سلامة كيلةصفحات سورية

أحوال المعارضة السورية منذ بدء الثورة


                                            سلامة كيلة

ما يمكن قوله هو أن الثورة السورية تعاني من غياب الفعل السياسي نتيجة غياب الأحزاب التي تعي معنى السياسة والصراع السياسي، الذي هو ضرورة في كل ثورة. فالمعارضة السورية كانت خارج الحدث منذ البدء، وكل سياساتها التالية أبقتها في المكان ذاته. وهي الآن، إما مازالت تراهن على تراجع في السلطة نحو الإصلاح، وتعتمد الضغوط المختلفة، ولهذا تحضّر لعقد مؤتمر للمعارضة في دمشق، أو مازالت تعيش وهم “التدخل الخارجي”، وتركز على التواصل مع “الدول الغربية”، وتعمل على التحضير لتشكيل “حكومة انتقالية”. ومازالت الثورة تعيش مشكلاتها، وتقوّم مساراتها ذاتياً.

لم تتوقع المعارضة السورية أن تحدث ثورة في سوريا، فقد كانت نظرتها إلى الشعب سلبية. ولم تكن تتلمس واقعه، الذي هو واقع اقتصادي معيشي بالأساس. بل ظلت تعمل في “المستوى السياسي”، أي في الصراع مع السلطة، أو في الحديث عن “الإمبريالية”. وكان تقييمها الأساس نتيجة القمع الطويل الذي تعرضت له، وشعورها بالمقدرة الكبيرة على القمع من قبل السلطة، وهو القمع الذي أضعفها كثيراً خلال العقود السابقة، أن السلطة قوية إلى حدّ أننا لا نستطيع هزيمتها، وأن ميزان القوى مختل كثيراً لمصلحتها.

ولقد انبنى التقدير على حساب قوة السلطة و”قوة” المعارضة، أي بعيداً عن إدخال الشعب في ميزان القوى هذا، انطلاقاً من أنه “غير سياسي”، وبالتالي غير فاعل (وكانت تضاف صفات أسوأ، مثل التخلف والاستسلام والخضوع). وهذا الأمر كان يفرض تجاهل الشعب، ومن ثم عدم تقدير أنه في وضع يمكن أن يقوده إلى الثورة، خصوصاً وأن كل التحولات الاقتصادية التي جرت منذ سنة 2000 بالتحديد لم تكن تلمس، أو كان قطاع كبير من المعارضة يربطها بالميل “الإصلاحي للرئيس الشاب” الذي يريد تغيير بنية السلطة! بمعنى أن التركيز كان ينصبّ على تحقيق “الإصلاح السياسي” المترافق مع تحقيق اللبرلة كتكوين عضوي، وهو الأمر الذي جعل هذه المعارضة تغض النظر عن تحرير الاقتصاد وتتمسك فقط بالمطالبة بالإصلاح السياسي. هذا التحرير الاقتصادي هو الذي كان يؤسس لتصاعد الاحتقان الاجتماعي، ويهيئ لحدوث الثورة.

ربما شباب تشكل في مرحلة ما أسمي “ربيع دمشق” هو الذي كان يعتقد بأن سوريا يمكن أن تسير على طريق الثورات في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، وهو الذي بدأ في محاولة تحريك الشعب. وهو شباب منقطع الصلة، في الغالب، مع قوى المعارضة، أو قطع الصلة خلال الثورة.

هذا الوضع للمعارضة جعل كل نشاطها بعد أن حدثت الثورة يتمركز حول “الحلول”، والبحث في “مرحلة ما بعد”، انطلاقاً من أنها هي التي ستصل إلى السلطة “موضوعياً”، كونها “المناضل التاريخي”، أو أنها هي التي ضحّت طيلة عقود طويلة، أو حتى لأن الأمر “الطبيعي” يفرض أن تكون هي، انطلاقاً من “قناعة ذاتية”. ولقد ركب على هذه المعارضة “أكداس” ممن لم يناضل أو يلعب أي دور في الماضي، وكثير من “المصلحيين”. وهؤلاء معنيون فقط بالسلطة “الجديدة”، وبدورهم فيها، ولا يعنيهم ما يجري على الأرض.

إذن، يمكن القول بأن هناك قطيعة بين الشعب والمعارضة، كما أن هناك “أحلاما” مختلفة. وهو الأمر الذي أسّس لأن تسير الثورة في مسار، والمعارضة بمختلف تلاوينها في مسار آخر لا يمتّ بصلة لمسار الثورة (ولقد كان عبئاً عليه).

فالثورة كانت بحاجة إلى قوى سياسية تعطيها الأفكار والخبرة والتجربة لكي تتبلور أهدافها بشكل واضح (أي بشكل سياسي)، وتطور وعي شباب لم يكن يعرف السياسة ووجد ذاته في خضم السياسة من أوسع أبوابها (باب الثورة)، وتمدهم بالشعارات المعبرة عن واقعهم، وبالسياسات التي تسمح بتطور حقيقي لنشاطهم. وبالتالي كانت تفترض انخراط المعارضة في الثورة بالمعنى العملي (أي في الممارسة اليومية). فالثورة ليست “هوجة”، وعفوية انطلاقها كانت تفرض الحاجة الماسّة لأن تتنظم وتتحدد، وهذا من فعل قوى سياسية لديها وعي وخبرة ورؤية وإستراتيجية تغيير. وليس “برنامج مطالب” فقط.

لكن “إستراتيجية” المعارضة بعد انطلاق الثورة انبنت على أساس هو نتاج تاريخها، ويتعلق برؤيتها للوضع من منظورها “السياسي” (الذي كما أشرنا يتعلق برؤية المستوى السياسي وليس كلية المجتمع)، حيث ظل شعورها بـ “جبروت” السلطة، وبـ “العجز” الذاتي عن إسقاطها، هو الذي يتحكم بكل سياساتها ويحدد إستراتيجيتها. خصوصاً أن نظرتها للشعب لم تتغيّر رغم ما تشاهده على الأرض من قوة وعنفوان. بمعنى أنها لم تثق، ومازالت لا تثق، بأن هذا الشعب يمكن أن ينتصر. ولهذا أصبحت الثورة هي فرصة، فرصة بكل معنى الكلمة.

فرصة لكي يفيق “رجالات السلطة” فيقتنعوا بخطاب المعارضة المطالب بالإصلاح عبر تحقيق “الانتقال إلى الدولة الديمقراطية”، وبالتالي أن تجري عملية “انتقال سلمي وآمن”. أو فرصة لكي تتدخل الدول الإمبريالية (أو كما يسمى من قبل هذا الطيف من المعارضة: الغرب) من أجل إسقاط السلطة، وفي قناعتها أن هذا النمط من النظم “القومية” لا يسقط إلا بالتدخل الخارجي (مثل العراق ومن ثم ليبيا).

فبعد ثلاثة أشهر من الثورة تشكلت هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، لكن بدل أن تلحظ الأحزاب والشخصيات التي شكلها التحوّل الكبير الذي حدث، والذي كان يجب أن يشكك في كل المنطق الذي حكمها فيما يتعلق بالنظر إلى “الشعب”، والانطلاق من أنه خارج معادلة الصراع (لما أشرنا إليه قبلاً)، انطلقت من التقدير ذاته، والمعادلة ذاتها: اختلال ميزان القوى بين المعارضة والشعب، وأن السلطة لن تسقط.

لهذا كررت الإصلاحات التي كانت كل أطياف المعارضة تنادي بها منذ عقد (أي منذ ربيع دمشق). ولأن الشعب قد رفع هدف إسقاط النظام فإن كل تصور ما دون ذلك يسقط، وهو الأمر الذي فرض تهميش الهيئة منذ البدء، وفتح الأفق لنقل مركز المعارضة إلى الخارج، حيث كانت قوى تعيش في الخارج تتحضر للحظة فشل المعارضة الداخلية عن التقاط “نبض الشارع” لكي “تزاود” هي فتتصدر.

فعلاً لم تقبل هيئة التنسيق شعبياً، رغم أن كادرات بعض أطرافها (حزب الاتحاد الاشتراكي) كانت منذ البدء مشاركة في الثورة، وكانت في أساس تحريك مناطق متعددة (وهذا ما قاد إلى انسحاب كثير من هذه الكادرات من الحزب فيما بعد). فأصبحت تلهث وراء الحدث، وتحاول رفع سقف شعاراتها دون القطع مع أساس فكرتها عن الحل، وهو ما جعلها تندفع وراء مبادرة الجامعة العربية، ثم وراء الدور الروسي الذي بدا وكأنه يبحث عن حل، ومن ثم وراء مبادرة كوفي أنان، وبعده الأخضر الإبراهيمي.

وإذا كانت قد وصلت إلى أن عليها طرح مسألة رفض قبول السلطة الحالية، والبحث في “مرحلة ما بعد بشار”، فقد ظلت تعتمد التوسطات والوساطات للوصول إلى ذلك. ومن ثم عادت لكي تضع هذه المسألة في سياق “الحوار من أجل انتقال السلطة”، أو “الحوار مع أطراف في السلطة”. أي بمعنى أن تجري المفاوضات مع السلطة لترتيب عملية الانتقال. وهو الأمر الذي كان يجعل خطابها مرتبكاً، وغير قاطع مع السلطة، خصوصاً بعد أن بدأت بعض الشخصيات التي تنتمي إليها تركز “النقد” على التسليح والجيش الحر، و”العصابات المسلحة”. وبعد أن باتت تُظهر ذاتها كطرف ثالث بين الشعب والسلطة (مبادرة وقف إطلاق النار في عيد رمضان).

في المقابل، كانت أطراف المعارضة في الخارج (الإخوان المسلمون، وليبراليون نظموا أنفسهم على عجل، وأطياف أخرى) يتحضرون لكي يكونوا هم المعارضة. ولقد بدأت المسألة بعقد مؤتمرات (أنطاليا وإسطنبول وبروكسل وغيرها) حاولت أن تضم أطيافا مختلفة، وأن تشرك ناشطين من الداخل، سواء اضطروا إلى الهروب أو حضروا من الداخل خصيصاً. وكانت حينها تتسرب فكرة تشكيل “مجلس وطني انتقالي”، والدعوة للتدخل الخارجي.

سرعان ما قادت بعد ما يقارب الأربعة أشهر إلى تشكيل “المجلس الوطني السوري” حيث كانت ظروف الثورة إلى أن يجد صدى لا بأس به في الشارع الثائر. فظهر أنه ممثل الثورة “الشرعي والوحيد”. لكن هذه المسألة لم تطُل كثيراً، حيث بات مرفوضاً كهيئة التنسيق، وربما أسوأ، نتيجة “الفضائح” التي رافقته، سواء في التصريحات أو البذخ، أو التفكك والصراعات الداخلية. ولكن أساساً نتيجة أنه لم يلمس مشكلات الثورة، وحين أوهم الشعب بأن الحل هو في التدخل الخارجي عبر فرض “حظر جوي”، لم يتحقق ذلك، وظهر واضحاً أنه ليس من إمكانية لهذا التدخل.

وظهر أن المجلس ينشط كـ “وزارة خارجية” مهمتها إقناع “الغرب” بضرورة التدخل العسكري (عبر الحديث عن الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، أو الدعوة لحظر جوي هو في الحقيقة حرب عسكرية). وبأن يكون هو الممثل الوحيد للشعب السوري. ورغم الوضوح “المبهر” لمسألة غياب كل احتمال للتدخل العسكري، وهو ما تكرر في تصريحات كثيرة لرؤساء ومسؤولين غربيين (أوباما وكلينتون، هيغ، ميركل، وأمين عام حلف الناتو) فقد ظلت الإستراتيجية التي يعمل على أساسها المجلس هي: التدخل الخارجي.

ومن أجل ذلك تحوّلت الثورة في خطاب المجلس إلى مأساة ومجزرة ومناطق منكوبة. وأصبح البكاء والاستجداء والندب هو “الخطاب الرسمي”. دون تلمس بأن ما يجري هو ثورة، برغم وحشية السلطة ودمويتها، وكل التدمير الذي تحدثه. فالهدف من هذا الخطاب هو استجداء التدخل، لأنه الطريق الوحيد لوصولها السلطة كما تعتقد هي. فهي لا تثق بالشعب، ولا ترى بأن صيرورة الصراع يمكن أن توصلها إلى السلطة على الطريقة المصرية أو التونسية.

هنا، ليس لم تقدّم هذه المعارضة ما هو مفيد للثورة فقط، بل قدّمت ما شكّل إضعافاً لها. فقد كانت تؤكد كل ما تقوله السلطة في خطابها، الذي ركّز (عن وعي وتخطيط) على الطابع الأصولي للثورة، وعلى الوطنية ودورها الممانع. حيث كانت الدعوة للتدخل الخارجي تخيف قطاعات مجتمعية مختلفة (لكن خصوصاً المسيحيين)، بالضبط نتيجة تلمس السوريين لأخطار الاحتلال الأميركي للعراق، وانعكاس ذلك على انفجار الصراعات الطائفية والقتل الطائفي.

لهذا كان الخوف كبيراً من كل دعوة للتدخل العسكري، أفضى إلى عدم مشاركة قطاعات مجتمعية في الثورة، أو مشاركتها المتأخرة. كما كان التركيز على “الأسلمة”، ومن ثم السطو على إعلام الثورة وصبغه بصبغة أصولية، يعيد إنتاج الماضي (أحداث 1980/ 1982) ليُظهر بأن ما يجري سوف يقود إلى سيطرة الإسلاميين على السلطة، وبالتالي إلى القيام برد فعل على تلك الأحداث ضد “العلويين” خصوصاً. وكان ما يجري في تونس ومصر من سيطرة الإسلاميين عبر الانتخابات يؤكد هذا الخوف.

لكن هذا الخوف طال الكثير من “القوميين” والعلمانيين، واليسار كذلك. وهو أمر أيضاً فرض التردد وعدم الاندماج في الثورة، أو حتى الوقوف مع السلطة ليس حباً فيها بل خشية من البديل.

وبهذا كانت المعارضة عبئاً على الثورة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى