صفحات الرأي

أخلاقيات حروب الطائرات من دون طيار

 

جميل مطر *

يعقد في المملكة المتحدة بعد أيام مؤتمر يضم علماء وفلاسفة وخبراء عسكريين وحقوقيين لمناقشة الأخطار التي تهدد البشرية نتيجة التوسع في استخدام الأسلحة المستقلة الإرادة، أو ذات الإرادة الذاتية، مثل الطائرات من دون طيار المعروفة باسم «درون» (drones).

خطر على ذهني وأنا أقرأ عن هذا الاجتماع، الجدل الدائر في الولايات المتحدة هذه الأيام حول مسألة اعتزام سلطات الأمن الداخلي في بعض الولايات تزويد قواتها بعدد من هذه الطائرات، ومئات الطلبات التي تقدمت بها شركات تجارية بينها شركات تعمل في قطاع الأمن الخاص لتحجز مكاناً في قائمة انتظار التعاقد على أسراب منها. يدور الجدل في أميركا بينما تغلي شعوب عدة غضباً بسبب الخسائر الهائلة في الأرواح والممتلكات التي تنتج من الغارات التي تشنها هذه الطائرات، وأبرزها إعلامياً الغارات التي يروح ضحيتها المئات في أفغانستان وباكستان والعشرات في اليمن. كذلك أصبحت هذه الطائرات حديث السياسيين والعسكر ورجال الأعمال في أفريقيا خصوصاً بعد أن تقرر أن تصبح القارة السمراء مسرحاً لحرب «إقليمية» جديدة ضد الإرهاب. سمعنا عن الكثير من الدول الأفريقية التي تتعاقد مع إسرائيل وغيرها على شراء أعداد من هذه الطائرات. وكنا قد سمعنا قبل وقت غير طويل عن استلام إثيوبيا طائرات من هذا النوع بحجة حاجتها إلى استخدامها لمراقبة حدودها المترامية والمتوترة مع الصومال والسودان وإريتريا، وكنا قد عرفنا أيضاً أنها استخدمتها في رسم خرائط لمنطقة السد الضخم الذي تقيمه فوق النيل الأزرق، المصدر الأهم لمياه مصر وجزء كبير من السودان. نعرف أيضاً أن أكثر من سبعين دولة في العالم تمتلك الكثير أو القليل من هذه الطائرات من دون طيار.

بمعنى آخر، تقف البشرية أمام وضع جديد تماماً حيث يكاد يكون من المستحيل وضع تصورات واضحة لاحتمالات تطور الحروب في المستقبل بل لمفاهيم بدت وكأنها استقرت في وعي الشعوب مثل مفهوم التضحيات الوطنية ومفهوم الفداء بالروح والدم والجهاد في سبيل عقيدة أو وطن. كذلك، يهتز مجدداً ولكن بعنف مفهوم خصوصية المواطن في مواجهة اختراق الدولة حيزَه الخاص. سيكون المواطن العادي في أميركا كما في غيرها سراً معلناً لطائرات تحوم حوله ومن فوقه في منزله أو حقله أو مكتبه من دون صوت وبأحجام متباينة، واحدة منها قد تلقي من بطنها بواحدة من نوعها ولكن في حجم حشرة صغيرة تطير حتى تصل إلى حيث يقيم فتتسرب من ثقب باب وتلف أرجاء المكان تصور ما تشاء، وتؤذي أو تقتل من تختار وفق البرنامج المسجل في عقلها الاصطناعي أو وفق توجيهات تصل إليها من إنسان طبيعي يحركها ويقودها من مسافة قد تبعد آلاف الأميال عن موقع هذا المواطن.

يذكرنا التوسع في إنتاج هذه الطائرة، وغيرها من الروبوتات المسلحة، بمرحلة توسعت خلالها الدول الكبرى في عمليات إنتاج الألغام وزرعها في ساحات القتال وداخل أراضي الأعداء، وقتها ثار الجدل حول أخلاقيات هذا النوع من الحرب. وبالفعل تأكد أن أكثر ضحايا هذه الألغام كانوا من المدنيين الأبرياء وبعضهم ما زال يسقط على رغم مرور أكثر من سبعين عاماً على زرعها. هذه الألغام أدوات حرب لا تفكر ولا تتذكر. غرسها جندي أو ضابط كان يرسم الخرائط وفي ذهنه إصابة أو قتل أشخاص معينين أو مفترضين من بين الأعداء. هذا الضابط أو الجندي انتهت مهمته بانتهاء الحرب وربما رحل عن عالمنا ولكن، بقيت الألغام تنفجر في أجسام كبار وصغار ربما لم يخطر على بالهم أن حرباً جرت يوماً ما في هذا المكان. من هؤلاء الضحايا كثيرون يسقطون حتى يومنا هذا في شمال صحراء مصر الغربية المزروعة بملايين الألغام منذ الحرب العالمية الثانية. أداة قتل برمجها إنسان وتركها واختفى. من نحاسب كمجرم حرب؟

لا شك في أن كل الأسلحة المبرمجة للقتل وبخاصة الطائرات من دون طيار أدوات شريرة لأنها تستهدف بشراً لا تعرفهم ولا تستطيع التعرف إليهم، على عكس الجندي الطبيعي الذي يرى عدوه ويتفحصه ويتأكد أنه الهدف المقصود قبل أن يوجه إليه رصاصاته أو قنابله، وهي أيضاً أدوات حرب خبيثة لأنها تتحرك في صمت، لا يصدر عنها صوت ولا تعلن عن وجودها، تزحف زحف الزواحف الفتاكة من دون إنذار مبكر.

إن انتشار هذه الأسلحة التي لا يتحكم بها بشر أو يتحكمون بها من بعد يثير إشكاليات أخلاقية عدة. يسأل المعارضون لاستخدام الطائرة من دون طيار إن كان يمكن شخصاً عاقلاً أن يتعاطف مع «طائرة» من دون طيار تقصف قرية في أفغانستان أو في اليمن، كيف يتعاطف وهو يعرف أن «الطائرة لا تؤمن بقضية معينة تستحق التعاطف معها، أو أن دوافعها مشروعة، أو أنها استطاعت بالفعل التمييز بين سكان أبرياء في القرية وأفراد مشتبه في أنهم أعداء. الدارج عرفاً وتحضراً وقانوناً هو أن الضابط الطيار الطبيعي يحارب إيماناً بقضية، ولذلك فهو يخاطر بحياته من أجلها، أما هذه الطائرة من دون طيار فلا قضية تحركها، إنما تنفذ ما جاء في شريط تعليمات مودع في بطنها ويراقبها فني مختبئ في مكتب أو غرفة على بعد آلاف الكيلومترات، لا يخاطر بشيء، يراها بأعصاب باردة وهي تقتل أو تفترس بشراً لا يعرفهم ولا يستطيع الجزم بأنهم أعداء.

أتصور أن المؤتمر سيناقش إشكاليات أخلاقية عدة من بينها مسؤولية الخطأ والقتل غير المشروع. المعروف أن الجندي الطبيعي متدرب على التمييز بين العدو والحليف، وبين الجندي النظامي والمقاتل المرتزق، وبين العسكري والمدني. هذا الجندي يتحمل المسؤولية ويدفع ثمن أخطاء أو جرائم ارتكبها في الميدان لأنه كان لديه الوقت ليفكر في قراره ولديه التدريب المناسب الذي يجعله يتعرف إلى طبيعة الهدف ويتأكد منه. ولكن، في حالة الطائرة من دون طيار أو أي سلاح يتمتع باستقلالية في اتخاذ قرار عسكري لا يوجد على متن الطائرة أو في جسم السلاح الآلي من يتعرف بالدقة اللازمة إلى الهدف، وبالتالي لن نعرف بالدقة من يتحمل مسؤولية القرار.

جماعة من الناس تمشي في أحد شوارع مدينة قندهار مثلاً، أو في مدينة غزة. من يقرر من على بعد آلاف الأميال في قارة أخرى أو من داخل الطائرة «الدرون» أن هذه الجماعة من الناس تسير في جنازة أو أنها تسير في تظاهرة. لن يتمكن جدول الأوامر المودعة داخل الطائرة من التمييز بين جنازة وتظاهرة. ولن يتمكن الضابط الذي يتخذ القرار نيابة عنها من مسافة بعيدة ويحركها ويضغط على أزرارها من التأكد من أنها جنازة أو تظاهرة. السؤال نفسه سيتردد كثيراً عندما تقرر شرطة مدينة القاهرة مثلاً استخدام طائرات «الدرون» لتفريق المتظاهرين، إذ قد يحدث أن تخطئ الطائرة من دون طيار فتقصف جنازة أو طوابير تقف لشراء الخبز ظناً أنها التظاهرة التي كلفت إطلاق الرصاص عليها لتفريقها.

دول كثيرة تمتلك الآن أسطولاً كبيراً أو صغيراً من طائرات «الدرون»، ومع ذلك ما زالت إنجازات هذه الطائرة تنحصر في قدرتها على قتل أفراد مصنفين أعداء. أبرز الأمثلة هي تلك التي حققتها الطائرة الإسرائيلية من دون طيار في الحرب ضد كتائب القسام في غزة، وأشهرها القضية التي أثارها قتل مواطن أميركي من أصل يمني بطائرة «درون» تابعة لجهاز الاستخبارات الأميركية. يتركز النقاش الدائر حول القانون الجديد الذي يعده الكونغرس الأميركي على «أخلاقية» قتل مواطن أميركي بطائرة أميركية مخصصة أساساً لقتل الأعداء الأجانب. المعنى الواضح وراء النقاش هو الموقف من أن يصبح قتل الإرهابي اليمني الأصل الأميركي الجنسية سابقة تستخدم لمطاردة «مشاغبين» أميركيين في حروب داخلية تنشب بين الشرطة وحركات الإصلاح الاجتماعي مثل حركة «احتلال وول ستريت» والحركات المعادية لمؤتمرات قمة العشرين.

أحد العلماء المهتمين بموضوع الرقابة على إنتاج أسلحة ذاتية القرار والسلوك واستخدامها، أي تلك المزودة ببرامج جاهزة للقتل والتدمير وخرائط للحركة، عبر عن خوف من تطور بعيد المدى سيحدث لو أننا تلكأنا أو تكاسلنا في وقف إنتاج هذه الأسلحة واستخدامها. يعتقد ويشاركه في الاعتقاد عدد من فلاسفة وعلماء الأخلاق، أن زيادة اعتمادنا على هذا النوع من الأسلحة قد يجعل الأجيال المقبلة من البشر تتصرف مثلها، بمعنى أن تكون أجيالاً بلا قلب أو إحساس، تتعامل مع الخصوم من دون التزام بواجب إنساني وبرغبة في الحسم العنيف السريع، وتخضع في شكل كامل لما يصدر لها من قياداتها وتنفذه بطاعة تامة ومن دون مناقشة.

* كاتب مصري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى