صفحات سوريةعمر قدور

أخي الثائر: شعار إرحل لم يكن موجهاً إليك!


دمشق ـ عمر قدور

على الأرجح لم تنزف ثورة من أبنائها كما نزفت الثورة السورية، فبالإضافة إلى آلاف القتلى من الناشطين هناك عشرات الآلاف من المعتقلين أو المفقودين، وهناك الكثير من الروايات الموثقة عن تصفية المعتقلين تحت التعذيب أو إعدامهم في السجون. لكن الأنظار تتجه غالباً إلى أولئك الذين غادروا البلد بعد اندلاع الثورة، إما على خلفية مضايقات تعرضوا لها فعلاً، أو تحسباً من القمع الذي من المتوقع أن يطال كل ناشط أو صاحب رأي؛ هذا إذا استثنينا القمع العشوائي الذي يتعرض له أي سوري من دون أن يعرف سبباً له.

لكن الأسباب السابقة لا تمنع جدلاً يتجدد شفاهة أو على صفحات التواصل الاجتماعي حول أحقية بعض المهاجرين بمغادرة البلاد قياساً إلى معاناة غيرهم، أو حول جدارة بعضهم بتمثيل الثورة خارج الحدود. وبالطبع لن يخلو جدل كهذا من عوامل التقييم الذاتية، إذ يستحيل وجود معايير تحدد لكل فرد عتبة التحمل الخاصة به، مثلما يستحيل أن يُملى عليه مقدار الجهد الذي ينبغي أن يبذله خدمة لقضية ما. غير أن نسبية الأمر لا تلغي وجاهة النقاش حول ظاهرة مؤثرة كهذه، وبخاصة حول تداعياتها السلبية على الثورة، فالمسألة وإن بقيت في حيز القرار الشخصي إلا أن بعض أصحابها على الأقل ينسبونها إلى الشأن العام، بالقدر الذي ينسبون فيه لأنفسهم المساهمة فيه.

في الواقع ثمة صور سلبية يقدّمها بعض النشطاء في الخارج، وهم بالأحرى باتوا يتعيشون على ثورة الداخل أكثر مما يقدّمون لها، وتزداد الصور قتامة مع ما ينسبه البعض إلى نفسه زوراً ليبدو كأنه في واجهة الثورة. ثمة مدّعون في مدن كبيروت والقاهرة واسطنبول مثلاً لم تكن لهم فعالية تُذكر في الداخل، وهذا ليس عيباً بحد ذاته، لكنهم لا يرضون بأقل من تصوير أنفسهم كقادة للحراك الثوري. ولن يكون من شأن الآخرين من أبناء تلك الدول، وبخاصة المتعاطفين مع الثورة منهم، التمحيص في كل ادّعاء، ومع أن الادّعاء أيضاً قد لا يتسبب بضرر مباشر إلا أن ترافقه مع أمراض الانتهازية الأخرى هو ما يضرّ بصورة الثورة من خلال أولئك.

لا يقبل بعض نشطاء الخارج أنه، مع الأسف، ليس سوى نازح، أو أنه صار هكذا بحكم الواقع المرير، ولا ميزة له على مئات ألوف النازحين العاديين في الخارج والداخل إلا بمقدار نشاطه الفعلي. فلا ينبغي هنا المساواة بين ناشطات أو نشطاء كانوا سفراء حقيقيين للثورة وآخرين يرفلون بنعيم الهبات والمنح، من دون أن تسعفهم علاقاتهم العامة سوى بالحصول على المزيد منها، وفي كثير من الأحيان على حساب مستحقيها في الداخل أو الخارج. لا بأس بالقول هنا إن فساد النظام قد حمله البعض إلى الثورة، وهي بأمسّ الحاجة للنأي عن أية شبهة من هذا القبيل، ولقد استغل هذا البعض المزاج العام المتسامح أو المتحمس لتمرير مكاسبه الشخصية؛ ثمة ملفات معروفة أو شبهات لا يتوقف عندها السوريون لأنهم يكرسون جهدهم حالياً من أجل إسقاط نظام القتل، لكن أولوياتهم الراهنة لا تعني جهلهم بمكامن الفساد والانتهازية التي قد لا تخلو منها أية ثورة.

تحتاج الثورة السورية، وربما أكثر من أية ثورة أخرى، إلى نشطاء حقيقيين في الخارج. فالسوريون حرموا طوال وجود النظام الحالي من العلاقة الطبيعية مع الآخر، وهم بحاجة حقيقية للتعريف بأنفسهم وبثورتهم، ويزداد الأمر إلحاحاً مع أذرع النظام الإعلامية التي نجحت في أكثر من مكان بالترويج لصورة أصولية أو طائفية للثورة. لذا لا بد من الإشارة إلى أن وجود بعض النشطاء في الخارج هو بحكم الضرورة الملحة، ولا بد في المقابل من التساؤل عن وجود العدد الأكبر من الذين، وإن كانوا أحراراً في المغادرة، فهم لم يبذلوا جهداً يُذكر في منافيهم لشرح قضية الشعب السوري. سيكون مؤسفاً حقاً ألا يستطيع هؤلاء حشد عدد ضئيل في يوم التضامن العالمي مع الشعب السوري، هذا على سبيل المثال لا أكثر، ويزداد الأمر بؤساً بالنظر إلى العدد الضئيل من السوريين الذين شاركوا في تلك الوقفات الاحتجاجية، والذي لم يتجاوز عدد أصابع اليدين في بعض المدن الكبرى.

على صعيد متصل، ينبغي الإقرار بأن بعض الناشطين الذين غادروا في مستهل الثورة ابتعدوا تدريجياً عن مجرياتها، وهذه نتيجة منطقية بحكم طول المدة والتحولات الكبرى التي رافقت الثورة، أو فُرضت عليها. لذا يعتمد هؤلاء على شذرات مما تبثه وسائل الإعلام، وهي لا تكفي بطبيعة الحال لإيصال الوضع الميداني على حقيقته، وحيث أن نسبة معتبرة منهم لا تملك صلات ميدانية، وبات حضورها مقتصراً على المستوى السياسي، فقد ساهم هذا في انفصال المستوى السياسي للثورة عن مجرياتها الميدانية، وبات أصحابها أقرب إلى المعارضة وأكثر بعداً عن الثورة. من الموقع الجديد، الأقل فهماً وحساسية تجاه الوقائع الميدانية، تغيرت أولويات البعض، ولم تعد تنسجم مع الأولويات الملحة للشارع السوري. وبالتأكيد سيصعب على الكثيرين في الخارج الإقرار بهذا، خصوصاً مع غياب تقاسم وظيفي للمهام بين الداخل والخارج.

سبق لكاتب هذه السطور نشرُ مقال في صحيفة المستقبل بعنوان “موسم الهجرة إلى الثورة”، عن شخصيات سورية عادت إلى البلد مع مستهل الثورة وواجه بعضها مصيره التراجيدي، وتقتضي الواقعية الإشارة أيضاً إلى ظاهرة الهجرة من الثورة التي طالت بالدرجة الأولى بعضاً من المثقفين والعلمانيين الذين ربما كان لوجودهم في الداخل تأثير أفضل على قسم من خيارات الثورة. وعلى الرغم من أن الثورة ليست ثورة نخب ثقافية أصلاً إلا أن التفاعل الاستثنائي بين شريحة المثقفين ومحيطهم الاجتماعي كان يَعِد بحال أفضل للجانبين، وكان متوقعاً لاستمراره أن يردم فجوة مديدة من سوء الفهم والتفاهم بينهما؛ هذه الفجوة التي عادت إلى البروز مع غياب وهجرة الفعل الثقافي بدعاوى اليأس أو اللاجدوى، أو حتى إعادة قراءة الثورة من أكثر جوانبها حلكة.

لكن، وعلى الرغم مما سبق، لا يجوز لنا الانجرار إلى تقسيم يروجه النظام طوال الوقت بين معارضة داخلية وأخرى خارجية، فلا الداخل مستقل ومنسجم بذاته ولا الخارج كذلك، وبالتأكيد ليس ثمة مفاضلة بين وطنية الجانبين على نحو ما يريده النظام. النقاش الدائر حول ظاهرة الهجرة يتعلق أساساً بالمفاضلة بين أفضل السبل لخدمة الثورة، وهو يُحسب لها من حيث قدرة أبنائها على ممارسة النقد تجاه بعض ظواهرها، ومن دون أن يمتلك أحد الحقيقة في جيبه أو الوصاية على غيره. أما على الصعيد الانفعالي أو العاطفي فلا شك في أن هذا الجدل بين الداخل والخارج يحمل عتباً مُحباً من الطرف الأول، ولأن لافتات التظاهرات السورية نابت أحياناً عن الجدل، واختزلت في مفردات بسيطة عمق القول، فقد جاء العتب هذه المرة من داريّا. داريا التي تعرّضت لإحدى أفظع المجازر على أيدي الشبيحة، ولا يزال القصف من قوات النظام يدكّ ناسها وعمرانها، لم تتوقف عن التظاهر السلمي، ولم تنسَ أولئك الأبناء المهاجرين، ومن أجلهم قبل شهر من الآن رفعت لافتة تقول: أخي الثائر: شعار ارحل لم يكن موجهاً إليك.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى