صفحات الثقافةعمر قدور

أرواح مضادّة للرصاص

عمر قدور

 تتصل صديقتنا “س” من مدينة أوروبية لتطمئن علينا إثر سقوط قذيفة في جوار بيتنا. لم يكن اتصالها هو الأول من هذا النوع، فقد تلقّينا العديد من الاتّصالات المشابهة، الأمر الذي صار تقليداً بعد كل انفجار أو سقوط للقذائف يُعلن عنهما في التلفزيون. القذيفة كانت قريبة جداً، لكننا لم ننتبه حقاً إلى دويّها، على الأرجح اختلط صوتها بالأصوات القويّة للقذائف والصواريخ التي تطلقها قوات النظام على “بيت سحم” و”عقربا” المجاورتين. سيستغرب المتّصلون من الأصدقاء والأهل أننا لم نسمع بسقوط القذيفة إلا منهم. بعد الاتصالات نجول على محطات الأخبار لنعرف أيّاً منها يبثّ النبأ، لعلّنا نحظى بتفاصيل أوفى عما حدث قريباً جداً منا.

نخمّن أنها قذيفة هاون لا أكثر، لذا ضاع صوتها بين أصوات قذائف المدفعية الثقيلة. قذائف الهاون لا تتسبّب بكثير من الخوف أو الهلع. قبل أيام سقطت واحدة منها أمامي بحوالى ثلاثين متراً، تماماً في المبنى الملاصق لذلك الذي كنت أقصده. لم أرَ خوفاً في عيون الناس الذين تجمهروا لمعاينة مكان الانفجار. كانت المسألة برمتها أبسط مما تخيلت سابقاً، وأبسط بالتأكيد من الأقاويل التي رحت أسمعها عن تلك القذيفة من أناس لم يروا ما حصل. بالطبع كانت الأقاويل أكثر تشويقاً ومهابة. سوسن، العائدة من العمل بعد ساعة، تخبرني بأن قذيفة مماثلة سقطت أمام السيارة التي تقلّها، ولمّا التفّ السائق للهروب سقطت قذيفة أخرى على بعد أمتار من الجهة المعاكسة. لكننا، ونحن نتبادل الحديث عما حدث لكلينا قبل قليل، لا نشعر بتلك الأحاسيس المتخيّلة عن زوجين ناجيين توّاً من الموت.

عندما يتّصل الأهل أو الأصدقاء من الخارج أو من المناطق الآمنة، تكون أصواتهم في البداية متلهّفة ثم تحمل تلك الراحة التي يبعثها الاطمئنان إلى نجاتنا أو أحوالنا. البعض منهم يكرّر إلحاحه حول ضرورة مغادرتنا للمكان، أو يعرض استضافتنا. ونحن نَعِد بفعل ذلك عندما يتفاقم الخطر، لكننا حقاً لا نستطيع تقدير اللحظة التي سيتفاقم فيه الخطر، وما إذا كنا حينها سنمتلك فرصة للابتعاد عنه، بل ربما كنا في قلبه من حيث لا ندري. على الجانب الآخر من الخطّ، قد يجدنا المتصل بليدين، وقليلي الإحساس بالمسؤولية تجاه حيواتنا، وربما يظنّنا نكابر فلا نبتهج بنجاتنا ونهرع بها إلى مكان آمن.

ليس ثمة فرح حقيقي بالمصادفة التي تدعنا أحياء. لا لأن المصادفة ذاتها أنهت حياة آخرين فحسب، بل لأن العيش بحكم المصادفة وحدها لا يحتوي تلك الفسحة الكافية للاحتفاء به. في النهاية لا ضمانات دائمة يقدّمها الحظّ. وعندما يُقتل الآخرون لأنهم فقط وُجدوا في أماكنهم المعتادة، فهذا بالنسبة إلى الأحياء يصبح تمريناً يومياً على الموت. لكنه تمرين لا يدعو إلى اليأس على نحو ما يحدث في الأحوال العادية. التفاؤل هنا ليس خياراً ولا ترفاً، هو بالأحرى الخيار الوحيد المتبقّي. عندما يُقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، يصبح التفاؤل نوعاً من الوفاء الواجب لأولئك الذين لم نصبح في عدادهم بعد.

صارت وراءنا بأشهر طويلة المرةُ الأولى التي شهدنا فيها اشتباكات حيّة. قبلها كانت حالنا كحال أصدقائنا الذين يتصلون بنا. الآن نستمع إلى الأخبار ونتخيّل فظاعة العيش في الأماكن الساخنة، وأحياناً يصعب علينا النوم إذ نفكّر باللذين لا يستطيعون النوم تحت أصوات القصف. لم يكن يخطر في بالنا أن النوم ممكن مع الأصوات العنيفة التي نسمعها الآن، بل صارت أسماعنا تتجاهلها أحياناً، وقلّما نفيق من نومنا بسببها. الآن يبدو قلقنا الماضي مبالغاً فيه. الآن أصبحنا أكثر اطمئناناً على الأهل والأصدقاء الذين يشاطروننا الأوضاع ذاتها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى