صفحات الثقافة

أخطاء عزرا باوند الثمينة/ ياسر قبيلات

 

 

 

يعتقد شاعر أميركا، عزرا باوند (1885 – 1972)، أن العلاقات بين الأشياء أهم من الأشياء نفسها. ولا أعرف إن كان هذا، برأيه، يتعدى الأشياء ويتجاوزها إلى البشر وينطبق عليهم، أم لا. ولكن لو صح هذا، لقلت دون تردد إن علاقة عزرا باوند بـ”الأشياء” أهم منه هو نفسه، ومنها!

وعلاقات عزرا باوند، في جلها، معقدة ومركبة!

أولها، علاقته الكارثية ببلاده. وثانيها، علاقته المعقدة بأوروبا التي لم يتأثر بها في نصه، بحكم أنها كانت بالنسبة له منطقة تلوث أميركي وتحتاج للإنقاذ، ولكنه تأثر بنزعاتها في شخصه، فاختار خلال الحرب العالمية الثانية، الأوروبية في الأساس، اصطفافاً وضعه مع أوروبا التي هرب بنفسه إليها من بلاده، وضد أوروبا التي هربت بنفسها إلى أميركا.

وثالثها، علاقته المركبة بالثقافة الأوروبية؛ وتعقيدها يبدأ من أنه تفرّد بين الكتاب الأميركيين الهاربين من أميركا بأنه جاء ليعلم أوروبا، لا ليتعلم منها. ولكنه، بالمقابل، لم يكن يحمل في جعبته وصفة أميركية، بل الخلاصات الأوروبية في الأدب، قدمها للأوروبيين الذين أصابتهم لوثة “الحضارة الأميركية”.

ورابعها، علاقته التأسيسية غير المعهودة بمعاصريه من الكتّاب. لقد أثّر بأبرزهم، وصنع الخطوات الأولى لجلهم، ورسم أدبهم. ولكنه مارس هذا التأثير بشخصه وبآرائه وبعلاقاته المباشرة بهم، قبل أن يمارسه من خلال نصه.

وخامسها، علاقته بالفاشية الإيطالية ومساندته موسوليني، التي أكسبته سمعة سيئة، لم تخفف منها شاعريته وموهبته وإنجازه. وبالنتيجة، ظلت شهرته تتوزع بالتساوي ما بين سمعته السياسية السيئة ومكانته الأدبية المرموقة.

وتالياً، زادت مساندته للفاشية تعقيد علاقته الخاصة بأدبه، كما خلقت معضلة حقيقية لمقدري ومحبّي شعره ودارسيه، الذين لم يجدوا تفسيراً يريحهم سوى الاستسلام السهل للقول بأن مسألة “التقدمية” و”الرجعية” لا تنطبق على الشعر؛ وأن الشاعر يمكنه أن يكون رجعياً دون أن يسحب ذلك على شعره.

هو من جيل من الكتّاب لم يُنب قلمه عن شخصه، ولم يتوار وراء ريشته، ولا اختبأ في نصه. كان من نمط يرى أن مهنة الكاتب تتعدى قلمه إلى المشاركة في تقرير مصير العالم. وأن أصحاب هذا الدور الجليل من مبدعين وعلماء يكتشفون قوانين العالم أحق بأموال التبرعات، التي تجمعها المؤسسات الدينية، وأولى بها من رجال الدين العاطلين عن العمل، الذين يعيشون عالة على فقراء المجتمع.

لقد اعتدنا، بالطبع، أن البحث الغربي عما هو عفوي وبدائي في الثقافات الأخرى ينطلق بالضرورة من نظرة استعمارية. ولكن باوند كان يستخدم ذلك في حربه للتحرر من بلاده وثقافتها ولغتها الموجهة. وبهذا يمكن فهم هوسه بالثقافات والشعر الشرقي وازدرائه للعادات الغربية وميله إلى الخروج على المألوف، وتقديره المفرط للوثنية وكرهه اللامحدود لأميركا التي تعبد الكتاب المقدس والدولار في آن معا.

غادر عزرا باوند، الذي سيصبح أبرز ضحايا أوروبا (الغربية)، بلاده أميركا في نهايات العقد الأول من القرن الماضي، لأنه كان عاجزاً عن التأقلم مع المجتمع الأميركي. وهذا مفهوم، فهو لم يكن شخصاً امتثالياً، وفي بلاده وفي أوروبا كان يوصف بـ”غريب الأطوار” وبـ”الكائن غير الاجتماعي”.

أقام عزرا باوند أول الأمر في البندقية، ثم انتقل إلى لندن. وفي بداية العشرينيات، اقتحم المشهد الباريسي، وانخرط في الحياة الثقافية بقوة، حتى لم تنشأ مدرسة أو حركة أو مذهب فني جديد إلا وكان فيه أو يقف خلفه. وتذكرنا حالة “الانخراط الباريسية” هذه التي عاشها بحالة “الانخراط المصرية” التي عاشها كاتبنا غالب هلسا في القاهرة. ولا نعرف إن كانت هذه الثانية تستنسخ الأولى بوعي، أم هي مجرّد تماثل عارض.

خطيئة عزرا باوند الكبيرة التي لم ينسها أحد له، هي أنه آمن أن دولة موسوليني الفاشية هي تجسيد للدولة المدنية، فناصرها. ولم يمر هذا دون ثمن باهظ، فقد اقتيد بعد الحرب إلى أميركا التي يكرهها، وحوكم واعتبر مجنوناً ومختلاً عقلياً، فسجن في مستشفى مجانين لأكثر من عشر سنوات.

وبعد سنوات من الخروج من محتجزه، ومن مكابدته الأزمات الروحية والإجهاد العصبي، وضيقه بإدانات الآخرين، أو بتوسلهم الشفاعة له، واضطراره المستمر لتبرير نفسه وموقفه، وصل إلى اللحظة التي يقر فيها بانتصار العالم عليه، وكان عليه كذلك أن يسهل على محبيه التعايش مع خطيئة وسيرته، فقال: “حسناً. لقد كنت مخطئاً. مخطئ بنسبة تسعين في المئة. لقد فقدت صوابي في الإعصار”.

وكان يفترض أن يكون ذلك اعتذاراً عن انحيازه للفاشية.

وكان معلوماً أنه لن يقول أبداً “لقد كنت مخطئاً مئة في المئة”، لأنه كان يريد فقط أن يتعايش وأن يتجاوز في أحاديثه مع الآخرين هذه المرحلة، التي تغلق كل حديث، معه وعنه أو حول أدبه، على هذه النقطة بالذات. ولكنه كان بالمقابل حريصاً أن يبقي لنفسه تلك الـ”عشرة في المئة”، التي تبقيه على علاقة بخياره الحر وقناعاته، ليعيش بها وعليها ومعها.

وتستوقف العين صورته في محتجزه العقلي؛ رجلاً مسناً أشعث، لكن الروح القتالية وبريق التحدي لم يغادرا عينيه. ورغم ذلك يبدو فيها كرجل يحاول إقناع محبّيه والحياة أنه “تاب” و”عاد إلى رشده”، في مخاتلة كان يأمل منها أن تتيح له فرصة أخرى، لينبري معانداً من جديد.

لكنه سرعان ما أدرك أن معركته مع الحياة انتهت، وأن الوقت حان لبيان ختامي، فقال عن حياته أنها كانت بمجملها “فشلاً ذريعاً، لكنه أثمن من كل نجاحات العصر”. وهو في هذا محق. إنها الأخطاء الفادحة التي نقترفها. أخطاؤنا، التي هي أثمن ما نملك، فكيف نستنكرها ونتخلى عنها!

وباوند محق أيضاً؛ إنها العلاقات. أهم منا جميعاً: سواء كانت بيننا، أو مع “الأشياء”، أو بينها!

* كاتب من الأردن

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى