صفحات الرأي

أحوال الفرصة التاريخية


زياد حداد

بدت تطورات الأيام الماضية حاسمة على صعيد استمرار الثورة السورية واستمرار شبابها وشاباتها في تحدي آلة القتل الرهيبة، التي وضعت في خدمة القمع شتى أنواع الأسلحة الثقيلة. وحدها عزيمة الشعب السوري الرافض للذل الذي عانى منه طويلاً، أدت إلى تغيير مواقف الدول من نظام بشار الأسد.

إلى جانب المواقف التركية والسعودية والأردنية والمصرية القاسية، اتخذت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية موقفاً صريحاً بدعوة الرئيس السوري إلى التنازل عن عرشه الموروث، وتزايدت الإشارات والأحاديث عن احتمال احالة القضية السورية على المحكمة الجنائية الدولية التي سبق أن أصدرت مذكرة توقيف ضد القذافي وابنه. لا شك أن الزخم الدولي هذا لن يتراجع فيقبل باستمرار الأسد في الحكم، ولا بد أنه لم يكن ليصدر من دون بوادر تنسيق مع روسيا والصين اللتين لن تستمرا طويلاً في حماية الأسد الابن، بل تبحثان عن تسوية ومكاسب لهما. يشير كل ما سبق إلى أن الوقت المتبقي أمام النظام السوري هو فرصة محدودة للتفاوض على شروط الخروج غير المذل من السلطة، أو الدفع اليائس في اتجاه حرب متطاولة لن تؤدي سوى إلى خراب عارم نخشى على سوريا منه ونأمل أن ينقذها منه وعي جنودها وضمائرهم الحية.

غير أن التطورات الخطيرة كهذه هي أيضاً فرص عظيمة لإعادة تنظيم العلاقات ضمن الثلاثي الذي شكّل تاريخياً شعوب إقليم الشام، أي الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني والشعب السوري ـ بعدما اختار الأردن أن ينأى بنفسه مقترباً من الخليج ومن العراق، وهو خيار لا بد محدود في نهاية الأمر بسبب التأثير الفلسطيني في الأردن. مفاد القول إننا أمام فرصة لا تعوّض، يشكلها تعبير الشعب السوري بشكل مباشر عن رغباته وتطلعه إلى دولة تحترمه وتسعى لتحقيق تطلعاته، من أجل البدء بمرحلة مراجعة تامة لنحو قرن من الزمان عاشته هذه الشعوب الثلاثة في ظل تجارب مختلفة ومتشابكة، أي أن الوقت قد حان لتخطي النتائج التي ترتبت على انهيار السلطنة العثمانية والثورة العربية عليها والانتدابين البريطاني والفرنسي على المنطقة من أجل إعادة تأسيس العلاقات بين دولها.

بنظرة سريعة إلى التاريخ القريب، نستفيد عدداً من الدروس: أولاً، هشاشة الوطن اللبناني الذي ما إن تأسس حتى ثارت عليه نخب مدينية ومناطق واسعة رأت في لبنان هيمنة مارونية تسعى إلى قطع امتداداتها الاجتماعية والثقافية والطائفية والاقتصادية مع الداخل السوري والفلسطيني. ثانياً، ترافق ذلك مع انهيار السلطنة العثمانية ما أتاح لدمشق مجدداً الحلم بأن تكون عاصمة الدولة العربية الموحدة، وهو الحلم الشريفي الذي لم يدم طويلاً إلا أنه بات مرتكزاً أساسياً لاحقاً لنظرة دمشق إلى نفسها كوارثة لاسطنبول في المنطقة وكقلب العروبة، وإلى لبنان كأقاليم مسلوخة عنها. ثالثاً، تحولت القضية الفلسطينية، والتنازع العربي – العربي على استخدامها ورقة في الصراع على قيادة العرب، محكاً اساسياً لدعاوى كل نظام سوري في الحكم، ولم تقم خسارة الجولان سوى بمفاقمة الأمر، حيث بات النزاع مع اسرائيل مناط شرعية كل نظام حاكم في سوريا بما أن كل نظام فيها يسعى إلى اثبات جدارته في قيادة العرب والتربع قلباً لعروبتهم. رابعاً، أدى الفشل العسكري، في مختلف المواجهات مع اسرائيل برغم التحالف مع الاتحاد السوفياتي ومع مصر، إلى تحول الاستراتيجية السورية من المواجهة إلى الممانعة، أي اللعب بأوراق خارجية بديلاً، وهو ما يسمح بإنجاز الهدفين السابقين معاً، أي حيازة شرعية مقاومة اسرائيل، ولو مداورةً، والسيطرة على لبنان وفلسطين تأسيساً لتوحيد جديد للإقليم بقيادة سوريا، وهو ما كان الأسد الأب يقوله صراحةً في مناسبات عدة. خامساً، ساهم التشرذم الفلسطيني الذي أذكته النزاعات العربية – العربية في تسهيل سيطرة دمشق على فصائل فلسطينية متعددة، لا سيما بعدما سهل انتقال المقاومة الفلسطينية إلى لبنان السيطرة السورية العسكرية على ما بقي منها اثر الاجتياح الاسرائيلي.

بالنظر إلى هذه العوامل التاريخية تبدو التطورات الراهنة بالغة الأهمية.  فالثورة السورية، كسابقتها المصرية، لم ترفعا شعارات مثل “سوريا أولاً” أو “مصر أولاً”، إلا أنهما ترفضان الاستبداد بمثل ما ترفضان الانشغال بمسائل السياسة الخارجية على حساب الداخل. أي أن سوريا الجديدة، التي تشير إلى وجهتها بيانات التنسيقيات وكتابات المثقفين معاً، ترفض أن يكون محط شرعية النظام دوره الخارجي وتطالب بالالتفات إلى بناء الداخل السوري. يعني هذا الأمر أن سوريا الجديدة، كما مصر من قبلها، ستسعى ما إن تستقر، إلى ان تكون قوة داعمة للكفاح الفلسطيني، لا قوة سيطرة على قراره السياسي والميداني كما سعى النظام الأسدي. يعني ذلك أيضاً أن سوريا الجديدة لن تعتبر لبنان درة تاجها وستتخلى عن الانشغال بمسائل سياسته الداخلية، فضلاً عن أن سوريا المهمومة ببناء داخلها لن ترمي بمئات آلاف شبابها القادرين على العمل والانتاج إلى غابة الفوضى والقوانين الغائبة في لبنان. إلى انحسار الرغبة في ممارسة هيمنة سياسية وعسكرية على لبنان، ستنحسر الرغبة الشعبية أيضاً في العمل فيه ما إن تنطلق آليات بناء سوريا الجديدة وتسقط آلة القتل والإذلال، ما يعيد طرح مسألة القوة العاملة في لبنان، فضلاً عن احتمال الافادة من الشباب الفلسطيني بديلاً جزئياً من غياب العمال السوريين.

الأهم من ذلك، أن الشعوب ستعيد تشكيل علاقاتها بناء على معطى جديد. أولاً مع ذاتها: فتراجع السيطرة السورية على قرار بعض الفصائل الفلسطينية يضع الشعب الفلسطيني مجدداً أمام تحدي القدرة على الإمساك بقراره والمضي في خياراته السياسية، مثلما أن الانشغال السوري بالداخل يضع الشعب اللبناني أمام تحدي القدرة على تخطي الاستقطاب السياسي الحالي وتجاوز الزعامات المبنية إما على الولاء لنظام الأسد وإما على العداء له. وثانياً، إعادة تشكل العلاقات ما بين هذه الشعوب: ما يحدد الأمر ليس المواقف السياسية أياً يكن الامتنان الذي قد يحمله السوريون لمن يقف بجانبهم ضد القتلة اليوم، بل المواقف الشعبية والإعلامية. الفلسطينيون الذين يعانون من الاحتلال الإسرائيلي والحصار اللبناني المضروب على المخيمات وشبابها ومن القصف السوري لهم، سيدركون أنهم شركاء في المظلومية مع اللبنانيين والسوريين الذي عانوا أيضاً من الاحتلال الإٍسرائيلي ومن عنف نظام الأسد، وعليهم أن يعبّروا بوضوح، كما فعلوا ويفعلون، عن استقلاليتهم وعن رفضهم أن يكونوا ورقة التوت التي تغطي عورة هذا النظام وتمنحه الشرعية باسم الممانعة. أما اللبنانيون، الذين لا تخفى تفاهة سياسييهم ونفاقهم على الشعب السوري الواعي، فهم مدعوون مجدداً إلى فتح أبوابهم أمام اللاجئين السوريين (بدل فضيحة تسليم الشبان السوريين إلى النظام!) وإفراد صفحاتهم وإعلامهم للإعلاميين والمثقفين السوريين. بل إن أحد الأشكال الأساسية للتضامن مع الشعب السوري قد يكون اليوم صفحات الـ”فايسبوك” وغيرها من شبكات التواصل الإجتماعي التي تسمح بتناقل المعلومات والصور والفيديوهات ونشرها، بما يبين حقيقة ما يحصل في الداخل السوري الذي يحيطه النظام بستار حاجب من التضليل والمنع.

هذا التضامن اليوم شرط شارط لحوار الغد، يبنى على أساس المصالح الحيوية للبنان ولسوريا، كما يبنى على أساس جاذبية الخيار الديموقراطي السوري المقبل واحتمال تشكيله غطاء حاضناً لتجربة لبنانية مختلفة عن فيديرالية الطوائف الحالية. حوار ما بعد الثورة السورية، كما ذكرنا، شرطه التضامن الشعبي والإعلامي اليوم مع الشعب السوري، غير أنه يضع اللبنانيين أيضاً أمام تحدي الإتفاق على معنى مصالحهم الحيوية في سوريا (الدعم الاستراتيجي في مواجهة اسرائيل، الترانزيت، المياه، العمال… على أقل تقدير، وقد تضاف إليه المشاركة اللبنانية في بناء قطاع مصرفي سوري ناشط وفي بناء قطاع إعلامي حر)، مثلما يضع السوريين أمام تحدي تعيين مصالحهم الحيوية في لبنان (التعاون الأمني، التنسيق في السياسة الخارجية بما لا يفرض هيمنة على مواقف لبنان، حقوق العمال، على الأقل). على مثل هذا الحوار المستقبلي، يفترض أن يُبنى اعتراف لبناني شامل بنهائية الوطن اللبناني، مثلما يفترض أن يُبنى أيضاً اعتراف سوري نهائي باستقلالية لبنان وإنهاء المركزية السورية في النظر إلى العروبة بصيغتها التقليدية. ذلك أن إضافة الثورات المصرية والتونسية إلى السورية، مع التغييرات الدستورية الحاصلة في الأردن والمغرب ومع سقوط نظام القذافي في ليبيا وما سيلي، ستعيد تركيب العروبة في اتجاه صيغة حضارية مبنية على أولوية بناء الدول والاهتمام بالداخل واكتشاف المصالح المشتركة، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، من ضمن هذا الداخل الوطني (أو القطري في العبارة القومية) سعياً نحو تطوير أعلى للعلاقات العربية البينية.

قد يقول بعض دعاة الحنين إن هذا يعني القبول بنهائية اتفاق سايكس – بيكو (علماً بأن هؤلاء الدعاة لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر حتى في الفارق بين ما تضمنه الاتفاق والحدود الحالية لدول الاقليم!). لكن هذا النقد، القائم على الظن أن الأمة موحدة بالجوهر وأن تقسيمها عارض عابر، يغفل آثار ونتائج تجارب قرن وأكثر، واختلاف ما عاشه كل شعب خلالها، كما يغفل أن كل توحيد لا يحترم اولاً رغبة الشعوب ولا يتأطر في مؤسسات تعبّر عنها، سيكون مآله مآل كل تجارب التوحيد العربية التي شهدها القرن العشرون، فبناء دواخل لدولنا ومؤسسات لاجتماعنا هو المدخل الوحيد لأي تقارب جدي ومثمر ومستدام.

كذلك، يبدي البعض تخوفاً من أن تكون الثورة السورية، لا سيما إن دفع النظام في اتجاه خيار الفوضى المتطاولة، سبيلاً إلى فرط خيار مقاومة اسرائيل من خلال “حزب الله” و”حماس”، وقد يكون ذلك محقاً ويطرح على “حزب الله” مسألة تحديد هويته الجديدة، إلا أن المحددات الاستراتيجية التي حتّمت على سوريا مواجهة اسرائيل لن تتغير، ما دام الاحتلال والظلم قائمين. ما سيتغير هو طبيعة المواجهة، ذلك أن انتقال سوريا المستقبلي إلى الديموقراطية وتفعيل الخيارات الفلسطينية الوطنية سيتيحان مجالاً أوسع لنقل القضية إلى المحافل القضائية والمعايير القانونية الدولية المتفق عليها، مع منح هذه الخيارات ظهيراً حقيقياً ببناء دولة سورية جدية وقادرة على التعامل مع التهديد الاسرائيلي بندية وبعودة “الأمة المصرية” (بحسب تعبير وثيقة الأزهر) إلى حلبة الصراع، ولن يكون ذلك دون تأثير على الوضعين الإيراني والتركي في المنطقة، فالتنافس سيكون، بعد الفترة اللازمة للاستقرار، معهما لا بينهما فقط.

سوريا الحرة والديموقراطية قادمة لا ريب فيها، وإن أخرتها آلة القتل لكنها لن تستطيع هزيمتها. ووعي الشعب السوري وطاقاته سيسمحان بمنع “الصراع على سوريا”. وسوريا الحرة والديموقراطية ستشكل أرضاً لتجربة جديدة مختلفة وجذابة تفرض على النموذج اللبناني المتقادم والمتهالك إعادة احياء قدراته التنافسية بالتعاون معها. ثمة معادلات ومفاهيم قديمة في المنطقة ستنتهي صلاحيتها، وأخرى جديدة ستنشأ. ثورة سوريا توسّع في كل يوم فسحات الأمل وتضيّق مساحات الفوضى وعدم الاستقرار، فهل يلاقي اللبنانيون هذه الفرصة لإقامة علاقة صحية ومنتجة بالتوحد حول وطنهم والتضامن مع الشعب السوري وتحديد المصالح الحيوية معه وبناء علاقة مشتركة على ثوابت الاحترام والتعاون ودعم الخيار الفلسطيني الحر وتطوير ملامح جديدة للصراع مع اسرائيل؟ ثمة ما هو منوط بنا وبمسؤوليتنا في قادم الأيام، ومسؤوليتنا هي تماماً ما تغفل عنه دوماً نظريات المؤامرة. “حيوا أهل الشام”، مع المصري اللبناني الأصل فؤاد حداد، فباسترجاعهم حريتهم يضعون أيضاً بأيدينا مفاتيح مصيرنا.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى