صفحات الثقافةعبدالله أمين الحلاق

أربع ساعات في سوريا!

    عبدالله أمين الحلاق

عام 2005 وقف محمود درويش على مسرح قاعة المحاضرات في “مكتبة الأسد” بدمشق، بعد غياب طويل عن المدينة، وبدأت الكلمات تخرج برداً وسلاماً علينا نحن الحاضرين، وقد استهلها بتحية شعرية إلى دمشق. مع تتالي القصائد رحلنا طوعاً معه إلى فلسطين عبر قصيدة مهداة إلى الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. من وحي مجازر صبرا وشاتيلا كتب ريتسوس قصيدة عن الحدث اللبناني الفلسطيني عام 1982:

“…

 درويش، درويش، أخي

عندما تهدَّم البيوت، ويسيل الدم في الطرقات

ماذا في وسعها ان تفعل الأشعار لنا؟

ماذا في وسعها أن تفعل أوراق الزيتون الشفيفة أيضاً

والكؤوس التي تلمع، في ألقٍ شفيف، على طاولة الحديقة البالية؟”.

في دمشق، رد محمود درويش التحية بمثلها، بل بأجمل:

“في دار بابلو نيرودا

على شاطئ الباسيفيك

تذكّرتُ ريتسوس

كانت أثينا ترحب بالقادمين من البحر

على مسرح دائريٍّ مضاءٍ بصرخة ريتسوس:

يا فلسطين

يا اسم التراب ويا اسم السماء

ستنتصرين”.

اليوم، وفي خريف المجازر المتجدد هذا، الذي كان علامةً للوجع الفلسطيني منذ مذابح الأردن في أيلول 1970، إلى صبرا وشاتيلا في 16 أيلول عام 1982، صار تذكر مجازر اسرائيل علامةَ الجرح السوري الذي لم يتوقف عن النزف منذ 15 آذار 2011، يوم اندلعت الثورة السورية الغراء.

¶¶¶

“بحرٌ لأيلول الجديد، خريفنا يدنو من الأبواب”.

لم نكن بحاجة لأن تقع أيدينا مصادفة على قصيدة ريتسوس، وعلى النص الملحمي الذي كتبه المسرحي والكاتب الفرنسي جان جينيه “أربع ساعات في شاتيلا” حتى نتذكر الفلسطينيين.

قلة يعرفون الكثير عن مشاركة الفلسطينيين في الثورة السورية منذ انطلاقها. ناشطون فلسطينيون وسوريون أكدوا أن عدد الشهداء الفلسطينيين الذين قضوا بنيران النظام السوري أثناء مشاركتهم في تظاهرات الثورة السورية أو في الأعمال الإغاثية ضمن الثورة تجاوز 300 شهيد حتى الآن، والرقم مرشح للتزايد، وتحديداً بعدما صارت المخيمات الفلسطينية في دمشق (اليرموك، التضامن، ومخيم فلسطين) مكاناً شبيهاً بدرعا وحماه وحمص. أن يكون السوريون من أصل فلسطيني شاهدين وفاعلين في ثورة فريدة بكل المعايير، لَكفيلٌ أن يصب النظام “الممانِع” جام غضبه على المخيمات وسكانها، فلسطينيين أكانوا أم ناشطين سوريين وجدوا في بيوت بعض الفلسطينيين مكاناً لهم يقيهم نيران النظام السوري وعيونه وعسسه. قبل اقتحام المخيمات وقصفها في دمشق، كان الوجوم يصبغ ملامح رجالات “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة”، وهي، كما هو معروف، فرع استخبارات سوري قوامه فلسطينيون مرتبطون بالأمن السوري. هكذا، بدأت مناوشات رجال أحمد جبريل ومن ورائهم الأمن السوري والشبيحة طبعاً مع الناشطين الفلسطينيين في المخيمات الذين انحازوا إلى الثورة السورية وانخرطوا فيها، وبدأت التهديدات لهؤلاء الناشطين، وجرت محاولات لغلق بعض شوارع مخيم اليرموك بجدران من الإسمنت لقطع الطريق أمام أي ناشط سوري قد يدخل إلى المخيم أو يخرج منه، فيما تبقى الكلمة الأخيرة للطيران الحربي وقصف المدفعية.

¶¶¶

في تعليقه على المجزرتين، قال مناحيم بيغن: “في شاتيلا وصبرا أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصاً غير يهود، ففي أي شيء يعنينا ذلك؟”. كانت تلك الجملة علامة فارقة للفاشية الاسرائيلية ونظرتها إلى الآخر غير اليهودي. غير أنّ الفاشية والاستعلاء وهوَس الغرق بدماء السوريين، وبدرجة أقل الفلسطينيين، تحضر أيضاً عبر أساليب القمع التي يصبّها النظام السوري على شعبه.

في سوريا المنكوبة اليوم بنظامٍ قتلَ الكثيرين، وسجنَ وهجّر، فإن كل دقيقة وكل صرخة طفل وقطرة دم لشهيد ودمعة لأم ثكلى بأبنائها الذين قضوا في الحولة والمسيفرة وداريا، تحتاج إلى صفحات للتوثيق والكتابة، وإلى كتّاب أكثر شجاعة من جان جينيه لينقلوا الحقيقة كما هي.  في سوريا الجريحة جرح لن يندمل قريباً، يضمحلّ الزمن ويتلاشى الوقت والساعات والدقائق، وتقف ساعة الرمل على لحظة وحدثٍ جلل عمره عام ونصف عام اسمه الثورة السورية، على نظام استظلّ وتلطّى بالقضية التي قضى لأجلها شهداء صبرا وشاتيلا وجنين وقانا وشهداء المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وبعض هؤلاء قضى برصاص هذا النظام نفسه في الثمانينات، وبعبواته الناسفة عام 2005 في بيروت، ومنهم جورج حاوي الذي صاغ البيان التأسيسي لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. ولم ينِ هذا النظام  يجتر الخطاب الذي مضى عليه زمن دونما فِعل، سوى أن الفعل تحول اليوم معركة مفتوحة ضد شعب انتفض لأجل حريته وكرامته ولقمته المستلبة، وهو يعلن أن قيامة سوريا وشعبها من تحت الركام المحيق به اليوم هو عنوان الزمن العربي الجديد، والزمن الفلسطيني واللبناني أولاً. صار بشار الأسد يعيد جملة مناحيم بيغن بشكل آخر، وهو يرى سوريين يقتلون سوريين، فيقول: في أي شيء يعنيني ذلك؟

¶¶¶

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأفول الأفكار الثورية التي استمدت معظم الانظمة العربية نسغ الطغيان منها، وتغوّل فكرة نهاية الإيديولوجيات وانتصار الديموقراطيات الغربية، حظيت تلك الفكرة الخلاصية بمريدين كثر من المثقفين العرب ممن وجدوا في أجواء مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاق أوسلو راحةً لهم، واستكانةً من عناء التفكير في المأساة الفلسطينية، وحاول بعض هؤلاء تغطية سوءة الممارسات الإسرائيلية المغطاة بفيتو أميركي بالغ الوقاحة، وبحجج منها العنف الفلسطيني الذي اتخذ طابعاً دينياً عبر حركة “حماس”، أو افتراضات ثقافوية قوامها عدم أهلية العرب سياسياً وحضارياً إلا ليكونوا في موقع الضحية، ولا بأس بالفيتو إن كان صادراً عن واحدة من أعرق الديموقراطيات في العالم، الولايات المتحدة الأميركية.

الديموقراطية العريقة تلك تقف موقف المتفرج اليوم من المأساة السورية، دونما موقف قوي وجذري من نظام طاغٍ كان ربيب الولايات المتحدة نفسها سابقاً، وهي، على ما يبدو، لا تنوي التدخل والضغط بشدة على نظام دمشق أو تسريع عملية التغيير في سوريا، إلا بعد إنهاك الشعب والمجتمع السوريين وسقوط كل مقومات الدولة وبنيتها التحتية التي يمكن أن تُبنى على أسسها سوريا جديدة. عدم وجود مقومات لدولة فلسطينية حرة مستقلة مستقبلاً شبيه بتغييب مقومات سوريا الديموقراطية، التغييب الذي يقاومه الشعب السوري بصلابة وبطولة نادرتين، وهو يعرف أن ثورته يتيمة وأنه وحده في معركته مع نظامٍ اجتمع القاصي والداني من قادة الدول الكبرى على ضرورة عدم رحيله الفوري، مهما تكن الكلفة البشرية والسياسية لبقائه وتأخير رحيله.

¶¶¶

أخطار الحرب الطائفية كانت أول ما تفوهت به بثينة شعبان في الأيام الأولى من الثورة السورية، في دفاعها عن النظام “الممانِع” باعتبارها لسان حاله تبعاً لموقعها وقربها من رأس النظام. يومها، تذكرتُ أمسية محمود درويش التي استهللت هذا النص بها، وكانت بثينة شعبان آنئذٍ في الصف الأول بين الحضور تصفق بحماسة مصطَنَعة لشاعر فلسطين والعرب والإنسانية برمّتها. كان درويش يتلو وقتها:

“وأنت تعود إلى البيت/ بيتك/ فكر بغيرك/ لا تنسى شعب الخيام”.

إنها مأثرة أخرى للثورة السورية، وللحضور الفلسطيني فيها، عبر تحول مليونين ونصف مليون سوري لاجئين في الداخل والخارج تماماً كما الفلسطينيين عبر تغريبتهم المستمرة منذ ستة عقود، وفي خيام ومخيمات وظروف بالغة السوء.

¶¶¶

أخيراً، لا ننتظر تغييراً في الخطاب الأجوف الممانع لمؤيدي النظام السوري من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين طبعاً. ما ننتظره ونكابد الكثير لاجتراحه هو يوم أكثر أناقة وإنسانية، إنه يوم سوريا الحرة التي سيخيم فيها طيف محمود درويش حولنا وأنّى توجهنا، ونستعيد قصائده في أمسيات واحتفالات بالحرية المنجَـزة، وفي قاعة أو مكتبة لن يكون اسمها “مكتبة الأسد”. ربما “مكتبة سمير قصير”.

الثورة السورية هي عنوان التغيير الذي سيحصل في هذا المشرق العربي، وانتصارها ونجاحها في تحقيق دولة ديموقراطية على أنقاض النظام البائد هو المقاومة الحقيقية، التي يخوضها الشعب السوري اليوم في مواجهة واحد من أعتى طغاة هذا العالم، معلناً تلازم فعلَي الحرية والتحرر.

“بحرٌ لأيلول الجديد، خريفنا يدنو من الأبواب”.

ربيعنا هو الذي يدنو يا محمود، وإن بعد أكثر من شتاء.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى