صفحات الثقافة

أربع صُوَر لن ينساها التونسيون


آدم فتحي

الحياة صُوَر. ثمّة على الأقلّ أربع صُوَر لن ينساها التونسيّون كلّما تذكّروا ثورتهم: صورة البوعزيزي محترقاً، صورة الجلاّد وهو يعوده في المستشفى من دون أن يعلم أنّ الميت هو الذي كان يزور الحيّ، صورة الشعب يحتفل برحيل الطاغية، وصورة مكتبة زائفة فضحتها الكاميرا حين اقتحمت إحدى قاعات القصر الرئاسي كاشفةً للتونسيين المذهولين أن رئيسهم كان يخفي الأوراق النقدية في بطون الكتب!

1

هذه هي الثقافة وهذه هي مكانة المثقفين في نظر الطاغية: ثقافة ميتة على غرار الطبيعة الميتة، مجعولة للزينة وللوجاهة، موضوعة على الرفوف، محشوّة بالمادة الجائفة، مرصّفة مثل الجثث في مشرحة! ومثّقفون موتى أو كالموتى، مشرّدون بينما مؤلّفاتهم تسكن القصر! جوعى بينما كتبهم شبعانة!

الحقّ أن موت المثقف ليس مجرّد أمنية من أماني الطغاة بل جزء من الثقافة الجنائزية التي أصبحت تعود باستمرار بين الحين والآخر من طريق عبارات من نوع موت المسرح ونهاية التاريخ وانقراض الإيديولوجيا إلى آخر القائمة.

الطريف أن نعيَ المثقف جرى بعد الثورة على ألسنة بعض المثقفين أكثر ممّا جرى على ألسنة غيرهم، متخذًا في أحيان كثيرة شكل السؤال عن دور المثقّف في هذه الثورة! وهو سؤال شرعيّ في المطلق لكنّه ليس بعيداً عن النزعة الجنائزية التي ألمحنا إليها. وإذا كان البعض يطرحه عن حسن نيّة فإن الكثيرين يطرحونه بصيغة إنكارية تمهيدًا لتأكيد غياب المثقّف وتخلّيه عن كلّ دور. كم يبدو لي ملحّاً الانتباه إلى أن هذا السؤال يقف على رأسه، وعلينا أن نعيد إيقافه على قدميه لنسأل: هل يمكن لثورة أن تكون من دون قيام المثقّفين بدور فيها؟

2

قيل للفيلسوف الرواقيّ زينون وكان زاهداً لا يطلب غير قوت يومه، إن الملك يبغضك، فردّ ساخراً: وكيف يحبّ الملك من هو أغنى منه؟ عبارة تصحّ في شأن الطغاة العرب تحديداً، الفقراء فقراً ثقافياً مدقعاً. لكنها تصحّ أيضاً في شأن الطغاة عموماً الذين لا يحبّون من الثقافة إلاّ ما أحبّ منها قياصرةُ الرومان: ألعاب السيرك لتلهية العامّة بشهيق الدماء.

الطاغية يكره الثقافة لأنها تجسّد كلّ ما لا يستطيع تملّكه، كلّ ما لا يسيطر عليه، كلّ ما هو خارجه. لكنه يكرهها أكثر لأنها تجسّد كلّ ما يهدّده من داخله أيضاً. الطاغية المثقّف طاغية منقوص فاشل لأن الثقافة بالمعنى العميق للعبارة تكبح حيوانيته وتمنعه من التوحّش، أي تمنعه من التصرّف كطاغية. إنها بالنسبة إليه أثقال لا بدّ من أن يتخفّف منها ويمحوها تماماً كما تُمحى الملفّات الزائدة من ذاكرة الكومبيوتر.

لهذه الأسباب كلها يبدو تعامل الطاغية مع المثقّفين تعاملاً شديد الغرابة: يحجبهم ويحاول تزيين صورته بهم! يقلّل من شأنهم وينسب إليهم كلّ عظيمة! يقرّبهم ويسعى إلى إذلالهم! يحتقر ثقافتهم ويحاول اغتصابها حدّ الادّعاء أحياناً. هكذا نفهم نيرون وولعه المزعوم بالشعر، نابوليون وحواره المزعوم مع غوته، هتلر وشغفه المزعوم بالرسم.

لكنّ الأمر يظلّ مجرّد قناع أو ماكياج. مجرّد شواهد على أن الثقافة لا علاقة لها بالتعلّم ولا صلة لها بأكسسوارات البلاغة، هذا إذا احتاج الطاغية إلى التعلّم والبلاغة أصلاً. ثمّ سرعان ما يسقط القناع وتسأل أيّ طاغية في الأرض عن أي انتفاضة أو ثورة فيجيبك فوراً إنّ للمثقّفين ولأفكارهم الهدّامة دوراً في تلك الانتفاضات والثورات!!

من هذا المنطلق لم يدّخر النظام التونسي السابق جهداً على امتداد عقود لتهميش المثقّفين محاولاً تلهية بعضهم ببعض وتغليب التهريج على الخلق واختزال الثقافة في “فرجة” شبيهة بمهرجانات الحلبات الرومانية. لعلّه لم يكن مختلفاً في ذلك عن زملائه من الطغاة العرب في مصر وليبيا واليمن إلخ… إلاّ أنه فشل، ربّما أكثر منهم، في تحقيق أهدافه.

باستثناء عدد محدود من أبواق الدعاية فإن في وسع المراقب المنصف أن يقرّ بأن النظام التونسي، على الرغم من ثراء الساحة الثقافية، ظلّ نظاماً بلا مثقّفين، أي أنه لم يفلح في تجنيد الكثير منهم، بدليل أنه لم يجد غير أنفار يعدّون على أصابع اليد الواحدة حين احتاج إلى من يدافع عنه في الفضائيات العربية والغربية.

النظام التونسي شأنه شأن الأنظمة الاستبداديّة عموماً، حاول فعلاً تدجين المثقّفين واستغلّ احتلاله لأجهزة الدولة كي يظهر في مظهر النظام المثقّف. إلاّ أنه لم يُفلح إلاّ في استقطاب قلّة هزيلة منهم، لا مفرّ لهم من المحاسبة أمام التاريخ والشعب، فالمحاسبة جزء من المواطنة شرط أن تتمّ  ضمن الأطر المستجيبة إلى قيم التحضّر، بعيداً من مخلّفات الاستبداد، بعيداً من ذهنية محاكم التفتيش.

أما الباقون فقد ناضلوا في فضاءات الثقافة والتربية والإعلام ونشروا الكتب وألّفوا المسرحيات وأخرجوا الأفلام وأحيوا الأمسيات ونشطوا حيثما أمكنهم في ربوع البلاد التونسية لأنهم لا يستطيعون فعل ذلك في المرّيخ، وتعاملوا مع مختلف هذه الفضاءات بوصفها ملكاً للشعب وبوصفها أجهزة دولتهم المحتلّة من طرف النظام، وظلّوا ينشطون داخلها من منطلق حرب المواقع لتحريرها، كلٌّ بحسب قدراته.

من هذه الناحية شهدت تونس عقوداً من العصيان الثقافي في المسرح والسينما والفكر والرواية والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية وغيرها من المجالات. وما كان لشعلة الثورة أن تصمد لولا نجاح كثيرين في خوض حرب المواقع الشرسة، للشهادة على الرغم من التعتيم، وللاختلاف على الرغم من قبضة الرأي الواحد، وللذود عن الحرية على الرغم من الرقابة، وللدفاع عن الجمال على الرغم من رياح الرداءة.

المثقّف هو الذي حافظ على شعلة الكرامة حيّةً متوهّجة داخل وجدان الناس من طريق مختلف وجوه الخلق، وهو الذي جعل من الحرية ممارسة يومية على الرغم من مختلف وجوه الرقابة والقمع والترويض على العبودية المختارة. من هذه الناحية فإن دوره غير قابل للإنكار إلاّ إذا كان البعض يريد إعادتنا إلى الفكر الغيبي لإقناعنا بأن الثورات وحي يُوحى وإلهام ينزل على أصحابه من دون تراكم.

3

السؤال الآن: إذا كان مفهوماً أن يتعامل الطاغية مع المثقّف من منطلق الكراهية والريبة، فما الذي يبرّر موقف الآخرين، وموقف بعض المثقّفين تحديداً، الذين لم يدّخروا جهداً في هجاء المثقّفين وتقليص دورهم في كلّ ما جرى؟

الأجوبة الممكنة عديدة.

من بين هذه الأجوبة ما ينتمي إلى عقدة الذنب التي شعر بها مثقّفون كثيرون كانوا قد استسلموا نهائيّاً وفضّلوا الهجرة إلى الخارج البعيد أو إلى الباطن المُصمت بحثاً عن خلاص فردي، واستأسدوا طويلاً في الاستخفاف بكلّ أمل في الثورة، بل بات استخدام عبارات مثل الالتزام والشعب والثورة يثير ضحكهم واستهزاءهم. ثمّ إذا هم فجأة أمام ثورة لم يشاركوا فيها ولم يبشّروا بها بل لعلّهم أكّدوا استحالتها.

من بين هذه الأجوبة ما ينتمي إلى سيكولوجيا الرهائن. من العبارات الرائجة في هذا السياق عبارة ساندروم ستوكهولم التي تُستخدم عند تعاطف المخطوف مع خاطفيه. لعلّي أقترح لوضعية الحال اسم ساندروم بيتانكور، في إشارة إلى إنغريد بيتانكور، الرهينة الشهيرة التي انقلب عليها زملاؤها وزميلاتها في المحنة ما إن تمّ  إطلاق سراحهم. فإذا كلّ منهم يسعى إلى تخوين الآخرين ويحاول كتابة التاريخ على هواه للانتصاب الرهينة الأنقى والأكثر نضاليّة.

في كلا الفرضيتين يصبح الضحايا شبيهين بجلاّديهم وينجح الاستبداد في إنتاج معارضين يعيدون إنتاج ثقافته ويصبحون نسخاً منه، أي طغاةً كامنين في انتظار فرصتهم. وإذا كان البعض فجّاً في ردّ فعله فإن البعض الآخر حاول إلباس مواقفه لبوس الحداثة، ناعياً ثقافة قديمة ثبت تهافتها، مبشّراً بثقافة جديدة تلدها الثورة كي يكون له دور فيها!

ما فاتهم جميعاً أن الثورة مسار وسيرورة وأن لحظة اندلاعها وتحقّقها ليست سوى محطّة ولا يمكن أن تكون إلاّ نتيجة تراكم. أي أن الثورات ثقافيّة أو لا تكون، وهي لا تندلع إلاّ لأن ثقافة جديدة فعلت فعلها في العقول والمخيّلات والوجدان العام ولولاها ما تحرّكت الشعوب!

في مراحل العلماء والفقهاء لم نشهد ثورات بل شهدنا انقلابات وغزوات وانتفاضات وديانات. وحين ترك العلماء والفقهاء المكان للمثقّفين وظهرت الأنتليجنسيا، ظهرت الثورات بالمعنى الحديث للعبارة. وهذا ما حدث في تونس، وهو ما أتاح حتى الآن لهذه الوضعية الثورية التونسية أن تقطع عدداً من الخطوات في اتجاه تحقّقها كثورة.

المشكلة أن البعض يريد العودة بنا إلى زمن الفقهاء من جديد، كأننا لم نتخلّص من نظام الحاكم الواحد بواسطة الحزب الواحد إلاّ لنقع في قبضة نظام الحاكم الواحد بواسطة الكتاب الواحد! الساحة يحتلّها اليوم من لا يريد للمثقّف أيّ دور لأنه لا يريد لهذه الوضعية أن تتحقّق وأن تؤول إلى ثورة حقّا. ممّا يدفع إلى القول إننا أمام ثورة مهدّدة، أرجو أن لا تصبح مغدورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى