صفحات الرأي

أربع مسائل ملحّة للمستقبل


حازم صاغية

 تتيح متابعة الحدث العربيّ الجاري والعاصف، المتشكل بسبب الانتفاضات أو من حولها، توقع مسائل أربع يُقدّر لها أن تحتلّ الموقع المهيمن على المستقبلين القريب والمتوسّط لعشرات ملايين العرب.

أولى تلك المسائل اختبار العلاقة بين الإسلام السياسيّ العربيّ وبين الحداثة السياسيّة، وتحديداً الديمقراطيّة البرلمانيّة ولعبتها، أي قدرة الأوّل على التكيّف والانسجام مع الثانية. وهنا لا تحول الإجابات المتكاثرة، وأحياناً المتناقضة، دون ملاحظة الغموض الناجم عن كونّ تلك التجربة تحصل للمرّة الأولى عربيّاً، فيما السوابق التركيّة (وجزئيّاً الماليزيّة) يُرجّح لها، لأسباب شتى، أن تكون قليلة الإفادة على هذا الصعيد. وكذلك يُستحسن، في هذا المجال، تجنب الوقوع في التعميمات لدى الحديث عن “إسلام سياسيّ”، حيث تنتمي الحركات السلفيّة مثلاً إلى تأويلات للإسلام تخالف تأويلات جماعة “الإخوان المسلمين”، بينما تنقسم هذه الأخيرة على خطوط وطنيّة، وأحياناً فكريّة، ما يجعل التعامل معها ككتلة واحدة أمراً تعوزه الدقة.

ولنا أن نفترض، في حال نجاح التجربة، أن يتعرّض كلّ من الجسمين المتلاقحين لتغيّر وتكيّف من النوع الذي يلازم كلّ لقاح. أمّا في حال الفشل، في خضمّ التجارب العمليّة، فأغلب الظنّ أن تجد المنطقة نفسها، ومعها فكرها السياسيّ المتداول، في ما بعد الإسلام السياسيّ في صيغة أو أخرى.

أمّا المسألة الثانية فتتناول قضايا الصلب الاجتماعيّ، أي الصلة بالأقليّات الدينيّة والإثنيّة والمذهبيّة، وبالمرأة وحقوقها، وبالثقافة وحرّيّات الإبداع والتعبير، ومن ثمّ بتشكيلات المجتمع المدنيّ على عمومها. فإذا جاز القول إنّ المجتمعات المنتفضة تكشّفت عن قوّة غير متوقعة للإسلاميّين، بعد كبت مديد، كان من الجائز أيضاً أن يقال إنها تكشفت عن مسائل تراكمت ولم يجر حلها على مدى عقود متلاحقة. فالثورات التي عرفها العالم المعاصر في تلك الغضون، في المفاهيم كما في السلوك، مرّت مروراً سريعاً وغير مؤثر على العالم العربيّ، بما في ذلك البلدان التي انفجرت فيها الانتفاضات. يصحّ ذلك في النسويّة والتسامح وصعود الفرديّة وموضوعة حقوق الإنسان وصولاً إلى العولمة وما يتفرّع عنها. وقد يزيد في الإلحاح على استلحاق ما فاتنا، كما قد يعطيه طابعاً محتقناً، أنّ الشبيبة التي أطلقت الانتفاضات قد تنتهي، أقله في مصر واليمن، في مواقع من التهميش السياسيّ لمصلحة الإسلاميّين وقوى “التيّار العريض” الأخرى.

وليس من غير دلالة، في هذه الحدود، أننا تعرّفنا في العام المنقضي، وبسبب الانتفاضات تحديداً، إلى أسماء مثقفين ونساء وناشطين كان يلزم عشر سنوات أو أكثر لكي نتعرّف إلى مثلها، من توكل كرمان إلى رزان زيتونة ومن المنصف المرزوقي إلى (زميلنا في هذه الصفحات) برهان غليون.

وتدور المسألة الثالثة حول قدرة البلدان ذات النسيج الوطنيّ الهشّ، أو الضعيف، على احتمال التغيير، ومن ثمّ قدرتها على الاحتفاظ بوحداتها الترابيّة القائمة وخرائطها. وربّما تصدّرت ليبيا قائمة هذه الدول التي بقيت الدولة الأمّة فيها أقلّ وزناً من الولاءات القبليّة والجهويّة. وهي مسألة قد تحفز، في هذا البلد أو ذاك، على طرح أمر الخريطة نفسها على بساط البحث، ولاسيّما أنّ كثيراً من الأنظمة المستبدّة قد تماهى مع كتل أهليّة صلبة، دينيّة أو مذهبيّة أو مناطقيّة، بحيث غدا تغيير التركيب السلطويّ يتصل مباشرة بالتركيب المجتمعيّ وتوازناته. وغنيّ عن القول إنّ الشكل الذي رست عليه أوطان عربيّة كثيرة، إمّا بعد الحرب العالميّة الأولى أو بعد الحرب الثانية، ولد مطعوناً بشرعيّته من قبل هذه الفئة الأهليّة أو تلك، وغالباً ما استخدم دور الاستعمار الأوروبيّ في رسم الخرائط ذريعة إيديولوجيّة لهذا الطعن في الشرعيّة تلك وبما حضنته من غلبة داخليّة أو ما رافقها من توازنات عصبيّة.

هكذا لن يكون من المبالغة أن نتوقع، وسط هذا العصف الجاري، صعود مطالبات قصوى قد تتأثر بما حصل في السودان من تجزئة أُقرّت مع بدايات العام الجاري، أو ربّما بالأجواء العراقيّة (والسوريّة) التي قد يزداد تفاقمها مع اكتمال الانسحاب الأميركيّ من بلاد الرافدين. ولسنا نذيع هنا سرّاً إذا قلنا إنّ الاتجاه الإيرانيّ لملء فراغات القوّة في العراق سيُفسّر سنيّاً زيادةً للوزن الشيعيّ على حساب الفئة التي انحصرت فيها السلطة السياسيّة تقليديّاً وظلت كذلك حتى حرب 2003. فأن تكتب مؤخّراً محافظة صلاح الدين (السنيّة)، وعاصمتها مدينة تكريت، مسوّدة دستور يؤهّلها التحوّل إلى “إقليم”، فهذا دليل آخر على الوجهة العراقيّة المتنامية. وفي حال ذهاب التردّي الأهليّ والطائفيّ بعيداً في العراق، يُستبعد ألا تغتنم العواطف الاستقلاليّة الكرديّة في الشمال فرصتها، بل يُستبعد، استطراداً، ألاّ تندمج، على نحو ما، النزاعات العراقيّة بالنزاعات السوريّة، وربّما اللبنانيّة أيضاً.

وأخيراً، هناك مسألة الصراعات والنزاعات الإقليميّة التي تدور حول المنطقة بعدما أجّجتها الانتفاضات الدائرة. وهذه إذا كان بعضها مستقلاً بذاته، كشؤون العلاقات الإيرانيّة- الغربيّة والإسرائيليّة بسبب الموضوع النوويّ، إلاّ أنّ معظمها ذو انعكاس مباشر على العلاقات الطائفيّة والمذهبيّة في داخل العالم العربيّ. وفي هذا الإطار قد يحتلّ التنافس التركيّ- الإيرانيّ، على تعدّد ساحاته، موقعاً بالغ الحساسيّة والتأثير، ولا سيّما أنّ الوضع المصريّ الراهن، المنشغل بأموره الداخليّة لفترة قد تطول أو تقصر، يضع المنطقة العربيّة في موضع التلقي السلبيّ البحت.

وقصارى القول إنّ العرب لن يكونوا إطلاقاً بعد 2011 كما كانوا قبل ذاك العام. يصحّ هذا على الأصعدة والمستويات جميعاً. ذاك أنه ما إن بدأ بعض أنظمة الاستبداد بالانكسار، وما إن باشر بعض الشعوب العربيّة المطالبة بالحرّيّة، حتى راحت تتفجّر المكبوتات على أنواعها، بالحسن فيها والسيّئ. هكذا تحرّك التاريخ الذي وُضع طويلاً في صندوق لا يملك إلا الزعيم القائد مفتاحه. ومع حركة التاريخ، باتت الكتل التي سبق أن عوملت طويلاً كقطعان، مسؤولة عن يومها وعن غدها مسؤوليّة مباشرة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى