وبعدها في الشوارع والميادين: (عمّال وفلاّحين وطلبة .. دقّت ساعتنا وابتدينا .. نسلك طريق ما لوهش راجع .. والنصر قرّب من عينينا)

ولكنّ للشاعر نجم ما له، وعليه ما عليه، وممّا يُحسب له وقوفه إلى جانب الثورة السوريّة وانتقاده نظام الأسد ومعاتبته لصديقه السابق حسن نصر الله وتذكيره إيّاه بأنّ الأسد يفعل بشعبه مالا تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، رغم أنّ الشاعر نجم قد عاش في سوريا فترة طويلة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكان منذ ظهوره بأمسية شعريّة في العام 1984 في صالة تشرين الرياضيّة بدمشق، (اللافت للنظر أنّ الشاعر أحمد فؤاد نجم قد أحيا وقتها هذه الأمسية منفصلاً عن رفيق دربه الشيخ إمام، الذي كان قد أحيا بدوره أمسيةً لوحده قبلها بأسابيع في نفس المكان) ضيفاً شبه دائم على الإحتفالات والمهرجانات الرسميّة السوريّة والذي كان آخرها مشاركته بمهرجان دمشق عاصمة ثقافيّة قبل سنواتٍ قليلةٍ فقط في قلعة دمشق، ولكنّ الشاعر الذي تحسّس نبض الجماهير طوال عقودٍ من النضال والمعاناة أبى إلاّ أن ينحاز لها.

أحمد فؤاد نجم، الشاعر الفطري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، مات في زمن إنكسار الحلم الذي كتب له وتنبّأ به، في زمنٍ لم تعد فيه مصرُ بهيّة، بينما أحفاد الحلواني الذي بناها يشاركون في هدمها.

لروحك الرحمة أيّها الشاعر

ولقصائدك الخلود

‘ شاعر فلسطيني

شاعر الغلابة

مريم ناصر ‘

أحمد نجم مات!

شاعر الغلابا مات!

ابن النيل مات !

ابن الشوارع والأزقة والجلابية المصرية التي يتمسك بها ،،مات!

أحمد السليط،،مات

أحمد الشاعر،،مات!

الوحيد الذي يجعلك تشتمته وتصفق له،،مات!

الذي يجعلك تضحك وتشعر بالغصة في آن، رحل بهدوء،

لا ،لا أظنه رحل بهدوء،

ربما رحل وهو يشتم الذين لا يجامل في كرههم!

ربما رحل وقلبه ينبض بقوة لحب جديد، هو الذي لا يتوقف عن الحب أبداً!

نجم لا يموت يا أصدقائي،

ابتسم وأنا أتخيل روحه هذه اللحظة يطل علينا من الأعلى، يلقي قصيدة،وربما يشتم أحدهم، لكنه بالتأكيد يقول: بحبك يا مصر!

السكينة والسلام والرحمة على روحه

‘ كاتبة من الامارات

الصعلوك النبيل في ذمّة الخلود

عيسى الشيخ حسن ‘

لم يكن أحمد فؤاد نجم غير خبر مقترن بالشيخ إمام، إلى أن وقفت أمامه وجهاً لوجه، عام 1984 في المركز الثقافي بمدبنة الحسكة السورية، وقصيدته الأثيرة عن كلب الست.

أحمد فؤاد نجم حالة ثقافية فريدة، يندغم فيها الصعلوك، بالمثقف العضوي، بالأديب الساخر، بالسياسي (النكدي)، مثلما ظلّ مثار أسئلة في انتماءاته و أفكاره، ولكننا بقينا نحبّ نجم الفاجومي، لأنه نبض الشاعر في براءته و عفويته، و مزاجيّته المتقلبة المتغيرة إلا من الثوابت الأساسية لأمة ارتهنت إلى نظيرة المؤامرة.

رحل شاعر (البتاع) و(في الزمالك من سنين) وهجائيات مبارك في السنوات الأخيرة، بعدما ترك ومبارك معاً مصر في صراعها الحادّ بين العسكر و الإخوان في لعبة السلطة من جهة، و الجمهور العريض في تلمس درب الحرية من جهة أخرى.

‘ شاعر سوري

مرثية.. لنجم سقط في الأفول

محمد المحسن ‘

الإهداء: إلى الشاعر أحمد فؤاد نجم في رحيله الشامخ..

‘العبرات كبيرة وحارة تنحدر على خدودنا النحاسية..العبرات كبيرة وحارة تنحدر إلى قلوبنا’(ناظم حكمت(

‘أبدا لن يموت شيء مني..وسأبقى ممجدا على الأرض ما ظلّ يتنفّس فيها شاعر واحد’ (الكسندر بوشكين)

كيف تسلّقت أيّها الموت فوضانا

وألهبت بالنزف ثنايا المدى

وكيف فتحت في كل نبضة من خطانا

شهقة الأمس

واختلاج الحنايا..

ثمّ تسللت ملتحف الصّمت مثل حفاة الضمير

لتترك الجدول يبكي

والينابيع،مجهشات الزوايا..؟!

‘ ‘ ‘

أحمد:

لِمَ أسلمتنا للدروب العتيقة

للعشب ينتشي لشهقة العابرين..

لٍمَ أورثتنا غيمة تغرق البحر

وأسكنتنا موجة تذهل الأرض

ثم رحلت؟!

فكيف نلملم شتيت المرايا..

نلملم جرحك فينا

وكيف نرمّم سقف الغياب

وقد غصّ بالغائبين؟

فهات يديك أعنا،لنعتق أصداف حزننا

وهات يديك إلينا،أغثنا

لننأى بدمائنا عن مهاوي الردى

فليس من أحد ههنا،أحمد

كي يرانا..في سديم الصّمت،نقطف الغيم

ونزرع الوَجدَ

في رؤوس المنايا..

يا أحمد فؤاد:

ههنا..

نضيء الثرى بين جرح وجرح

ونسأل الرّيح وهي تكفكف أحزانها:

ما الذي ظلّ لنا !؟

غير – وطن- كلّما قلنا ننسلّ من عشقه

أفرد للنوايا بساطا

وألهب فينا جمر العشايا

‘ ‘ ‘

أحمد:

كم قطّرتك القصائد..لنشرب ضوءك

قم من سباتك وجُرّ الفيافي لنبعنا

لينتعش الظامئون بمائك

مصر ما ذبلت

ها هي واقفة في انحنائها

كأن تراها شامخة بالحنين

غير أنّها تأهبت في الحزن

حتّى تهدّل منها الشذا

وأسرجت دموعها بواحات وجدك

حتّى تراءى لها وجهك كطيف في حلمها

فكم ليلة ستظل -أحياء الفقراء- تحلم..كي لا يهرب الوجد منها

وكم يلزم- القاهرة- من الدّمع كي ترى الجرح

أجمل

كي تراك..

كي ترى وجهك- ولو مرّة- في تضاعيف الثنايا..

‘ عضو اتحاد الكتاب التونسيين

هل تُبْت يا فؤَاد عن حبِّنا؟

سعيد غيدى ‘

أرَحلتَ كآخر النّهار، في سَاعَة الرّماد والهَشيم، لا زَاد، لا مطيّة، لا أنِيس، سوَى البُروق والهَزيم، ..أرحلْت ككَاهنٍ مجُوسِي قدِيم.. !!

أيّ شيءٍ أتعب فؤَادك؟ وأيّ سماءٍ ضاقَت بنجمِك؟ لم نعتَد أن نرَاك تحزِم حقائِبك تحمِل فيها ‘الأمّ’ تِلك الرّواية الرّوسية التّي علّمتك كيْف تركبُ حصَان طروادَة وتُعلنُ الحرْب على دونكيشوت، وعلّمتك أنّ سلفادور دالي ليْس رسّاما بل نبي يُوحى ليسمُو بنا خارِج قذارَة الكلاسيكية المملّة…تِلك الواقِعية يا شاعرَنا الغَائب جعلتْك تلعَنُ حمِيرا كانتْ تنهقُ من على صوامع محافظة الشّرقية، آهٍ من حُزنك يا مدينة نجم فُؤاد…الأسودُ يليقُ بك يا مصْر..

كَم كُنّا نحبّك، وكمْ نحنُ أمناء أن ننقُل حبّك إرثاً لجيلٍ يعرِف أنّك انتصبْت جبلا عندمَا شاءتِ الرّيح أن تعصِف ببلاد كنعَان، فبقِيت شامِخا، لم تكُن وحدك يا ابن أكْثر من أمٍّ…لم تكُن وحدَك…كلّ أرحَام مصر أنجبتْ منكَ جُزءاً…إلا القوَافي امتدّت في الزّمن والمكَان، الآن من البحْر إلى الخلِيخ، كنّست المدِينة كلّ المغنّين، وأنتَ كُنت شاهِداً على سقُوط الحرْف في إناء البلاط، فاخترْت أن تمشِي مُنتصِب القَامة، لمّا انحنَت القَامات تُبايِع فوقَ الشّجرَة…كمْ نحبُك يا ابن أكثَر من أمٍّ..

هل كَان ميلادك ذات مايْ اختِياريا كيْ تولَد مع العمّال والفلاحين والفُقراء، أمْ أنّ ضرُروة الانتمِاء إليهم بديهية لهذا الحدّ؟ لم نسمعْ لك يوماً أنيناً غيْر أنّ أنين البِلاد نسمعُ، رأينا في عُيونك الشّاحِبة حُزناً لم يحزنْه يعقُوب على يُوسف…قرأنا في تجاعِيدك تارِيخا عربيا ممشُوقا وحقائقاً تتسربلُ في زمنِ النّخاسَة، عرفْنا أنّ الذي يُوجعكَ أكبَر من قضِية محدُودة في المكَان.

كُنت ترعَى الغنَم، وتلكَ شرُوط النبوّة وكُنت خيرَ نبيٍّ شاعرٍ، وإذا كان محمّداً اتّهمتهُ القبِيلة بالجنُون والشّاعر، فأنت بشعرِك سموتَ وترفّعت وقالتْ لك السّماء: كُن فكُنت خير رسُولٍ أخرجَ لحفدَة أمّ هاشِم، رضيتْ عنكَ زينبْ، فكمْ كنتَ بارّا بوالدتِك، وكم نحبّك يا ابن أكثَر من أمٍّ..

في القلبِ حزنٌ كبِير، وفي الأحذاقِ دمُوع تحجّرت، وخلْف جنازتِك ألف سؤال يتوشّح بالسّواد والكرز، لستَ غريباً كيْ نسأل من يكُون الشّخص الغرِيب، أيحقّ لمصْر أن تصفُو سماؤها ونبّيها لم يتمِم نعمتهُ عليْها ولم يكمِل لها دينَها، وإن رضِي لهَا الياسمِين نشيداً..

حللْت بالأرضِ أهلا، وقُل للشّيخ إمَام هل تُبت عن حبّنا؟ وان كان أمل العشّاق القُرب، وأنا أملي ف حبّكم هو الحُبّ..

ماذا سأُعلن الآن أيّها المترجّل نحو الغياب؟ أأنعى رحِيلك سَاعة القضاء من غير رفاقٍ يودّعُونك، أم أذيعُ خبرك في الرّاديوهات والكنائِس والجوامِع والحوَاري؟ سأقُول كفايَة: مات المُناضل المِثال !!

‘ كاتب مغربي

القدس العربي

“كل يوم تودّعي حد من عيالك المخلصين يا مصر”

أحمد فؤاد نجم.. ستظل تزعجهم من هناك!

القاهرة ـ حمدي رزق

“الفاجومي مات، آخر خبر في الراديوهات، وفى الكنايس، والجوامع، وفى الحواري، والشوارع، وع القهاوي وع البارات، الفاجومي مات، واتمد حبل الدردشه، والتعليقات، مات المناضل المثال، يا ميت خسارة على الرجال”..

“يا خسارة.. يا خسارة” ظل الرجل يردد كلماته باكياً، وهو يسير في الجنازة التي شيعها المصريون ظهر الثلاثاء الماضي، يغالب دموعه ويجري ناحية النعش يلمسه ويضعه فوق إحدى كتفيه، من دون أن يكف عن ترديد الكلمة الوحيدة التي عبر بها عن رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم، “يا خسارة، كل يوم تودعي حد من عيالك المخلصين يا مصر”.

حزن ذلك المصري المفجوع برحيل الفاجومي لا يقل عن حزن باقي المصريين، الذين حولوا مواقع التواصل الاجتماعي إلى سرادق عزاء في وداع “نجم”، فهذا خالد علي المرشح الرئاسي السابق يقول “آه يا رفاقة متاهات الطريق لما الصديق ف الضلمة يخبط ف الصديق، والسكة بنت الخطوتين تاخد سنة.. الوداع يا نجم”، وقدم أبو العز الحريري، المرشح الرئاسي السابق، التعازي قائلاً: “إلى أسرة نجم وبني وطنه الراحلين والقائمين والقادمين تحية فالعزاء يكون للعامة اما الخالدون فتحيتهم تتجدد في كل مسعي للحياة الأفضل”.

“عم نجم توفي! أحمد فؤاد نجم مات، كثير منا أصبح يتيماً اليوم”.. ما زال الناشط الحقوقي جمال عيد مندهشاً ذاهلاً أن نجم رحل من بيننا، وقدم حمدين صباحي، مؤسس التيار الشعبي، التعازي قائلاً: “عمال وفلاحين وطلبة يودعون اليوم صوتهم العفي النقي الجسور وداعا شاعر الشعب”.

“أحمد فؤاد نجم ستظل تزعجهم من هناك، الوداع يا صاحبي”.. هكذا ودعه الشاعر مريد البرغوثي، بينما قال الإعلامي السوري فيصل القاسم “لم يكن شاعراً فقط، بل كان روح الشعب وصوته الحقيقي.. نقل عذابه ومعاناته بعيداً عن التزييف والتحريف”.

“أنا عارف إن عقلي عبارة عن مخ وفص يمين وفص شمال وكمان خلايا كتير لكن كمان فيه حروف أحمد فؤاد نجم”.. قالها الفنان خالد النبوي بكثير من الأسى، فيما نعته الفنانة هند صبري بقولها: “أحمد فؤاد نجم مات، عنصر كبير في تشكيل ثقافتي عن مصر لأن أبي من عشاقه.. حبب الفلاح والعامل والأميّ في الشعر.. قلم وصوت القوميين والاشتراكيين والحركات الطلابية في الستينات والسبعينات وقلم ثورة البارحة واليوم.. صوت جيل.. البقاء لله يا مصر.. أنا حزينة”. وكتب الفنان نبيل الحلفاوي “العمر مش بينقص بالسنين اللى راحت.. بينقص بالحبايب اللي راحت.. واحد ورا واحد دنيتنا هيه اللى بتسيبنا.. لحد مانسيبها”.

ونعى الروائي علاء الأسواني، “المناضل الشجاع الصلب، أحد آباء الثورة المصرية، عاش ومات على العهد والمبدأ.. رحمه الله بقدر ما أخلص لفنه ووطنه”. أما الفنان خالد الصاوي، بطل فيلم “الفاجومي” فقد اعتبر أن “روح الشاعر العظيمة القوية المرحة والراضية والمؤمنة، شعرت أنها أكملت رسالتها وتطلب من محبيه مقاومة حزنهم على فراقه”.

“أنا فلاح مصري، ومواطن عربي منتهك الأرض والعرض مكبل ومطارد.. أنا حفيد الفلاح الفصيح.. فلاح مصري فاهم كل حاجة ولا أستطيع أن أبلع لساني”..

إنه “آخر الصعاليك المحترمين”، “شاعر تكدير الأمن العام” أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العامية على الإطلاق في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي مثّل أحد أهم الظواهر الشعرية السياسية المصرية، وأحد أبرز اليساريين المناضلين الذين دفعوا أثماناً من أعمارهم خلف القضبان من أجل التعبير عن الروح النضالية لهذا البلد، مازجاً هموم الطبقة العاملة بالسخرية والحقيقة المرة للقهر.

لم ينفصل نجم يوماً، الذي عرف بلقب “الفاجومي” -كلمة عامية مصرية تصف الشخص الذي يعتمد النقد اللاذع وسيلة للتعبير- عن هموم الشعب المصري، ولم ينج رئيساً مصرياً من انتقاده الحاد، وهو ما جعله يقضي نحو 18 سنة من عمره بالسجون منها 11 عاماً قضاها بالسجن بعد سخريته من حديث تلفزيوني للرئيس الراحل أنور السادات، ولكن الحكم جلب له شهرة واسعة أيضاً.

و”تقديراً لمساهماته وأشعاره باللهجة العامية المصرية التي ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب، فقد تميزت قصائده بحس نقدي ساخر وبتأكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية”، فقد نال جائزة الأمير كلاوس الهولندية قبل شهرين، لكن القدر لم يمهله حتى تسلم الجائزة التي كان مقرراً لها العاشر من ديسمبر/ كانون أول الجاري.

كانت آخر كلمات نجم التي ألقاها عقب إحياء أمسية شعرية بالعاصمة الأردنية عمان منذ أيام، إنه يرى ما حدث في 30 يونيو موجه ثالثة للثورة، وأن مصر “مامتتش”، معبراً عن عدم رغبته في ترشح الفريق السيسي للرئاسة قائلاً: “السيسي خليه للجيش وبس”، أما الإخوان فقال عنهم “خليهم يغوروا بقى”.

وبالرغم من سنوات عمره المتقدمة التي بلغت 84 عاماً، إلا أن نجم كما قال في إحدى مقابلاته العام الماضي “يكتب كإبن 25 عاماً ويشرب كإبن 25 عاماً، ويسعد إمرأة كابن 25 أيضاً”..!

“زي النهارده من كام سنه مفيش لزوم للعد والحسبنه/ أصل الحكايه عد عمرك يا جحا/ قال يوم مفلس وخمسه سته عكننه/ فلس… فلس… فلس يحيا الفلس والجدعنه”.. كان اليوم 22 مايو/أيار عام 1929، وكانت قرية” نجم ” بمحافظة الشرقية على موعد مع ذلك الطفل “المعجون بماء عفاريت” ليس لشقاوته فقط، بل لأن مجيئه إلى الحياة شهد أيضاً عدداً كبيراً من الكوراث العائلية، تعددها له أمه كلما ضاقت بشيطنته، فتلعن “اليوم الأسود” الذى ولد فيه، ففي الصباح جاءها الخبر بأن أباه يريد أن يتزوج عليها وفي الظهر مات زوج أختها العروس الشابة، وفي الأصيل انفجر موقد الجاز في وجه جارتها الحسناء الشابة ولقيت مصرعها في لحظات يا كبدي..!

فى المساء كانت آلام الوضع الرهيبة فوق كل احتمال، لأن المولود اللعين أبى أن يخرج إلى الحياة برأسه وأصر على النزول بقدميه وعجزت الداية عن سحبه فنقلوا الأم الى المستشفى وهي بين الحياة والموت، وهناك تبين أنها حامل في توأم. أخرجوا الولد الشقى، ثم أخرجوا بعده توأمه، وكانت طفلة غاية في الجمال، لكنها خرجت إلى الحياه ميتة “وتلاقيك انت اللي قتلتها جوه يا مجرم يابن المجرم”..!

بهذا الاتهام تختم الأم في كل مرة سردها لأحداث “اليوم الأسود” الذى شهد خروج هذا الطفل المشاغب الى الحياة. ومثلما رفض الشقي النزول الى الحياة بطريقة طبيعية وفضل أن ينزل إليها ماشياً فقد عاش عمره كله ماشياً في بلاد الله خلق الله يلاطم الحياة وتلاطمه ويأبى أن يلتزم بقوانينها يفعل ما يحلو له حين يحلو له مهما كانت العواقب.

كانت الأم فلاحه مصرية جميلة، أمية لاتقرأ ولا تكتب لكنها موهوبة بالفطرة، تجيد الكلام ورواية الأحاديث والنوادر والأمثال، وتصوير الشخصيات تصويراً لاذعاً وصادقاً يبعث الضحكة من الأعماق وحين يغلبها الشجن تغني بصوت جميل مواويل حزينة.

تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة الوسيم “المتعاجب”، صاحب العلاقات النسائية العديدة، فعايشت الخوف من أن يتهدم عشها فوضعت “13 بطناً، منها 4 مِجوز” – توأم – وكان شاعرنا عضواً في “المجوز الرابع والأخير” نزل الى الدنيا متهماً بارتكاب جريمة قتل داخل رحم أمه! أما السبعة عشر مواطن الذين أنجبتهم فقد بقي منهم على قيد الحياة خمسة فقط، وسادس لم يره وإنما سمع أنه مفقود من الأسرة منذ سنوات.

رحل والده وهو في السادسة من عمره، فانتقل للعيش ببيت خاله بالزقازيق وتلقي تعليمه في الكتّاب مثل عامة المصريين، ثم وضع في ملجأ أيتام، وهناك كان أول لقاء له مع العندليب عبدالحليم حافظ. ثم ترك الملجأ في سن السابعة عشر، وعاد إلى قريته قبل أن ينتقل للقاهرة للعيش مع شقيقه قبل أن يرسله للقرية مرة أخرى.

عمل نجم في معسكرات الإنجليز متنقلاً بين مهن كثيرة، وفي “فايد”، وهي إحدى مدن القنال التي كان يحتلها الإنجليز، التقى بعمال المطابع الشيوعيين، وكان في ذلك الحين قد علم نفسه القراءة والكتابة، واشترك مع الآلاف في التظاهرات التي اجتاحت مصر سنة 1946، وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال.

خرج الشاعر مع 90 ألف عامل مصري من المعسكرات الإنجليزية، بعد أن قاطعوا العمل فيها على اثر إلغاء معاهدة 1936، وكان يعمل بائعاً حينئذ، فعرض عليه قائد المعسكر أن يبقى وإلا فلن يحصل على بضائعه، ولكنه تركها وذهب.

عمل في وزارة الشؤون الاجتماعية طوّافاً يوزع البريد على العزب والكفور والقرى. وكان يعيد في هذه المرحلة اكتشاف الواقع بعد أن تعمقت رؤيته وتجربته. شعر حينئذ، رغم أنه فلاح وعمل بالفأس لمدة 8 سنوات، أن حجم القهر الواقع على الفلاحين هائل وغير محتمل. كان يجد في الواقع المصري مرادفات حرفية لما تعلمه نظرياً، كان التناقض الطبقي بشعاً.

في سنة 1959 شهد الصدام الضاري بين السلطة واليسار في مصر، على إثر أحداث العراق، وانتقل من البريد إلى النقل الميكانيكي في العباسية، أحد الأحياء القديمة في القاهرة. يقول “في يوم لا يغيب عن ذاكرتي أخذوني مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس وهناك ضربنا بقسوة حتى مات أحد العمال وما زالت آثار الضرب واضحة على جسدي”.

عمل في ورش السكك الحديدية، واتهم في عملية نقل معدات من الورش، شهدت عمليات نهب واسعة، بالتزوير، وسجن لمدة 3 سنوات بتهمة التزوير في أوراق رسمية، ولكن للمفارقة اكتشف قدرته على الكتابة في السجن حين شارك في مسابقة نظمها المجلس الأعلى للفنون والآداب، وفاز بالجائزة الأولى وصدر له ديوانه الأول “صور من الحياة والسجن”، الذي كتبت له المقدمة سهير القلماوي، ليشتهر وهو في السجن.

يقول نجم “كانت أهم قراءاتي في ذلك التاريخ هي رواية الأم لمكسيم غوركي، وهي مرتبطة في ذهني ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم، والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته. ولم أكن قد كتبت شعراً حقيقياً حتى ذلك الحين، وانما كانت أغانٍ عاطفية تدور في اطار الهجر والبعد ومشكلات الحب التي لم تنته حتى الآن وكنت في ذلك الحين أحب ابنة عمتي وأتمناها، لكن الوضع الطبقي حال دون اتمام الزواج لأنهم أغنياء”.

بعد خروجه من السجن تم تعيينه موظفاً بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية، وأقام في غرفة على سطح أحد البيوت في حي بولاق الدكرور.

تزوج الفاجومي 9 مرات، كانت أولى زوجاته تدعى فاطمة منصور، والتي أنجب منها ابنته عفاف، ثم تزوج من الفنانة عزة بلبع، والكاتبة الصحافية صافيناز كاظم وأنجب منها نوارة نجم، وتزوج من ممثلة المسرح الجزائرية الأولى صونيا ميكيو، وأخيراً تزوج من السيدة أميمة عبدالوهاب والتي أنجب منها ابنته زينب، ولدى نجم ثلاثة أحفاد هم مصطفى وصفاء وأمنية.

أما فؤاد نجم نفسه فيعترف بأنه رجل مزواج، قال: إن آخر زوجاته هى الثامنة أميمة عبدالوهاب أو أم زينب، كما كان يحب أن يناديها، وقال إن بعد زواجه الأخير أصبح عطلان مبرراً زواجه من أم زينب رغم جهلها وأميتها وبدانة جسمها من أنه يحس معها بالحنان؛ حيث اعترف بأنه كان “حماراً” من زواجه بأخريات. وأطلق على زوجته الأخيرة في إحدى الحلقات اسم “التروماي” قائلا إنه تزوجها وكان سنها 19 عاماً بينما كان عمره 61 عاماً، مؤكدا أنه لا يستطيع أن يغيب عنها كثيراً.

أما الكاتبة صافيناز كاظم الزوجة السابقة للفاجومي فتقول “أنا أفهم نجم أكثر مما يفهم نفسه، فنه من النوع الغريب الممتع وقد تزوجته من باب الفداء، قلت هذا الرجل يستحق أن أفديه ولذلك سميت زواجي به عملية استشهادية”.

كانت رحلة نجم تنتظر فناناً بوزن وقيمة الشيخ إمام حتى تخرج أشعاره كنموذج فريد يعبر عن الفقراء الذين أخلص لهم، وهو ما وضعه القدر في طريقه حيث تعرف على الشيخ إمام في حارة “خوش قدم” ليقرر أن يسكن معه، ويرتبط به حتى أصبحا ثنائياً معروفاً، وأصبحت الحارة ملتقى المثقفين.

يروي نجم “مع بدايات عام 1968 بدأت الدائرة تتسع حولنا كل ليلة في حوش قدم. أفواج من الناس تتقاطر على المنزل رقم(2) بعطفة “سعد العرسه”، كل ليلة نشوف وجوه جديدة، وكل ليلة المرحوم الشيخ إمام يتوهج ويبدع وأجهزة التسجيل شغاله على ودنه والمدهش أننا لم نشعر بأي وجود أمني، ربما لأننا كنا نعيش حالة من النشوة لمجرد تعارف المريدين على بعض كل ليلة.. كل ليلة أعرف ناس جداد واجعهم جرح الوطن العزيز، محدش كان بيفكر في الشهدا اللي ماتوا تحت جنازير الدبابات المصنوعة في الولايات المتحدة، من أجل سواد عيون إسرائيل، وبدأنا نفتح على العالم، ويتحرك ركبنا الميمون في اتجاه الأصدقاء الجدد. وكان أول خروج لنا من حوش قدم على يد الفنان “عدلي رزق الله ” الذي كان يقضي معنا أكثر أوقاته”.

أصبح الثنائي من أهم ظواهر تظاهرات الطلبة في الجامعات المصرية مطلع السبعينات، حيث انتشرت أغانيهما في الوسط الطلابي، وكان لها دور كبير في انتفاضة الخبز 19 يناير/ كانون الثاني 1979، التي أطلق عليها الرئيس السادات اسم “انتفاضة الحرامية”. واتسع نطاق شهرتهما في العالم العربي، بينما تعرف العالم إليهما بعد أن غنى الشيخ إمام قصيدة “جيفارا مات”.

يقول نجم عن رفيق حياته إنه “أول موسيقي تم حبسه في المعتقلات من أجل موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم”..! لكن يشاء القدر مرة أخرى أن ينفصل الثنائي الرائع بعد فترة، حتى أن الشيخ إمام اتهم نجم بأنه كان يحب الزعامة وفرض الرأي وإنه حصد الشهرة بفضله ولولاه ما كان نجم..!

“أحياناً بتبقى الكلمة زهرة رقيقة، لما بتبقى رايحة للحبيب، وأحياناً بتبقى الكلمة رصاصة لما بتبقى رايحة للخصم الكفؤ وأحياناً بتبقى الكلمة حذاء لما بتبقى رايحة للحاكم الظالم المستبد، وحاشيته اللي بتحلل له الحرام،

 “كل يوم تودّعي حد من عيالك المخلصين يا مصر”

وتقويه على ظلم الرعية، وفوق دا ودا بتحرسه وتحميه من غضب المظلومين”.. وهكذا ظل يلقي الفاجومي بحذائه في وجوه الحكام المستبدين، فعرف المعتقلات السياسية التي قال عنها “قبل ما أعاشر أمن الدولة في سجون ومعتقلات مصر المحروسة، كنت حمار لابس قميص وبنطلون، صيف شتا، وماشي بينهق ويقول بعلو صوته أنا أجدع حمار فيكي يا مصر يا محروسة”.

“شقع بقع يا ديل الفار/ الشيخ إمام قال كلمة حق/ الست سومه/ قالت لك لأ/ وأبو النجوم على ودنه انزق/ في المعتقل والدنيا نهار”.. وجد الفاجومي نفسه أمام محقق “شكله كريه ومكعبر في بعضه” الذي بادره قائلاً: انت حتقول كل اللي احنا عايزينه وبالذوق.. اتكلم بقى، أجابه “نجم”: أنا من أبناء ثورة 23 يوليو. ضحك المحقق وقال: كل العملاء والجواسيس بيقولوا كده! عاد ليسأله: انت اللي كاتب “بقرة حاحا”؟ أجاب: أيوه.

– وانت اللي كاتب “خبطنا تحت بطاطنا”؟

– أيوه.

عاد نجم من التحقيق ودخل زنزانته ولأول مرة منذ القبض عليه ليلة 15 مايو/ أيار يشعر بمرارة القهر، بعدما تخلص من الرعب الذى استولى على مشاعره، وحوله إلى كائن ضعيف يستقبل فقط من دون أي رد فعل!

بدأ يتماسك استعداداً لرد الفعل بالشعر الذي لا يملك سواه، ظل يستعيد ما حدث في مكتب التحقيق والمحقق الذي بمجرد اختفائه اقتحم مجموعة من المخبرين الحجرة وهجموا على “نجم” وطرحوه أرضاً وأمسكوا بقدميه وانهالوا عليها بخيرزان غليظة. حين فكر “نجم” في الرد اكتشف أنه لا يملك لا الورق ولا القلم وهنا تذكر جملة سمعها من الشاعر أحمد مخيمر تقول “الشعر لا ينسى وأن القصيدة التي يكتبها صاحبها وينساها ليست شعراً”.

من هنا أوجد الحل لعدم وجود أدوات الكتابة في الزنزانة رقم اثنين في معتقل القلعة الشهير وبدأ يقول مطلع القصيدة ويحفظه “فى المعتقل يا سلام سلم/ موت واتألم/ لكن لمين راح تتظلم/ والكل كلاب/ كلاب حراسة وكلاب صيد/ واقفين بالقيد/ يكتفوا عنتر وأبو زيد/ ويهينو دياب”.. وكانت هذه أول قصيدة كتبت في أول معتقل دخله في أول حبس سياسي له بتاريخ 15 أيار/ مايو سنة 1969 .

مع نكسة 1967، تغيرت لغة الفاجومي لتصبح سوطاً ساخراً فيكتب “الحمد لله خبطنا/ تحت بطاطنا/ يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار”، ليسخر للمرة الأولى من جمال عبدالناصر “إن شا الله يخربها مداين عبدالجبار”.

كانت أغنية “بقرة حاحا ” التي كتبت في 8 يونيو/ حزيران 1967، كما يقول الكاتب صلاح عيسى، أول بيانات الرد على الهزيمة، فيما كانت أغنية “الحمد لله خبطنا، تحت بطاطنا” بعد أن اتضح حجم الهزيمة، أول البلاغات الحربية التي صدرت من غرفة عمليات “حوش قدم” كما علق هو بنفسه ذات مرة.

لم تنجح محاولات احتواء “نجم”، بخاصة في عهد الرئيس الراحل انور السادات، والذي كتب فيه نجم العديد من قصائد الهجاء والانتقاد من أهمها قصيدة “بيان هام”. لكن “نجم” لم يرفض فقط أن يحتويه سجانه، بل رفاقه أيضاً، فقد رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها، ليكون صوتها، حرصاً على استقلاله كشاعر شعبي، لكنه انضم إلى حزب الوفد منتصف يونيه/ حزيران عام 2010 بعد فوز الدكتور السيد البدوي شحاتة بانتخابات رئاسة الحزب، ثم أعلن استقالته في العام ذاته جراء الأزمة التي تسبب بها البدوي عندما أقال إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير صحيفة “الدستور”. وبعد ثورة 25 يناير، كان أحد مؤسسين حزب “المصريين الأحرار” .

“غباؤك يا ريس/ ملوش حل خالص/ وسايق ف الهبل/ وكلامك هجايص/ ولولاك يا ريس/ مكنشي دا حالي وحال كل مصري/ مدروخ ولايص”.. لم تسع الفرحة شاعرنا الذي طالما نادى الشعب ليصحو من غفوته، عندما شاهد جموع المصريين في ميادين الحرية، وعندما سمع خطاب تخلي “مبارك” عن الحكم الذي ألقاه عمر سليمان، تمنى لو كان معه رفيق الكفاح الشيخ إمام، فهتف يحدثه “شايف يا إمام يا حمار حد يموت قبل ما يشوف دا يا إمام”..!

كان “نجم” أحد المثقفين الذين أعلنوا عن تأييدهم لخالد علي، إيماناً منهم بأنه الأقرب عمراً وطموحاً وإرادة من شباب الثورة المصرية، بل والأكثر اهتماماً في برنامجه بالعدالة الاجتماعية، لكن خاب أمل “نجم” مثلما حدث لملايين المصريين بوصول محمد مرسي إلى الحكم، والذي لم يسلم هو والإخوان طوال عام في الحكم، من انتقادات شاعرنا اللاذعة.

وعندما أصدر الرئيس “المعزول” إعلانه الدستوري المشؤوم، كتب نجم في إحدى مقالاته “ماذا دهاكم يا مصريين؟ ومن منكم بيده إيقاف هذا الانزلاق السريع نحو الهاوية؟ هل هو الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية؟ ولنفترض أنه باعتباره بشراً ركب رأسه وصمم على بقاء هذا الإعلان الملعون. تبقى القيادات الشعبية لكل من الأحزاب المدنية والأحزاب الإسلامية، وعندما سألت أحد قيادات الأحزاب المدنية: ماذا عساكم تفعلون؟

قال: نفعل في ماذا؟

قلت: في هذا المأزق المجنون.

قال: نحن لم نصنع هذا المأزق، وإنما نحن طلاب حق، نتظاهر ونعتصم بشكل سلمي منظم وأي اعتداء على اعتصامنا لن يأتي إلا من رئيس الجمهورية، الذي يملك كل القوة التي تملكها الدولة، قلت: أنت تقصد الإخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية الأخرى.. لماذا؟

قال اسأل الدكتور محمد مرسي الذى انتخبه المصريون جميعاً، ولكنه بعد الصعود على عرش مصر اختار أن يكون رئيساً متنمياً لجماعة سياسية، وأنا الآن أسأل سيادة رئيس الجمهورية: هل تعلم يا سيدى ما فعله إعلانك الدستوري بمصر؟ وهل تضمن ألا تتحول شوارع المدن المصرية كلها إلى ساحات قتال تسبح في بحور من الدم؟ وهل تستطيع تقدير عدد الشهداء من الفريقين المصريين؟ أناشدك الله أن تلغي هذا الإعلان الملعون؛ لأن التاريخ لن يرحمك إذا ما وقعت الواقعة”.

وقعت الواقعة كما توقع “نجم”، وثار المصريون على مندوب الإخوان في القصر الرئاسي، لكن الفاجومي رق لحاله، معتبراً أنه “غلبان ويصعب على الكافر”، وأنه كان ضحية لجماعة الإخوان المسلمين الذين أغرقوه، مشيراً إلى أنه كان لديه يقين كامل بأن الإخوان لن يكملوا عاماً في الحكم.

فرح “نجم” بثورة المصريين وأعلن عن تقديره واحترامه للفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، قائلاً: “شعرت منذ أول خطاب له بأنه مثل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وعليه أن يترشح لرئاسة الجمهورية، وعلى اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، أن يحكم قبضته على الإخوان والإرهاب من أجل مصر وشعبها”.

لم يكتفِ “نجم” بإعلان التأييد بل انضم إلى قائمة المؤيدين لترشح الفريق عن طريق توقيعه استمارة حملة “كمل جميلك”، والتي أسسها المستشار “رفاعي نصرالله ” منذ شهر يوليو/ تموز الماضي لترشيح السيسي رئيساً لمصر.

لكن الشاعر الذي طالما حرض المصريين على الثورة “يا شعب ثور داهية تسمك/ وشيل أصول أسباب غمك/ عصابة بتمص في دمك”، تنبأ قبل رحيله بقدوم ثورة مصرية جديدة إذا لم يشعر المواطنون بأي تغيير ملموس في الشارع عقب ثورة 30 يونيو، مؤكداً أن الشعب أصبح لديه وعي كبير ولن يستطيع أحد تجاهل مطالبه.

وبعد أن أشاد به في كل المحطات الفضائية، واللقاءات التلفزيونية، عاد الشاعر ليهاجم الفريق السيسي ومؤيديه وقال في تغريدة له على موقع ” تويتر”: “كمل جميلك/ واركب عبيدك/ شد اللجام/ جامد ف أيدك/ اقرص عليهم/ تربس حديدك/ كل ما تضرب/ شعبك يريدك/ فرعن وفرعن/ دول ملك أيدك”..!

كان “الفاجومي” يملك “قوه تسقط الأسوار” كما قال عنه الشاعر الفرنسي الكبير” لويس أراغون” ، فظل يناضل الى جانب الطبقة الكادحة، كان يقول “الفقر من اختياري، كل عائلتي فقراء، فلم إذن يجب أن أكون مختلفاً عنهم؟!”، ربما لهذا اختارته المجموعة العربية لصندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة سفيرا للفقراء، وعندما نشر سيرته الذاتية بعنوان “الفاجومي”، أهدى الكتاب لبناته الثلاث “عفاف ونوارة وزينب” قائلاً “يمكن ما تلاقوش في حياة أبوكو شيء تتعاجبوا بيه لكن أكيد مش حاتلاقوا في حياة أبوكو شيء تخجلوا منه، هو دا اعتقادي اللي دافعت عنه، ودفعت ثمنه بمنتهى الرضا”.

الكثير

عبد الرحيم طايع

الموت لو قرَّب / من نجمك / ترميه بقصيدة / يقوم راجع / حجمه ما هُوَّاش حاجة / ف حجمك / مهما بيطفيك / تفضل لامع! …

عبد الرحيم طايع

أن تكتب عن رجل مجرب وشاعر شديدةٌ مباشرته في نقد التردي السياسي والثقافي والاجتماعي … ، مباشر وحاد كالحلفاء الجنوبية، في نسيج فني سلس وعميق وذي أهداف إصلاحية بعيدة، لا تفسده المباشرة ولا يقلل من قيمته إقبال العاديين عليه وترديده، بل على العكس، يشير ذلك، بقوة، إلى كونه نافذاً إلى المصريين في جملتهم الكبرى وسوادهم الأعظم، وهو ابن الشمال (ينتمي إلى محافظة الشرقية) الذي لا يمكن الارتياح ،في آخر الأمر، سوى لمصريته الخالصة الصافية، من دون أن يطمئن المتصدون لتأريخ سيرته، لنسبته إلى منطقة معينة من الوطن، صادف أنه أحد أبنائها النجباء!

تعبير «الأشياء الكثيرة» هو مفتاح هذا العم المخضرم: عانى كثيرا في طفولته وصباه (تربى في الملجأ وكان معه عبد الحليم حافظ رفيق عنابر البؤس آنذاك)، وأحب كثيرا، وتزوج كثيرا، وسافر كثيرا، وتم اعتقاله كثيرا، وعرف كثيرين متنوعين، وخاصم كثيرين، وسب كثيرين، ورضي عن كثيرين أيضا، إلى ما تشاؤون من الكثرة!

عمنا «أحمد فؤاد نجم» كثير بكل معنى الكلمة، ليست كثرة سواه ككثرته، مهما بدا الآخرون يشبهونه في كثرة ما أحاط بهم!

على المستوى الشخصي، لم أجالسه قط، على الرغم من صداقته لمجموعة ثقافية وفنية قريبة مني ومنه أحبها كل الحب وأقدر جهدها الفذ تقديرا خاصا هائلا، كالشاعر الرائع إبراهيم داوود والناشر المهم محمد هاشم والفنان الكبير محمد منير…

يكون أحيانا ساهرا في «دار ميريت» التي يملكها الصديق «محمد هاشم» وبالصدفة أكون في القاهرة على بعد خطوات منه في كافيتيريا الجريون، لكن أعرف في اليوم التالي، أو بعد عودتي إلى «قنا»، أن فرصة أو فرصتين للقائه ضاعتا مني!

في الحقيقة لست حريصا على لقاء الأسماء التي لمعت في سماء الوطن لمعانا سرمديا، حتى صارت جزءا من ضياءات لياليه، ويكفيني تماما أن أضع يدي على بعض المساحات التي خلقتها تلك الأسماء من ضياءات عبقرية، المساحات الأهم، من خلال قراءة لا تتوقف وتأمل لا ينقطع، مهما قالت الأجيال التي تلت أصحاب تلك الأسماء: انطفأ فلان أو بردت نار الذي اسمه كذا …، لا أرى في عدم حرصي على الاحتكاك المباشر بتلك الأسماء، ترفعا عن مقابلتها أو شبهة في مصداقية الاعتراف بحجمها وأهميتها، حاشاي، لكن فقط أتجنب «الدوشة» التي تحيط بهالات المشاهير، وأكثرها زيف وكذب مما لا أحتمله!

حالة «نجم» بالذات حالة تختلف عن المشاهير الذين لا يحبون أن يراهم الناس؛ فهو المتاح لمن أراد رؤيته ومحادثته، وهو ابن الحياة المصرية البسيطة في الصميم، وليس أدل على ذلك من حرصه على المظهر الشعبي الواضح: الجلباب (مع إهمال توضيب مشهده في كثير من الأحايين)، حتى لو كان مستضافا في أكبر فضائية على الإطلاق، كما أنك تلمحه، ولا تلمح غيره ممن مقامهم كمقامه، في شوارع الوطن وميادينه، كتفه بلصق أكتاف الجميع، مناديا بالحرية ومنددا بالجلادين!

في حالة «نجم»، وكلامه العفوي الجرئ لمن يتهافتون على إجراء مقابلات معه، تمسك مصارين الوطن، وفي حالات غيره، مهما ادعوا فهمهم لمصر وناسها وتعمدوا الحديث بلهجاتهم الإقليمية الصارخة، قد لا تصل إلى نصف هذا البعد الشاسع الشاسع!

فنياً، كما سبق وألمعت، نحن أمام شاعر لا يكاد يكلفك جهدا في العثور على معانيه والوصول إلى مقاصده، لكنه لم يكن مجانيا قط، ففي الآخر هو الذي بدأ شعره بديوان عن الكرة كرة القدم (اللعبة الشعبية الأقرب لوجدان العالم والمصريين طبعا) كمن يبشر بانحيازه التام إلى العدد الأكبر، وهو من انتهى، في استمراره اللافت أيضا، بلعن النظامين البائسين: مبارك والإخوان (مرورا بما يمكن تسميته بالنضال الشعري العظيم لخلق حياة وطنية سليمة مرجوة يتساوى في ظل عدلها الناس وهي نفسها، باختصار، مطالب الثورات في كل الأحوال)!

المناضل

التخلص من الفقر والقهر قضيتان كبريان شغلتا مساحة كبرى في شعر عمنا المناضل، لا يتفلسف بشأنهما أبداً، بل تخرج سطوره كطلقات رصاص، في صدور المتسببين في بؤسنا الوطني، لكن تلك السطور لا ينقصها أبدا، جملة هائلة من الصور الشعرية الطازجة البديعة التي حفرت لاسمه مكانة معتبرة في التطورات الفنية لحلقة شعر العامية المصرية، مع السابقين في مضماره واللاحقين!

« ……………

وكل يوم في حبك

تزيد الممنوعات

وكل يوم بحبك

أكتر من اللي فات

……………»

هذا المقطع من قصيدة شهيرة له، أهداها للصديقة الفنانة «عزة بلبع» أيام كانا متزوجين، وكان هو يقضي صيفه أو شتاءه، في أحد معتقلات إحدى مراحل الحكم المصري الظالم!

في هذا الشعر الجميل القوي جم الإيقاع يبدو «نجم» عاشقاً صوفياً بامتياز، يصر على المحبة مهما كانت التحديات / الممنوعات، المرأة الحبيبة والوطن يتماهيان في الشعر، عزة هي مصر ومصر هي عزة بمعنى ما (الرمزية تغلف القصيدة كلها)، وذات الشاعر هي المجموع العام الواعي النبيه الذي لا يبالي بمن يقمعونه، ويمعن في الولاء العاطفي لمشهدية البلاد المأزومة (باحثاً عن حل نهائي أو مخرج، ولو مؤقتاً، يواصل بعده كفاحه في سبيل ما يتغياه وينشده)!

«نجم» الذي وصفه المقربون منه بالصعلوك، أكثر من أن يكون صعلوكا، وأكثر من أن يكون دون الصعاليك (كثير جداً هذا العم، كما أشرت، وليس قليلا من أية زاوية)؛ إنه المريض المصري الأشهر بمحبة هذه البلاد، واقفا في تظاهرة لأجل الإفراج عن أحد المعتقلين أو رفع أجور العمال أو تغيير أحد القوانين الجائرة أو ما شابه، فأراقب أنفاسه، وقد كبر في السن، مراقبة طفل لأنفاس أبيه العجوز!

إنني لا أقيِّم شاعر مصر العظيم وحارسها النبيل تقييماً من أي نوع، لكن أمرُّ، فيما تسعفني الذاكرة، على محطات لعلها تفتح أبواباً للأجيال الجديدة (لا سيما الألمعيين في هذه الأجيال)، على بحره الزاخر، فتمتاح هذه الأجيال منه قدر ما تستطيع، وفاء للطريق وانتماء للطريقة بغير تأثر ذميم ولا سقوط في شرك التقليد البائس!

عمنا، بالمناسبة، يؤمن بالأصوات الصاعدة كما يبجل الراسخين في الشعر، وهي إحدى ميزاته، التي لا تتوفر عند كل شيخ مهيب كامل التحقق في علم من العلوم!

قصائد «نجم» أقرب ما تكون لمنشورات سياسية سرية، لها خطورتها على ما تسميه الأنظمة الأمنية القمعية، بالأمن العام. القصيدة تظاهرة حاشدة ضد الفساد والاستبداد … ضد الطغيان، عموماً، مهما كان شكله ومضمونه ومرجعيته.

قلة استشهادي بشعر عمنا، لا ترجع إلى قلة حفظي لأطاريحه المدمدمة على البغاة، بل أحفظ جل ما خطه بيديه، من القصائد ومن الأغاني المميزة المنقوشة على جدران القلب كعلامات حنين لا تنطمس، مع كبار الفنانين والملحنين، لكنني أنظر، مدققاً، للكيان الإنساني الذي هو مصدر كل ذلك الإبداع الفياض الزاهي، الكيان الإنساني الكثير الكثير!

في مصر، مصر التي أحبَّها عمنا بكل كيانه ودافع عن رفعتها ودفع الثمن كأجلى ما يكون المرء دافعا للثمن؛ لا نحتفي بعُمَد منادرنا الأكابر الحقيقيين العارفين بأصول الأمور وفروعها، احتفاءً واجباً إلا حينما يغادرون الحياة، وبعض أسباب سعادتي، الآن، إنني أشارك كشاعر وكاتب وكمواطن مصري ضمن المجموع العريض من المواطنين الذين انتفعوا بالإبداع وغنيت أرواحهم أيضاً، في الاحتفاء باسم جليل جميل من أسماء هؤلاء الملهمين المتربعين على قمم الدنيا بالصدق والحق، اسم لمعت حروفه، تلقائياً، في تراصها الحميمي كصخور مقدسة، بالضبط كما لمعت فيوض معانيه في سماوات مصر العاليات، وعلى صفحة نيلها وجدران أهرامها، وخشب مسارحها، ورفوف مكتباتها، وبيوتها ومطاعمها وأنديتها ومقاهيها وباراتها وحاراتها جميعا؛ «نجم»!

شاعر استثنائي

وفاة الشاعر الاستــثنائي أحمد فــؤاد نجــم جعلني أفكر بعدة نقاط ربما هي غير مترابطة حول شــعره وحياته. أولا: إن نجم كان يمتلك موهبة فطــرية استثــنائية أقوى من أي تجربة عاشها، حتى ولو كــانت تجربة السجــن أو الفقر المبكر، ربما أحيــانا كانت تتــنازع مع تجربــته الحياتــية التي جمعت بين جنباتــها الكثير من التناقــضات وربما ضد روح موهبته، وربما يقال إن هذه التاقضــات هي التعبــير الأمثل عن ثراء الشخصية. اتفــق مع هذا الرأي، ولكــن فــى الوقــت نفسه أسأل نفسي هل الهامــش الذي انتمى له نجــم أو عاش فى وسطه، كان يمكن أن يوفر لأبنــائه مثل هذا الثراء أو التعدد؟ وهــناك ســؤال أكبر، هل أي هامش قادر على استيــلاد التعــدد؟ أم أن موهبة نجــم والسياق العام طغــتا على تناقــضاته، ووضعــتا عليها ستاراً من القدسية؟

ربــما كانت الموهبة هي الكــنز الــذي كــان يحفظــه من السـقوط. وهــي التي لم تتــوفر لرفيـق عـاش في نفــس الفــترة وهو نجــيب ســرور، الذي قصمته التناقضات، وهشاشة الوجود الداخلي. أما نجــم فقــد كان بالمعنى الدارج «قارح» لا يُجرح داخله بسهولة وهي أحد مواهبه الموروثة.

ثانياً: إن جمهور نجم ليس هو الجمهور أو الآخر الذي يتحدث عنه فى قصائده. وهي إحدى المفارقات.

ثالثاً: إن شخصية نجم شخصية ليست لها قوام محدد، ولكن لها مفهوم عام عن الحرية والنضال والحب والمتعة إلى آخره…..

رابعاً: علاقة نجم بالشيح إمام فتحت أمام نجم وأمام هذا الشعر السياسي أن يصل لجمهور يحب الطرب، أو بمعنى آخر أدخله فى المتن الغنائي.

خامساً: حدة نجم وسلاطة لسانه مع الآخرين لم أفهمهما وأحيلهما إلى كونه متمرداً أو كونهما موقفاً من الوجود، كما كان عند أمل دنقل، الذي كان يحاول أن يدافع عن نفسه بهذه الحدة الجارحة. ولكن أعتقد أنهما عند نجم يأتيان من مكان غير حقيقي، أو فطري، اعتياده للسباب، كانت حيلة أصيلة أكثر منها عقيدة.

سادساً: بعد انقضاء حقبة السبعينيات تحول تمرد نجم إلى نموذج لتمرد عابر للزمن ليس له إحداثي اجتماعي، أو كصدى لتمرد فقد مركزه.

سابعاً: هذا النجم الذي عبر بحياتنا تكوّن فى مجتمع تقلب على أوجه كثيرة ولم يجد درجة الصوت التي يتحدث بها. ولم يمنح أبناءه الطريق الذى يكملون به أفكارهم، كونهم ضميراً له، وأيضا لم يخلع القناع ويكشف أي ادّعاء يغذيه.

كان المجتمع يتراوح بين الحقيقة والكذب، وعاش نجم وسط هذا السياق الاجتماعي والفكري متنقلا بالموهبة والذكاء.

(شاعر مصري)

عن الثنائي نجم وإمام .. جيل مؤسس

شريف يونس

نجم وإمام إثنان موهوبان، معاهم شوية مريدين، اللي منهم بقى شاعر واللي منهم بقى كاتب واللي منهم بقى ملحن واللي منهم عاش الحالة بس، حالة مدنية بامتياز.. ناس مكانوش ملايكة ولا متبتلين ف أي محراب، وحتى إحساسهم بالثورة مكانش إحساس قداسة.. كان بس إحساس التزام داخلي.. ناس أذوا واتأذوا.. ثاروا ويأسوا.. أيقنوا وشكوا.. عاشوا البوهيمية والتزموا… ناس عاشت من غير ضهر ولا فلوس ولا تنظيم دولي، لمجرد بس إنهم ناس موهوبة ومخلصة وضاربها السلك وصايعة، قادرة تتواصل مع البشر، مش فارق معاها عشة ولا قصر… ومش طارحين نفسهم نموذج لأي حاجة.. لكن مبطلوش يحلموا ويشتغلوا شغلهم.. بس لمجرد كدا، لأنهم عاشوا حياتهم وموهبتهم حسب التساهيل، حفروا مكانهم ف تاريخ منطقة بحالها.. ونقلوا عالمهم لبشر لا يُعدوا ولا يُحصوا.. من غير ما يلبسوا الشياكة ولا يتكلموا بذوق الصالونات والأفندية ولا يحترموا أي قيمة غير قيمة الحياة والجمال والبهجة.. ولا يهتموا بآراء المجتمع عن الصح والغلط… نجم وإمام.. جيل مؤسس.. أتى من عصر ما قبل صناعة الشعر والغناء.. عصر الحرفة.. وظلوا فيه بكل إخلاص وحب..وداعاً.

(كاتب ومؤرخ مصري)

اللغة العارية والسخرية والانتهاك

شوقي بزيع

ليس رحيل أحمد فؤاد نجم بالحدث الذي يمكن لأحدنا أن يمر عليه مرور الكرام، حتى لو فقد الموت جاذبيته في العقود الأخيرة ولم نعد نجد الوقت الكافي للتوقف طويلاً عند موت الشعراء والمبدعين. وفي زمن الحروب الأهلية وقتلى المجازر الجماعية والسلاح الكيماوي سيبدو الموت الطبيعي أمراً غير ذي شأن، إلا إذا كان من نفقده قريباً أو صديقاً أو حبيباً، لأن الموت هو شأن شخــصي قبل أي شيء آخر. ذلك أن الألم الذي يتسبب به سيكــون بحجــم المساحة الشاغرة التي خلّفها الراحلون وراءهم والتي لن يستطيع أن يشغلها أحد.

غير أن لرحيل أحمد فؤاد نجم مذاق الرماد في الفم، والغصة في القلب، والثلم في الروح. ليس بالضرورة أن يكون نعشه قد خرج من بيوتنا وتهادى على طرق مدافننا العائلية. ولكن كل واحد منا، نحن الذين رافقت قصائده وكلماته مطالع شبابنا الأول، يشعر الآن بأن جزءاً من حياته وأحلامه وصبواته قد ذهب معه إلى القبر، وأن نوعاً من الهواء «الأصفر» يلفح وجوهنا التي غضنتها التجاعيد وأرواحنا التي أتلفتها الخيبات. فبعد هزيمة حزيران لم يخرج صاحب «يعيش أهل بلدي» من أحياء الغورية والسيدة زينب وحي الحسين فحسب بل خرج من حاجتنا إليه، من توقنا إلى صرخة اعتراض على اليأس والموت والخرس «العمومي». كان بعضنا آنذاك قد بلغ العشرين من عمره، وبعضنا لم يبلغها بعد، حين تناهت إلينا على مقاعد الدراسة الجامعية أشرطة التسجيل التي حملت قصائده مغناة بحنجرة الشيخ إمام الفارهة وملحّنة بنقرة عوده الملتاع.

لقد شلت الهزيمة أعصابنا آنذاك وأفقدتنا إيماننا بكل شيء، إلى حد أننا لم نكفر بالحضور الأبوي الأسطوري لجمال عبد الناصر وحده بل عملنا على إعدام كل ثقافة أو أغنية أو رواية مواكبة. وبأعجوبة استثنائية نجا من أحكامنا الثقافية «العرفية» صوت فيروز. كأننا كنا نريد هدم الهيكل على من فيه. ليس فقط على مستوى القادة وأنظمة الحكم، بل على مستوى الأحزاب القومية والدينية والشيوعية الرسمية التي حمّلناها مسؤولية التواطؤ مع النموذج السوفياتي من جهة ومع الأنظمة العسكرية التي لم تحل شعاراتها التقدمية المدّعاة دون وقوع الهزيمة من جهة أخرى. كان كل شيء يتصدع ويهتز في ذلك الزمن الذي بدا فيه شبان العالم الفتيون ذاهبين لانتزاع الكرة الأرضية من عهدة الشيوخ وسدنة الهيكل والجاثمين على المصائر الجماعية للشعوب المستضعفة. وهو ما بدا جلياً عبر هزيمة الأميركيين في فييتنام، وعبر انحناء الجنرال ديغول للأعاصير الطلابية العاتية في فرنسا، وعبر الحركات الاجتماعية والثقافية والفنية التي عكست من خلال الجاز والروك والبيتلز والهيبيين وغيرهم رغبة الأجيال الصاعدة في الخروج من دوامة الحروب الماحقة. وفي الإطار العربي ظهرت المقاومة الفلسطينية المتنامية بوصفها البديل شبه الوحيد للنظام العربي المهزوم، وشكل قدومها إلى لبنان وعاصمته الرافعة الأهم لليسار الجديد وللحركة الوطنية اللبنانية بوجه عام.

أيقونات

كنت بعدُ طالباً في كلية التربية حين بدأ الرفاق في «منظمة العمل الشيوعي» التي انخرطت في صفوفها آنذاك، يتناقلون أشرطة الثنائي الفني المصري أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. ورغم أن تلك الأشرطة كانت تعاني من نقص فادح في الجودة ونقاء الصوت، فقد كنا نتلقف أغنياتها البعيدة عن ذائقتنا اللبنانية المحلية كما لو أنها أيقونات «مقدسة» تضاف إلى النصوص الماركسية الأم، ونتبارى في حفظها وإنشادها بحماسة بالغة. لم تكن الأغنيات تلك شبيهة بالأغاني الحماسية التقليدية للثورات، والتي تحتوي في الغالب على عدد غير قليل من جثث الشهداء، وكميات غير قليلة من الدماء المراقة. بل كانت أشبه بحلقات الذكر الصوفية التي تعتمد على الترجيع والتكرار والخدر الصوتي والروحي. ولعل ما رسخ ذلك الإيحاء في دواخلنا هو حمل المغني الضرير إمام عيسى للقب الشيخ، وما يستتبع ذلك من إحالات نفسية وغيبية.

بدت قصائد أحمد فؤاد نجم في تلك المرحلة المعادل المحكي لقصائد مظفر النواب، الهارب بدوره من جحيم العراق، والذي حاول جاهداً المواءمة بين شعرية الانتشاء شبه الصوفي بالمرأة والحب والخمرة وبهجة العالم، وبين الانتصار للمقاومة وفقراء الأرض وعمالها ومستضعفيها، دون أن يتورع عن تحويل بعض قصائده شتائم وأهاجي موزونة ضد سفلة الطبقات الحاكمة. وكان زياد الرحباني في لبنان يلاقي ظاهرة نجم ـ الشيخ إمام في تبرمها بالرومنسية وجنوحها إلى اللغة العارية والسخرية السوداء والهجاء المقذع للواقع. وقد سبق ذلك بقليل انفجار ظاهرة الأغنية الوطنية أو السياسية التي اتخذت أبعاداً متغايرة مع مرسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وآخرين.

لم يعد الشعر عند صاحب «يعيش أهل بلدي» تحليقاً فوق الواقع ولا احتفاء مجرداً بجمال الصياغة والتخييل، بقدر ما بات تصويباً مباشراً نحو الفكرة المراد مقاربتها. ولأنه رديف الايديولوجيا وربيبها فهو لا يتردد في التصدي لكل ما تقتضيه الحاجة، بدءاً من المفاهيم والطبقات والأنظمة ووصولاً إلى الأشخاص والأحداث والوقائع والأماكن وطرائق الفكر والعيش. هكذا تتم السخرية من الجيوش التي أعدت خصيصاً للهزيمة «الحمد لله صباطنا تحت باطاتنا/ يا ما احلى رجعة ضباطنا من خط النار». ومن الطبقات الفاسدة التي أثرت على حساب المعدمين «همَّا مين وإحنا مين/ همَّا الأمرا والسلاطين». ومن مثقفي الأبراج العاجية ومقاهي الأرصفة والترترات الجوفاء:

«يعيش المثقف على مقهى ريش/ محفلط مزفلط كتير الكلام/ عديم الممارسة عدو الزحام». وتمت السخرية من أم كلثوم، لا عبر صوتها الذي عشقته الملايين وسكرت به بل من خلال «كلب الست» الذي رأى فيه نجم وهو يساق إلى قسم الشرطة بعد أن عض أحد الغلابى المصريين رمزاً لمقام كوكب الشرق المهدور. ولم يسلم من النقد اللاذع عبد الحليم حافظ «حلليمو الشخلوع الدلوع»، ولا محمد حسنين هيكل «بصراحة يا أستاذ ميكي/ إنك رجعي وتشكيكي»، ولا فاليري جيسكار ديستان، الرئيس الفرنسي آنذاك، ولا ريتشارد نكسون الذي حشد السادات لإنقاذه من فضيحة ووترغيت ملايين المصريين المعدمين. على أن هذا الوجه النقدي القاسي لكتابة نجم لا يمكن أن يحجب بأي حال صورة الشاعر العاطفي المجبول بطين «الحواري» والحارات والأزقة المصرية. فالشعر هنا ليس حرفة وتأليفاً وتذاكياً على اللغة بل هو صدور شبيه بالصرخة عن وجع العيش وقسوة التهميش وغياب الحرية والعدالة والخبز. وفي لحظات الصدق القصوى يذهب الشاعر إلى نصوص مغايرة تتمثل بعاطفة جامحة روح «بهية» المصرية التي لن يطول احتجابها، أو صورة الجندي عبد الودود، الحارس الأمين لهذه الروح. أو تتمثل الانتماء القومي البعيد عن الشعارات الجوفاء والمتصل بالدم والهواء وحروف اللغة «الخط ده خطي/ والكلمة دي ليَّا/ شطّ الزيتون شطِّي/ والأرض عربية». أو تتمثل في الصورة الثورية الأيقونية لتشي غيفارا الذي وصلت شاعرية نجم في رثائه له إلى ذروتها الجمالية والإنسانية: «عيني عليه ساعة القضا/ من غير رفاقه تودعو/ يطلع أنينو للفضا/ يزعق ولا من يسمعو..».

السبعينيات

قد تكون حقبة السبعينيات من القرن المنصرم إحدى أكثر الحقب الزمنية ثراءً وغنى واكتناهاً للحقائق المتباينة. ليس فقط بسبب الإرهاصات الأولى لتحولات الأرض وتغير خرائطها، بل لأن الاعتراض على السائد ذهب في منحيين متضادين تماماً: منحى التماهي مع الايديولوجيا والتطابق شبه الكامل بين الفن ولافتات السياسة والفكر، ومنحى الإيغال في الحداثة والانتصار لكشوفها اللغوية والإبداعية. وقد بدا الشعراء الشبان، وأنا بينهم، يومها ساحة مفتوحة لذلك الصراع الضاري بين الأساليب والخيارات. كنت أتتلمذ في كلية التربية على الأفكار والرؤى الحداثية الصادمة لأدونيس وخليل حاوي وميشال عاصي وأنطون غطاس كرم ويمنى العيد، فيما كان التنظيم الماركسي الذي أنتمي إليه يسخر من قصائدي «الحديثة» ويجرني بقسوة إلى المثال المضاد لثقافة «الاستعلاء» الذي شكل أحمد فؤاد نجم نموذجه وعنوانه. ولم تكن استقالتي من العمل الحزبي المباشر، قبل تخرجي من الجامعة بسنة واحدة، سوى احتجاجي الرمزي على تدجين الشعر وإلحاقه بالايديولوجيا وتحويله إلى شعارات حماسية مباشرة. ولقد احتاج الأمر بعدها إلى سنوات غير قليلة لكي أقرأ نصوص أحمد فؤاد نجم بحيادية تامة، وبعيدة عما ألحقته بي ظاهرته من ضرر شخصي، ليتبين لي لاحقاً بأن النظرة القاصرة التي حملت هذا الشاعر على محمل التعبئة الايديولوجية المباشرة أساءت إلى شعره دون قصد، وحرمت قراءه من الانتباه إلى مدى التصاق هذا الشعر بالينابيع الأصلية للوجدان المصري، وبالجانب الشفوي من لغة الجماعة التي تسجل على طريقتها اعتراضها على الفساد والقهر والجوع دون وسائط تنميقية ملفقة. وما احتفاء الميادين المصرية الثائرة بأحمد فؤاد نجم سوى اعتراف جلي وساطع بصرخته المبكرة التي شقت الطريق أمام فجر مصر الذي طال انتظاره.

نجم وجاهين ويتامى 5 حزيران

محمد شعير

كلنا اعتقد أن الأمر مجرد «شائعة « اعتدناها كثيراً فى السنوات القليلة..ولكن نجم سرعان ما يخرج ليكذب الشائعة بعد أن يكون قد استولى القلق على اصحابه وأصدقائه. لم يكن الأمر هذه المرة شائعة، بل كان حقيقة، ولكن البعض أيضا في حالة إنكار، هي مجرد مزحة من شاعر لم يتخلّ عن ممازحة أصدقائه …في تلك الليلة نام نجم في موعده، وفى الصباح ايقظته زوجته لكنه لم يستيقظ..موت مريح بلا ألم لشاعر قضى أكثر من ثلث حياته متنقلا في سجون المحروسة …وهي الفترة التى وثقها الصحافي صلاح عيسى فى كتابه «شاعر تكدير الرأي العام» يستعرض عيسى قصة نجم غير العادية بتفاصيلها الممتعة، وما تعرض له هذا الشاعر المعارض من مضايقات وحملات من السلطة أدت إلى التحقيق معه في ما عُرف بقضية «نيكسون بابا» عام 1974، بسبب قصيدة كتبها أثناء زيارة الرئيس الأميركي نيكسون إلى مصر بعد حرب أكتوبر. حوكم يومها بسبب هذه القصيدة التي غناها الشيخ إمام، ثم حكم عليه بالسجن لمدة سنة كاملة عام 1977 بسبب قصيدة «الفول واللحمة» التي تنتمي إلى ما عرف بـ«قصائد المناهضة». ولد أحمد فؤاد نجم في الزقازيق مثل عبد الحليم حافظ الذي ربطته به علاقة صداقة. وبدأ حياته العملية عاملاً في سكك الحديد عام 1956، ثم قرّبه عمله اللاحق كساعي بريد من الفئات الشعبية، ليتلمّس حجم القهر الواقع على الفلاحين. وفي عام 1959، انتقل إلى النقل الميكانيكي في حي العباسية، وخلال تلك الفترة دخل السجن بتهمة تزوير استمارات حكومية. وعند خروجه عام 1962 التقى الشيخ إمام عيسى الملحن والمغنّي الضرير الذي صار رفيق الطريق. معاً عبّرا عن تطلعات قوى التغيير في المجتمع: في الشوارع والمصانع والجامعات. تلازم مصيرهما في الفن والنضال والحياة، وأمضيا معظم فترة حكم الرئيس السادات في المعتقلات، بعدما أطلقا عليه أكبر حملة سخرية ضد حاكم مصري في الأزمنة الحديثة. وقد طبعت أغنياتهما مرحلة السبعينيات من «شرّفت يا نيكسون بابا» إلى «فاليري جيسكار ديستان». وبعد انفصال الثنائي، ثم رحيل الشيخ إمام، لم يتوقف «الفاجومي» عن نقده السياسي اللاذع، ولم يتوانَ عن المشاركة في تظاهرات ضد توريث السلطة في مصر، كما خص جمال مبارك بقصيدة ساخرة عنوانها «عريس الدولة»، وكان من أوائل من نزلوا إلى ميدان التحرير دفاعاً عن ثورة الشباب. كان نجم شاباً، بل الأكثر شباباً وتوهجاً حتى لحظاته الأخيرة، أغنايته القديمة كانت صالحة كشعار قوي وواضح فى الميدان. وفي اليوم الذي تنحى فيه مبارك وقف نجم في الميدان ينادي على رفيقه الشيخ إمام: «يا إمام يا حمار، حد يمشي قبل ما يشوف اللحظة دي؟ طيب إنت بتعمل إيه دلوقتي». وقبل ثورة الشعب على حكم محمد مرسي، سرت شائعة عن وفاته، ودعم الشائعة وعكة صحية عابرة مر بها، يومها قال للشباب الذين التقوه للاطمئنان على صحته: «لا رجال مبارك حيشليوا نعشي ولا الإخوان..انتو بس يا ولاد الكلب اللي مسموح لكم تشيعوني»..وهو ما حدث بالفعل، خرجت جنازة نجم من مسجد الحسين، كانت جنازة تشبهه، لم يسر فيها الرسميون، ولم ينعه أحدهم، أظن أنه كان مبتهجاً وهو يرى الشباب يسيرون خلف النعش يغنون ..:«أتجمعوا العشاق»..و»إذا الشمس غرقت فى بحر الغمام».. على الجانب الأخر كانت حملة أخوانية مذعورة لتكفير نجم ..، حملة متوقعة إذ اعتبر نجم طوال عام كامل من حكم الإخوان لمصر أنهم «مجرد سحابة صيف عابرة»..واعتبر انهم جماعة حاولت سرقة الثورة ..ولكن: «لن يسرق أحد الثورة، سرقوا شوية كراسي بتوع السلطة وهيمشوا». رهان الشاعر المتفائل على الشباب، «هم المستقبل، أما الجماعة فمن الماضي».

هزيمة 67

ولكن لا يمكن الحديث عن نجم وتجربته إلا بالعودة الى تلك اللحظة الفارقة فى تاريخ مصر..هزيمة 67 ..أو نكستها:

عندما سألته قبل سنوات فى حوار عن تأثير الهزيمة

فى حوار قديم معه كنت قد سألته عن هزيمة 67 ..ماذا فعلت بك؟

صمت قليلا: راح يلقي قصيدة (الحاج عبد المنعم):

يا عم يا إللي أنت غصب عنا ريسنا

يا إللي اليهود لوثوك وإحنا معاك لوصنا

………..

قصيدة حادة، غاضبة، وصريحة لحد أنه لا يمكن نشر بقية كلماتها، ولكنها تكشف كيف بلغت حدة الغضب في مصر بعد الهزيمة وانهارت هيبة الزعيم. الحاج عبد المنعم هو أحد عمال «الصف» بالأهرام في الستينيات. القصيدة مثلها مثل قصيدة نجيب سرور الشهيرة (الأميات) كانت ـ مع الكثير من القصائد الأخرى لشعراء معروفين ومجهولين ـ من نتاج الهزيمة.

(البيان الأول) كانت أول قصيدة كتبها الفاجومي تعبيراً عما حدث في 67، كتبها بعد أن (سقط كل شيء، والمستخبي بان) كما يقول. وانتشرت كلمات القصيدة بسرعة شديدة: (الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا / يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار / يا أهل مصر المحمية بالحرامية / الفول كتير والطعمية / والبر عمار/ والعيشة معدن واهي ماشية/ آخر أشيا/ مدام جنابه والحاشية/ بكروش وكتار/ ح تقول لي نسينا وما نسيناشي/ ما تدوشناشي / ما ستميت أتوبيس ماشي/ شاحنين أنفار/ إيه يعني شعب في ليل ذله/ ضايع كله / دا كفاية بس أما تقوله/ إحنا الثوار!).

لم تكن القصائد الساخرة الحادة هي رد الفعل الوحيد من الشعب على الهزيمة; كما يقول نجم. «النكتة أيضاً، كان هناك أكثر من ثلاثة آلاف نكتة قالها المصريون على 5 يونيو لدرجة أن عبد الناصر في عز مجده، وفي يده كل سلطات الدولة خرج في خطاب رسمي يطلب من المصريين (كفاية نكت بقى..).

ولكن هل توقف الشعب؟ قال نجم ‘لا، لم يستجب الشعب، الهزيمة كانت قاسية، كنا نحلق بأحلامنا في العلالي، كنا في السما، وفجأة استيقظنا لنجد أنفسنا ليس على الأرض وإنما في بئر عميقة).

الفاجومي

عندما استدعى حسن أبو باشا ضابط أمن الدولة وقتها الفاجومي للتحقيق معه في عام 1969، فوجئ الفاجومي باتهامه بأنه كتب كل هذه القصائد التي تنتقد النظام وتسخر من عبد الناصر.. يقول نجم: (كان أمامه كومة أوراق، مئات القصائد، والنكات وأنا متهم بتأليفها، ضحكت عندما أخبرني بذلك ..وقلت له كل دا أنا كتبته؟ دا أنا عبقري بقى. والمفاجأة أن نجم استمع من قبل إلى قصيدة الحاج عبد المنعم، وكان يريد نسخة منها، وفوجئ بأبي باشا يعرضها عليه، فقال له نجم والله كويس أنا بادوّر على القصيدة دي من أول مرة سمعتها فيها، شكراً للداخلية. في سنوات السجن الأولى لأسباب غير سياسية أصيب نجم بقرحة، وبعد النكسة، تجددت: (لم أكن أخرج من بيتي، ظللت أنزف دماً من مؤخرتي لأكثر من شهر ونصف الشهر لعدم رغبتي في الحركة.. تصور ظللت فترة طويلة أشعر بخجل من النظر في المرآة، كنت أشعر أن وجهي قبيح).

لم يكن نجم معارضا للنظام أو لعبد الناصر قبل (5 يونيو) .. كان يعمل وقتها مع يوسف السباعي في منظمة التضامن الأفرواسيوي..(كان عبد الناصر يبني مصر، والجيش، كنا نشاهد سنويا العرض العسكري، نشاهد الصواريخ التي تكسر أصواتها زجاج الأبواب والشبابيك، وكان يبني المصانع التي تباع الآن، كل هذا جعلنا نصدق عبد الناصر، ولا نرفع أصواتنا بالنقد).

التحول الرئيسي في قصائد نجم بدأ بعد (النكسة). قبلها كانت قصائده التي غناها الشيخ إمام أقرب للرومانسية منها إلى النقد السياسي الحاد ومن بينها: (أنا أتوب عن حبك)، و(ساعة العصاري) ، و(عشق الصبايا)، بل إن نجم يتذكر أيضا أنه كتب قبل النكسة مباشرة بثلاثة أيام قصيدة (رسالة) نشرتها مجلة آخر ساعة وقتها يستلهم فيها ما قاله عبد الناصر في إحدى خطبه: (مستعدون للذهاب مع أميركا إلى آخر المشوار ولسنا أقل من شعب فيتنام).. كتب نجم قصيدته: (واه يا عبد الودود/ يا رابض ع الحدود / ومحافظ ع النظام / كيفك يا واد صحيح / عسى الله تكون مليح/ وراجب للأمام / ع اجولك وانت خابر / كل الجضية عاد / ولسه دم خيك / ما شرباش التراب / حسك عينك / تزحزح يدك عن الزناد / خليك يا عبده راصد / لساعة الحساب)… بين هذه القصيدة التي رضخ فيها نجم لجهاز الدولة الدعائي الضخم وبين قصيدته (يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار) التي تلت النكسة ـ خمسة أيام تقريبا، ولكنها ليست كذلك فنياً… يقول نجم: قصائدي التي أقدم فيها نقداً حاداً للسلطة قبل النكسة كانت قليلة جدا، أشهرها (كلب الست) … والحكاية أن مجموعة شباب كانوا ماشيين في الزمالك، وفجأة هجم كلب على أحدهم، فذهب إلى القسم لتحرير محضر بالواقعة، وفي النيابة ثبت إن الست أم كلثوم هي صاحبة الكلب، وصدرت تعليمات للجميع بإيقاف أي إجراءات، وقام وكيل النيابة بحفظ المحضر وذكر أغرب حيثيات للحفظ: (حيث أن الخدمات التي أدتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسؤوليات الجنائية فقد قررنا حفظ التحقيق). وفوجئت أن جريدة الجمهورية نشرت حوارا مزورا مع الضحية يقول فيه: (أنا سعيد لأن إللي عضني كلب أم كلثوم).. فقررت أكتب هذه القصيدة الحادة ضدها رغم أنني كنت من عشاقها. ولكن التحول الفني بدأ بعد النكسة.. يقول نجم: (بالتأكيد، قبل النكسة تقدر تقول كنت على القشرة، في المنطقة البرانية، كتبت قصائد الحب إللي غناها الشيخ إمام، ومكنتش هأكتب حاجة غير كده، احنا كلنا في الفترة دي كنا بنحلم، وطايرين من الفرح، وعبد الناصر بيحارب أميركا وإسرائيل، ويحكمنا لكن بالخطب. مكناش واخدين بالنا، ولا ادونا فرصة لنعرف دولة إسرائيل. ولكن بعد النكسة خلاص مكنش فيه داعي إن الواحد يسكت، هما كانوا مستغفلينا، ولكن مفيش داعي أستغفل أنا نفسي). طوال الحوار معه كنا نسمي ما حدث (نكسة) وأحيانا هزيمة) .. لم يكن هناك استقرار على اسم … سألت نجم يومها: ماذا تسمي ما حدث؟

أجاب: هي نكسة وهزيمة، حاجة كدة زي يوم القيامة، فعلاً عبد الناصر ضحك علينا كتير، وإحنا كنا مصدقينه، لو كان عندك أخ في البيت واتحبس سواء كان إخوان أو شيوعيين مكنتش تقدر تقول: (أخويا) ..كان لازم تنفي أي علاقة بينك وبينه).

طفل الشعب

ولكن من المسؤول عن الوصول لتلك الحالة … هل تتفق مع البعض ممن يقولون إن صلاح جاهين خدر الشعب بقصائده… ؟يحتد نجم: (لا أتصور أن يكذب صلاح على الشعب المصري لحساب أي شخص، لأنه طفل الشعب المصري، ومجمع مواهب، يعني لما يقول (نفوت على الصحرا تخضر) … هل كان دا كذب؟ لا… دا حلم جميل. صلاح عاشق لهذه البلد، دايب فيها، إزاي يكذب وهو صاحب (على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء) دي قصيدة ما يكتبهاش إلا شاعر (سافل) بالمعنى الجميل للكلمة، ودي حاجة ميعرفهاش إلا أهل الصنعة، تقدر تقول: صلاح جاهين عليه السلام.. وبس). ربما هذا العشق هو ما جعله يتوقف عن الكتابة؟ يجيب نجم: كلنا كنا مصدقين عبد الناصر، صلاح توقف واكتأب بعد النكسة، وأنا كلي اتكسرت، فقدت الاحساس بالدهشة، وما زلت حتى الآن فاقدا للدهشة، وكتبت قصائدي الحادة لأعبر عن هذا الإحساس، إنما في رأيي أن اعترافات صلاح الحقيقية في قصيدته (على اسم مصر)، هي قصيدة اعتراف وانتماء وعشق لهذا الوطن.

لكن نكسة 67 رسّخت تجربة الثنائي على دروب فنيّة وسياسيّة جديدة. كتب نجم لإمام أغنيات ستحفر في وجدان معاصريهما، وسترددها أجيال متعاقبة على امتداد العالم العربي. غنى إمام «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار/ يا أرض مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار». وكانت هذه الأغنيات تتجاوب بشدة مع التظاهرات الطلابية العارمة التي اجتاحت البلاد. ثم كانت «ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا النطاحة/ والبقرة حلوب، تحلب قنطار/ لكن مسلوب من أهل الدار»… أغنية «بقرة حاحا» كانت أول اشتباك مع السلطة، وأول هجوم صريح على عبد الناصر. احتشد المثقفون للاستماع إلى النغمة الجديدة المختلفة في الشعر والغناء. وهو الأمر الذي لفت السلطة إليهما، ولم تفلح محاولاتها في شراء الشاعر الفاجومي والمغني الضرير. بدأت أغنياتهما تنتشر، وكانت أقسى هجاء لمرحلة عبد الناصر، اقترح بعضهم اعتقال الثنائي، وقال آخر «إنها صرخة جوع»، فإذا ما أتخما بالنقود فسيلزمان الصمت…ولكن استمر نجم فى مشاغبة السلطة، أي سلطة… ولذا توجت تجربته بجائزة «مؤسسة الأمير كلاوس للثقافة والتنمية» في هولندا «تكريماً له على إسهاماته وأشعاره التي ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب.. للقوة السياسية والجمالية في أعماله والتي تبرز الحاجة الأساسية للثقافة والفكاهة في ظل الظروف الصعبة والقاسية»، كما جاء في تقرير اللجنة المشرفة على الجائزة. وكان مقررا أن يسافر الأسبوع المقبل لتسلم الجائزة فى 11 ديسمبر..ولكن الرحيل كان أسبق!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى