صفحات الناسيارا بدر

أربعة أيام في المنفى الاختياري

 

يارا بدر

تغادر سورية في رحلة عمل، في خروج استثنائي خاطف، لا يسكنك سوى هاجس الحدود ومفرزة الأمن القابعة في انتظارك، هل سيقولون كلمة الموت الباردة: ممكن تتفضل معنا شوي. حيث ستخطو راجفاً مبللاً بالعرق الأسود إلى طريق قد ينتهي بكل في الظلام المُتعفّن لزنازنة مجهولة العنوان أشهراً، وقد ينتهي بك بلباس السجن المُقلّم حيث يتساءل معظم المعتقلين جنائيي التهم كما السياسيين عن سبب اختيار هذا القماش المُقلّم.

في خروجك الاستثنائي هذا تراقب الوجوه ونظرات العيون بقوّة ساكني الداخل، بعزّتهم وفخرهم. نحن اللاعبين مع الموت. ومحدثيك يدركون هذه الحقيقة التي كانت ملكهم ذات يوم. فيرأفون بأنفسهم من شفقتك كما يخشون عليك من رتابة حياتهم السائرة بكل رقتها إلى الأمام، احتفالاتهم الصغيرة، الدرس الجامعي الجديد، تعلّم مهارة ما وحديث ندوة دارت في تلك المدينة الأوروبية أو ذلك الاجتماع المُنعقِدِ في عاصمة عربية.

لا ينشغل تفكيرك بهم كثيراً، والحديث مُقطّع الأوصال. لا تهتم بهوس متابعة مواقع التواصل الاجتماعي ويكفيك الاستماع إلى نشرة إخبارية واحدة مفصّلة الأنباء وربما متابعة كلمة ‘عاجل’، فغداً أو بعد غد أنت ستكون هناك من جديد. وإن عبرت تلك الحدود القاسية برملها ووجوه حرّاسها ستكون وكأنّك لم تكن بعيداً يوماً.

أمّا إن حدث وغادرت، نفيت نفسك خارج حلبة الموت كما يفعل الآلاف كل يوم، مُردّداً لنفسك أنا لست أكثر من لاجئ، لاجئ وإن كنت ربما لا أقطن في وحشة ‘الزعتري’ وعزلة الخيام التركية حيث أراقب منزلي بين زيتونتين والحرائق تلتف من حوله أدعو إلهي أن يبقى مُلكي الوحيد صامداً، صامداً قليلاً بعد، فهو راحل وأنا عائد. أنا لن أذهب لأبني حياة جديدة، لا أريد حياة جديدة وهويّة جديدة، فلي هويتي المنسوجة من دم ما يزيد عن المئة ألف شهيد سوري ومئات الأغاني. لن أذهب إلى حيث يرقموننّي لاجئاً في قوائم مفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وصفحات التاريخ، سأحتال عليهم، وعلى نفسي، بأنني لست هنا ولست هناك. فأنا لست رقماً في القوائم وحضوري المائع ظلٌّ هنا ووجودي سيبقى هناك.

في يومك الأول لا تفعل شيئاً سوى البكاء والتسبّب للآخرين ممّن قطعوا شوط عذاب يومهم الأول بالبكاء، كالأطفال دون أن تهم سنيّ عمرك المتناثرة في ألوان شعرك وتجاعيد وجهك. في يومك الثاني تنهض مشرقاً بكذبة جديدة هي القوّة المطلوبة وبأنّ أحداً لا يحتاج وجعاً جديداً ليس سوى رفاهيةً أمام صوت الرصاص وبريق سكين عبر فوق قلب طفل لم يبلغ العاشرة في أرض لم تعد تسكنها، تنهض لتبدأ رحلة البحث عن سكن، وأخيك سيبحث عن عمل، ووالدتك ستنظر في حقائب السفر وتتساءل حول كل الأشياء التي أحضرتها دون حاجة وتغضب لأنها ناقصة. عن كيس السكر وليفة الحمام، عن أنّها أحضرت شمعداناً برونزياً صغيراً له من الوزن في عداد أوزان الحقائب في المطار أكثر ما له من فضيلة الاستخدام، ولكن صورته في الذاكرة حين ابتاعته مع من ليس حاضراً بجانبها اليوم تقوّيها على موقفها بأنّه أهمّ وأغلى من جاكيت شتوي لم تعد تملكه في غربتها الحديثة. بكل الأحوال لا يمكن ليومك الثاني أن يكون سوى يوم للخيبات.

تتوالى الأيام وتكتشف أنّ من يقطن بجانبك أكثر بكثير ممن خلّفتهم وراءك، وقد ودّعت صديقك الأخير في دمشق، ولم يتسنَ لك الوقت لتعتذر سوى عبر الهاتف من صديق الآخر، لتجد في استقبالك العشرات وتمتلئ تفاصيل الوقت صباحاً ومساءً بالأحاديث التي يحضر فيها الداخل باعتباره منطقة حرب. ويعرف السوريون السياسة كما شاهدوها لدى أشقائهم اللبنانيين طويلاً دون أن يتجرّأوا يوماً على ملامستها. يغرقون فيها بنهم المُشتاق والمحروم، حتى يكرروا أنفسهم كمنوال حرير، ولا يقدمون جديداً. يلهثون خلف نشرات الأخبار من قنوات الفضائيات العربية إلى الأجنبية وحتى السورية المعارضة أو الرسمية وقد اكتسب كل شيء نكهة الحنين. لا شيء في الخارج سوى الحنين والغضب. ففي مقابل اكتساب حق الحياة نفقد بشكلٍ تلقائي كل حقوقنا الأخرى في المواطنة. نحن الهامشيين الناجين لا حق لنا أمام جبروت الموت. وتثقل أحاديث السياسة وجع الحنين والذاكرة. فهناك ليس من داعٍ للتحليل، نعيش اللحظة بذاتها ونخطو إلى لاحقتها، فاعلين بجودنا مهما كان سلبياً، إلاّ أننا موجودون.

في الهاتف الأول لصديقك الذي لا يزال صامداً في الداخل جزءا لامعا من سيف دمشق الأموي تقول: (تحسّن الطريق)، تريد دليلاً على أنك متابع، مهتم، إنساني بأنانية أقل دون قوّة الشجاعة. ويضحك لك صديقك بحب الأصدقاء وسخرية الواقع.

في الخارج، اليوم تحديداً، لا تجرؤ على الكلام، فأيّ لغة هي إنشاء سفسطائي دون معنى. إن أردت اذهب إلى الداخل. تخاف الاعتقال اذهب إلى حيث المناطق المُحرّرة في الغوطة والشمال. تخاف الإسلاميين وجبهة النصرة اذهب وقل لهم لست مثلكم ولكنني هنا لأموت معكم فهو وطني ووطنكم. وحيث نعرف الأجوبة فليس من معنى لطرح الأسئلة. من حسم خياراته سيتابع الكلام، من يسكنه وجع الحنين سيكرر لنفسه: لطالما قلت انك لن تكون سوى هناك واليوم أنت هنا. ربما غداً ستمتلك من الشجاعة ما يكفيك لتعود من اللاعبين مع الموت كما امتلكت البارحة ما يكفي من الحماقة لتكون مع الناجين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى