صفحات سورية

أخرجونا من قمقم الأمس


أماني العاقل

لن أعيش في جلباب أبي….. لن أعيش في أفكار القرن الماضي وتقسيمات القرن الماضي وإيديولوجيات القرن الماضي..الماضي يبقى في الماضي…اتركوا لنا فرصة للتفكير بغد أفضل من ماضيكم..

أجد أن من حقنا- نحن الذين ولدنا في عقد الثمانينات – أن نفكّر بغد أجمل ينبض بجمال الفكرة، غدٍ بعيد عن وطأة الشعارات التي أثقلت طفولتنا، توصيات الجدات التي قيّدت مخيلتنا، ونمنمات الجارات التي آلمت أحلامنا، من حقنا- ذكوراً وإناثاً- أن نتصالح مع مشروع يردم الهوة بين ذاكرتنا الثقافية وهويتنا الاجتماعية، فالاستنجاد بالذاكرة كما يقول “الغذامي” في كتابه “هويّات ما بعد الحداثة” يكون وقت “الأزمات الكبرى”، ولا بدّ في هذه الأزمة ّ من عودة إلى الماضي، لكن بعد أن نخلع عين الرقيب التي فرضتها التربية النسقية الاجتماعية، لقد نشأنا وخوف من مساءلة اللامفكّر فيه يخيم فوق عقولنا، فإعادة قراءة ذاكرتنا المشتركة التي تشكّلت في تهويمات تكّرس مقولة “كل الناس هكذا” وتمسح من لا وعينا “أنا أريد أن أفعل هذا!!”، تنبئ بأننا أصبحنا أرقاما لصالح بعضنا، وكل ذلك بمباركة “الرقيب” الذي اخترعته المركزيات الدينية والثقافية والسياسية، فإذا كنا جميعاً لا نرتضي هذه الرقمية النسقية، لماذا لا نزال مستمرين في لعبة الذاكرة المخترعة؟؟ لقد قلقلنا بما يكفي لنغدو كباراً، وبعد أن أصبحنا كباراً وجدنا أن ألعاب الطفولة أكثر جمالاً وسلاماً من لعبة الحياة في ظل قيم مائية تتلوّن لصالح الأقوى، فثمة إشكاليات فكرية وثقافية لم تكتمل بعد، لقد نشأنا في مرحلة أعلن فيها المثقف انسحابه من الشارع إلى قاعات الندوات والمؤتمرات، فتُركنا بلا واقع ثقافي يساندنا، ركام من المطبوعات والكتب والنظريات والروايات والدواوين الشعرية التي حاولت أن تقنع الوعي العربي بأننا في مرحلة الحداثة، حداثة النخبة التي لم تتنبه إلى أهمية إقامة مشروع يردم الهوّة بين أنساق الثقافة العالمة وأنساق الثقافة غير العالمة، لقد استمر الوعي الثقافي يقفز فوق الحواجز دون أن يتنبه إلى أن هذه الحواجز تؤطر مسيرته وترسمها وفق بنية انتشارها، فنشأ الوعي الثقافي العربي مقولباً ومسبق الصنع، لم ينجح في إقامة مشروع مصالحة بين الوافد والأصيل، فغدونا بلا حلم يجمعنا، وكنا كلما تساءلنا عن حلمنا الذي سنجتمع عليه، قالوا لنا “تحرير فلسطين” و”الوحدة العربية”، وكلما كبرنا سنة عرفنا بأن الحلم يبتعد أكثر، في حين تقترب أحلام أبناء الشعوب الأخرى من الحياة أكثر، فماليزيا صنعت نهضتها، واليابان نهضت من كارثة هيروشيما النووية، وسقط الاتحاد السوفييتي، واستمتع أبناء أمريكا بلقب أبناء العالم الأول، واليوم تنهض الصين لتسيطر على أسواق العالم بأكمله!! كلهم رسموا حلماً وبنوه بأفكارهم،وأحلامهم ومغامراتهم، فلماذا كلما تكلمنا تقولون لنا “أنتم لا تعرفون شيئاً”، وتمطرونا بسيل عرمرم من تاريخ الإخفاقات العربية والإيديولوجية والثقافية، ثم يعقبون ” الناس تريد أن تأكل لا أن تقرأ”.. وتزيد الأمهات مستطردة” من الأفضل أن تجد كل واحدة بيتاً وأسرة تصنعها بدلا من إفناء حياتها في كلام كتب وافتراضات”!!. لقد تكرس في وعي الجماعة في مجتمعاتنا بأن الثقافة لا تغني ولا تسمن من جوع، وإذا كان لا بدّ من مشروع نبني فيه أوطاننا، فليكن مشروعاً كهربائيا أو ميكانيكيا أو هندسيا بأي اختصاص، فالمنظومة النسقية فضلت المادي على المجرّد، وتركت الفكرة حبيسة السيرة الشعبية أو الروايات التي استبدلها الناس بالدراما التليفزيونية لاحقاً، ولم يفكر أحد منهم بأن تلك الفكرة هي نواة تشكّل غدنا الأجمل، وبأن المغامرة الروحية والفكرية هي التي ألهمت الشعوب الأخرى أفكاراً عظيمة في تحولاتهم ! إن المواجهة الحقيقية للشعوب العربية تكمن في وقفة صادقة أمام الذات، يعيد فيها كل فرد صياغة رؤيته لنفسه أولاً ولجاره وصديقه وزميله ثانياً ،وقفة نتفق فيها على أننا غارقون بقيود إن بقيت فهي كفيلة بتجميدنا عقوداً أخرى، علينا أن نتفق بأننا نستحق الأفضل، وعلينا أن نؤمن بأهمية العلم والفكر وتفضيله على حساب المنظومة النسقية التي لخّصها “الغذامي” بالمال والحسب والنسب والعشيرة،والاحتفاء بالجمالي على حساب القيمي، الاجتماع على حبّ الفكرة يجعل أبناء الثقافة العربية -ذكوراً وإناثاً- يتحدون لمواجهة الممارسات النسقية التي أفرزتها مركزيات الثقافة غير العالمة، فلطفاً آباءنا الذين سبقونا في معركة الحياة، أطلقوا قيد ماضيكم عن أحلامنا، دعونا نحلق ونسافر ونتألم لنتعلم فنعود بوعي أشد نضجاً يساعدنا على بناء أوطاننا بحكمة من سبقونا في بناء أوطانهم، لا ينكر أحد خبراتكم ورؤيتكم الواسعة، لكن لأحلامنا علينا حقاً، ولأفكارنا حرية التكاثر والولادة، والأفكار لا تعرف تميزاً بين ذكر وأنثى، فهي من وحي الله شريعتها إن أكرمكم عندي أذكاكم وأكثركم جرأة على الاختراق والبناء، فلن نكون نموذج “دون كيشوت”، تلك الفزاعة التي تلوح دائماً عندما نسرد أحلامنا ببناء نزيه بعيد عن شبق السلطة والجاه والشهرة، ففكرتنا تنطلق من إيماننا بأن ثقافتنا تستحق الحياة، نريد بداية جديدة قوامها مستقبل يتجاوز التركة الثقافية المأزومة التي خلفها آباؤنا، ونقطة البداية تكون من تجاوز اليأس ونفض غبار التجارب القديمة الفاشلة، وبناء مركزية ثقافية جديدة تتصالح مع نسق يريد إنتاج الثقافة لا استيرادها واستهلاكها، وعلى هذا الإنتاج أن يكون منسجماً مع الواقع، حتى لا نعيد تجربة الانفصال بين الواقع الاجتماعي واليوتوبيا الثقافية.

كاتبة سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى