صفحات الثقافة

أدب ‘البروفايل’


صلاح بن عيّاد

هل من الممكن أن نسلّم أن أدبا ما بصدد التشكّل أو تشكّلت ملامح له على حيطان ‘الفيس بوك’؟ خاصّة بعد أن أصبح هذا الموقع الاجتماعي جامعا لكلّ الشرائح البشريّة على اختلافاتها، الكتاب والشعراء وغيرهم من ممارسي مهنة الكتابة لم يتأخروا هم أيضا على استغلاله كقناة مفتوحة تجمعهم بقرّاء وكتّاب آخرين رغم تردد البعض من الذين انتهوا بالتسليم خاصة بعد الثقة التي تكونت على إثر قيادة ‘الفيس بوك’ لما يسمى بربيع الوطن العربي.

هذا ولا يمكن نفي أن البعض ولعلها أقلية لا يكفون عن رفضهم لسبب أو لآخر للنشاط على هذا الموقع. عديدون هم الكتاب المعروفين الذين لا نعثر لهم على حساب ولا على حائط أو صفحة أحبّاء.

تعتبر صفحة الكاتب على الفيس بوك صفحة عملية إذ تلعب دورا دعائيا بلا نظير لمنتوجه ففيها يتاح له الالتقاء بلا صعوبة تذكر بقراء وكتاب وناشرين. فعلى الفيس بوك يصبح الكاتب أكثر حضورا ونشاطا مما هو عليه في مواقع اجتماعية أخرى عبر سرعة الالتقاء وعليه يلمس حميمية أكبر وجدوى أكبر بل ومساحة أكبر لاحتواء هزاته وهذياناته. ففيه يمكن أن يمارس ما يشبه كتابة السيرة اليومية وأن يورد مختلف مواقفه غيرهما في جمل قصيرة متقطعة لا تملك رابطا حقيقيا بينها وبين التي تلحقها أو تسبقها ما سنصطلح عليه اسم ‘أدب’ ممكن ‘للبروفايل’ نقصد statuts بالفرنسية أو status بالانجليزية. هي عبارة جمل مقلقة تخطر للكاتب منهم ولا يشفى قلها إلا بكتابتها فوريا على ‘الفيس بوك ‘ ولعلّه وليخلص ما يكتبه من حشو ما ومن ميل طبيعي بقول كلّ شيء في ذات العمل نفسه. جمل قد تلعب تلك أدوارا أخرى نأتي عليها في مجمل دراستنا.

لا نتحدّث في هذا الإطار على المقالات التي ينشرها أولئك الكتّاب والتي لن تختلف كثيرا على النشر في بعض المواقع الالكترونية، نحن نقصد تلك الكلمات المحدودة المتعلقة بالاسم أو تتبعه لذلك نلحظ أن الفرنسيين مثلا يسندون الفعل في تلك الجمل إلى ‘هو’ أو ‘هي’ الضميران العائدان على اسم المنخرط في ‘الفيس بوك’ معنى ذلك أنا نحصل على جملة تامّة ما إن جمعنا ذاك الاسم والجملة الملتصقة به، على عكس العرب الذين يلحون على إسنادها للأنا المخاطبة لتخلط الجملة ما إن جمعناها بالاسم. قد تعني كلمة ‘ستاتو’ statut فيما تعنيه ‘الرّمز أو المرموز’ أو الصفة إن تعلق الأمر بشركات ونحوها أو الوضعية situation الخ..أما في ‘الفيس بوك’ فتتخذ هذه الكلمة معاني أخرى متغيّرة أحيانا لمرّات عديدة وفق تغير تلك الجملة شكلا ومضمونا. هذا الركن اتخذه الكتّاب لصبّ جمّ أفكارهم و’قلعاتهم’ وممارساتهم المباغتة من أجل جني أكثر ما يمكن من ‘أحب’، ‘لايكات’ like التي هي تعبيرات متنوعة عن القراءة المتبوعة بردّ فعل فوريّ ايجابيّ وتعليقات ستمثّل اعترافا حميما ببراعة الكاتب أو ذاك، هذا طبعا وعلى أن ‘الفيس بوك’ لم يقرأ حساب كلمة ‘لا أحب’ إلا متأخرا والتي لم تعمم بالشكل الكافي إلى هذه اللحظة، فإن على القارئ أن يبدي عدم إعجابه أو رفضه عبر تعاليقه أو اختياره لعدم التفاعل مع المنشور فورا هنا والآن . إذن لم يعد الكاتب لينتظر ردود فعل في الصّحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية إن تسنّت له ردود الفعل تلك عمّا يكتبه وينتجه. لذلك سنجد كتابا يقيمون رسميّا في صفحتهم على ‘الفيس بوك’ وكأنما يقيمون في دار ترفيه على السّاحل. على صفحته يمكن له أن يقوم بإشهار مجانيّ لكتبه وأن يتقبّل التهاني من مخلوقات افتراضيّة تشترك في كسر الامتداد الجغرافيّ.

إذا ما جلنا في ‘حيطان’ الكتّاب والشعراء قارئين تلك ‘الستاتيوات’ statuts فإننا حتما نحصل على ملامح ما قد تؤسس أو هي أسست فعلا لنوع جديد من الأدب الخاضع لقوانين وشروط تحكمها طبيعة الكتابة في موقع مثل موقع ‘الفيس بوك’ وطبيعة القارئ الذي هو دائما على عجل تتجاذبه صور وفيديوهات ومعطيات أخرى غير الأدب كالسياسة والمجتمع ولا ننسى علاقاته الخاصة مع قائمة من أصدقائه.

بدءا سيعتبر الكاتب أن قائمة أصدقائه مكوّنة من قرّاء، وهو يستهدفهم في كل مرّة بتلك الجملة أو الفقرة القصيرة لينتظر ‘لايكاتهم’ الشبيهة بتصفيق الجمهور أو بشراء كتبه. الأمر شبيه بخلق فضاء خاص أين يمكنه وبلا روابط أو رقابة أن يورد ما يشاء في تفاعل مع قائمة قرائه من الأصدقاء لكن رغم ذلك سيكون الكاتب خاضعا في الآن ذاته إلى ما قد يهز قائمة الأصدقاء تلك من الذين هم على الخطّ أو خارجه. ستكون جملا متراوحة بين الطرافة والنفس الحكمي المجدي والناجح والمباغت لدى شخص خلف حاسوبه يبحث عن مادة تمسّه مباشرة وتفيده وتسمح له بالتدخّل مهما كانت بساطة معارفه. لا يمكن لكاتب أو شاعر أو مفكر أو غيرهم أن يحصل على قائمة أصدقاء نخبوية حتى يستطيع مخاطبتهم كما يخاطب قارئا يعتّب المكتبات أو يشتري الجرائد والمجلات، لا ننسى أننا أمام موقع اجتماعيّ وشعبيّ إن صحّ الأمر. جمل قد تشبه الهايكو الياباني في شعريّتها أو ما نسميه ‘القصيدة الومضة’ وهي أيضا القصة القصيرة جدّا أو الفكرة أو الموقف الجماليّ وغيره.

ستستحوذ تقنية اللعب على الكلمات على نسبة هامّة من تلك الجمل، لعلّ ذلك ابتغاء صدم القارئ ولو بصريا وجلب انتباهه. يتحرك المنشور رفقة الاسم على البروفايل ضمن نوع من البداهة التي من شأنها أن تستهوي العابر عبورا سريعا، بداهة هي على الشكل كما على المضمون. هي شبيهة بتلك العبارات السحريّة الواردة في الخرافات والقصص ذات البعد الحكمي والتي قد تترسّخ من مجرّد الإطلاع الواحد الوحيد عليها، وهي مكثفة وبعيدة عن التعقيد وغزيرة المعاني شأن تلك الأبيات الشعريّة الشهيرة التي يعرفها القاصي والداني. عبارة لا تكف على الإثارة، في معانيها وبنائها وتجددها حتى أنه يكمن لكاتب بروفايليّ أن يسطع نجمه فيكوّن ما يشبه الجمهور الذي سيزور وبإرادة ودوريّا صفحته

على كاتب ‘الستاتيوات’ أن لا يسقط في تكرار نفسه وهنا تتوفّر فرصة هامّة في أن يتجدد لأن جملته أو كلماته لن تدوم بين قانون الشبكة التي لا تهدأ. هو مقروء مباشرة عكس عملية النشر التقليدية التي قد تأخذ من العمر ما تأخذ دون الحاجة للخوض في الحالة العامة للنشر في الوطن العربي التي ليست بخافية على أحد. وفي ذاك الموقع يوجد الكاتب في ما يشبه القراءة المتحركة لقراء متغيّرين في كل لحظة، قراءة كل ما يميزها هي العفوية. وربّما لذلك يذهب بعض الكتاب إلى أبعد أنّنا نتابع إلى ضمن تلك الحيطان من يجرّب كتابة مسودة لرواية يسمّيها ‘الرواية المتحرّكة’ وهو ضمن قائمة أصدقائنا والمتمثّل في الرّوائي التونسي ‘كمال الرّياحي’ ممّا أتاح لنا التأمّل بعمق في إمكانيّة أن يصبح ‘الفيس بوك’ قائدا لثورة أدبيّة عربيّة إضافة لقيادته لثورته السياسيّة الجارية وواضعا لتقنيات جديدة في عالم الكتابة. هم إذن من الكتّاب الذين يتخذون من هذا الموقع فضاء للتجريب، فهو يخضع الجملة أو تلك إلى نوع من التجربة فيطلقها على حائطه وينتظر ردة الفعل وسيصل الأمر إلى الاستغناء عنها إن لم تجن ما يكفي من ‘حبّ’ كما تشير دراسات فرنسية منشورة تحت عنوان ‘قرأ على الفيس بوك’ كتاب يحتوي على شهادات الكتاب ممن انفتحوا على هذا الموقع وأخذوه على محمل من الجد.

يولد ‘أدب البروفايل’ بشكل عفويّ وفوريّ هذا دون أن ننفي طبعا أن البعض قد يصطنع هذه المادّة وهو الشأن المورّد من الثقافة الورقية إلى الثقافة الرقميّة ولا عجب أن نعثر على ‘ستاتيوات’ مستوحاة من أقوال من هنا وهناك. لا عيب إلا إذا ما استبحنا ـ كما ترفض الايطيقيا دائما ـ عدم ذكر الاسم.

ينفتح الحوار فوريّا على الفيس بوك في شكل تعليق وردّ كشكل آخر من أشكال التفاعل بين الكاتب والقارئ، مما سيغيّر من طبيعة القراءة في حدّ ذاتها، يكسّر ما يُكتب اليوم طبيعة الكتابة بما هو فعل منعزل، كتابة مباشرة غذاؤها التفاعل مع الآخر الحاضر، المترقّب ربّما، المتأهب للقراءة المباشرة وردة الفعل المباشرة. ‘ستاتوات’ متذبذبة بين النقد، والسخريّة، والشكوى النفسيّة والتعليق على حدث مضارع يشغل النّاس. نحن إذن أمام إبداع ذاك الكاتب وبين موقفه وحتى حياته الشخصية كلّ ذلك تتيحه صفحة الكاتب وحائطه الفيسبوكيّ المُشرع على القاصي والدّاني.

يُلاحظ من ناحية أخرى أنّ أكثر ‘الستاتوات’ تتميزّ بنفس ساخر ولا جديّ أحيانا، فهل يكون ذلك بسبب اقتناع الغالبية بغياب الجدية على هذا الموقع؟. أم أن الإضحاك والجرأة التي يقلّ نظيرها ما سيشكلان أحد السمات الرئيسيّة لما نسمّيه ‘أدب البروفايل’، من إضحاك معبّر عن موقف سياسيّ أو أدبيّ ونقديّ إلى إضحاك يعبّر أحيانا عن ممارسة بعضهم كأن يضع كتّاب فرنسيّون ‘الستاتو’الشائع عندهم ‘بصدد أكل تفّاحة’ هذه الجملة التي سترمز ربما إلى الخطيئة الأولى من ناحية وإلى نوع من التمرّد من ناحية أخرى، أو ما يشبه المذكرات اليومية المتغيرة كلّ حين عن شأن قام أو سيقوم به أو عن سفر بصدد الترتيب له، المهمّ أن الكاتب أو الشاعر منهم يكفّ عن تلك الغربة وربّما يحس أنه كائن من العالم ومن حقه أن يعلم ‘المحبّين’ الافتراضيين بتفاصيله من أجل ما يسمّى في المواقع الاجتماعية بـمعنى ‘التشارك’.

أمّا من ناحية أخرى فستمثل ‘الإيروتيكا’ الجانب الذي لا يقلّ أهمية عن سمة الإضحاك، قد يكون الكتاب الشبابُ من يلتجئون إلى هذه السمة خاصّة عربيّا في شبه ثورة على التحفّظ الغريب الذي يميّز عالمنا العربي واكتفاء السواد الأعظم بتبنّي الرؤية الدينية في أقصى تحجّرها ليبيحوا ذاك ويحرّموا ذاك. ضمن هذا الجانب يسعى بعض الكتّاب إلى صدم منظومة القارئ العربيّ محاولة منهم ربّما لتأسيس تقبّل أكثر انفتاحا عن الحياة وهذا النوع من الأدب الذي ظلّ غريبا في رقعتنا العربيّة رغم عدم غرابته لعثورنا عليه وبوضوح في تراثنا المكتوب والأمثلة لا تحصى ولا تعدّ.

تخضع ‘الستاتوات’ إذن إلى السياق العامّ وإلى السياق الشخصيّ للكاتب الذي على ‘الفيس بوك’ في ذات الوقت. هي جمل تطلق بثقل ودقة وفي توقيت معيّن لتُتقبل بالطريقة ذاتها وعلى قدر براعة تركيبها وإطلاقها، وعلى قدر ‘اللايكات’ تكون الأهمية ويحقق الكاتب طبعا نوعا من الرضاء في نرجسيته المعروفة وللتغلب على ميله الطبيعيّ للتقوقع. هو يخضع إلى نوع من التقييم المباشر دون أن يرى ودون أن تمثّل صورته الفيزيقية أساسا لذاك التقييم. فالصورة التي على ‘البروفايل’ ستخضع هي الأخرى وبلا أدنى شك إلا فيما ندر إلى ترتيب وتدخل ما قد يزيد الغالبية الانطباعية إعجابا على إعجاب. هذا الإعجاب لن يخلو طبعا من ايجابيّات أدناها أن الكاتب منهم يتقبّل تلك ‘اللايكات’ على أنها تشجيعا على مواصلة مشروعه الكتابيّ أقصاها أن من ذاك التفاعل والإعجاب قد يستوحي الكاتب موادّه سنعتبر أن الصفحة الشخصية لكل كاتب إنما هي ورشة للكتابة ومسودة افتراضيّة يتدرّب فيها على مختلف أوجه الإبداع.

من مقدمة كتاب يحمل نفس العنوان ‘أدب البروفايل’ يصدر قريبا.

شاعر تونسي

Slah-ba@hotmail.com

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى