صفحات الثقافة

أدب للـحيــاة

 

عباس بيضون

عندما عاد سعد الله ونوس إلى مسؤولية القسم الثقافي في جريدة «السفير» عشنا معاً يوميات خصبة في «السفير» وخارج «السفير». لم يكن سعد الله آنذاك في أطيب أيامه فقد كان يمر في أزمة نفسية طاحنة، من آثارها انه هجر الكتابة ولم تعد له طاقة عليها. وانه كان يستعين على نومه وحياته بالمهدئات. بدا عند ذلك ان الذي دخل المسرح بعمل مفصلي هو حفلة سمر من أجل 5 حزيران وأتبعه بالملك هو الملك ورأس المملوك جابر وسواهما، ما عاد يقوى على التأليف ولا تسعفه حاله على ان يجمع نفسه في عمل أدبي، ولا يقدر على ان يصل إلى هذه الدرجة الخطرة من التركيز التي يتطلبها الفن. بدا ان الرجل الذي لم يزل في شرخ شبابه ولم يخط في أربعيناته اكثر من خطوة، قد سقط القلم من يده وبات أمام الجدار. كان ذلك عام 1982 ولا أظن الا ان صاحب حفلة سمر من اجل 5 حزيران قد عانى 5 حزيران جديده. ولا أحسب الا ان الهموم تراكمت من ذلك الحين. وإذا كان سعد الله في الفيلم الذي صنعه عنه راحل عزيز آخر هو عمر اميرالاي، قد أشار إلى ان سرطانه تواقت مع هزيمة سياسية فإننا قد نرد هذه الهزيمة إلى احتلال 1982. توالت الهزائم على سعد الله وكان السرطان احداها. لكن الكاتب الذي فقد صوته تحت الازمات، والذي سقط حلمه قبل ان يسقط قلمه، وتشتت امله قبل ان تتشتت صوره وأفكاره وخانه الواقع قبل ان يخونه خياله، هو الذي وقع في فخ هيبته وأوحشته نفسه وقد توالت عليها الخسائر، اذ لا شك في ان بعض جيلنا قد نسجت أعصابه من قضايا واحلام، ولا شك في ان بعض جيلنا صيغت نفوسه من اشواق كبيرة وآمال كبيرة، افراده وسعد الله منهم لا يخسرون بلاداً وقضايا الا وينفرط خيط في نفوسهم وتتداعى أعصابهم ويتصدع خيالهم وقلوبهم.

سعد الله الذي عاش حقبة الاحلام الكبرى لم يودعها الا وقد انكسر شيء في فكره وفي قلبه. سعد الله الذي حسب ان السرطان جاءه من هذه الناحية، لم يكن مخطئا بالكامل. اذا لم يأت السرطان من هذه الناحية فمن اين أتى أكال الروح وأكال النفس.

الغريب ان سعد الله وقد انفرد به السرطان ووصل إلى حد من تدمير الجسد بعد تدمير النفس، صحا امامه ولأم ما كان انفرط في داخله. جمع نفسه كأنما كان لا يستعيد صوته فحسب بل يجدده. لا يستعيد نفسه فحسب بل اناه وفرديته، لا يستعيد فكره فحسب ولكن يفتحه على أرحب وأوسع.

عاد سعد الله يكتب وكتب في هذه الفسحة الباقية منذ الاغتصاب 1990 إلى الأيام المخمورة 1997، أي في سبع سنوات أفضل ما كتب، كتب بطراوة لم تكن بالدرجة نفسها في أعماله السابقة. كتب بجدل اثرى واخصب. كتب بدوائر متعددة ورؤى شتى وبقدره أكبر على التركيب والربط والبناء. لكن الأهم هو ان هذه الأعمال لا تنبع فقط من التاريخ الاجتماعي ولكن أيضاً، بالدرجة نفسها، من المغامرة الفردية. الأهم هو ان العقل الذي كتبت به هذه الأعمال ليس دوغمائيا ولا تبشيريا، فدعاوى هذه المسرحيات تفيض عن العقيدة وعن الدوغما إلى فضاء حر يعكس التجربة الخاصة على شاشات الحدث الكبير، ويدمج الأنا في الواقع التاريخي ويقدم الاختبار الشخصي بكل تلاوينه وظلاله، ولا يدين الفرد باسم التاريخ أو الحزب أو الطبقة أو القضية.

كان في أعمال هذه الفسحة الضيقة من الزمن روح جديد وأشكال جديدة. كانت هذه الأعمال مباركة للحياة والفرد والعالم والكلام، كانت أدباً للحياة وأدباً للحوار وأدباً للمستقبل.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى