صفحات الثقافة

أزعم أني الأمّ التي تحملك/ عقل العويط

هذا المقال مُهدى إلى كلّ الذين لا يزالون يؤمنون بأن الأمل هو صوّان الخلاص والحرية، وبأن الشعراء، أعني الكتّاب والمفكّرين والفنّانين والعشّاق والناس العاديين، المناضلين المعلومين والمجهولين، هم أساتذة هذا الأمل، الذي يجب أن يظلّ يخترع نفسه بنفسه، وإن عصف اليأس بحصون العقل والروح والبلاد، واشتدّت الحلكة. المقال مُهدى خصوصاً إلى شاعرٍ صديق، هو كبير أبنائي.

قضيتنا هي الحرية

قضيتنا ليست الحكومات، ولا البيانات الوزارية، ولا الرئاسات.

في لحظات المجازفة والتجرؤ، قد أجدني أقول إن قضيتنا ليست “الجغرافيا”، ولا “التاريخ”، ولا “العيش المشترك”، ولا “الوحدة الوطنية”، ولا “الدستور”، مهما تكن هذه الأقانيم عزيزةً ومطلوبة. وقد أجدني أقول في زمن تغيير الدول وتحوّل الأزمنة: ولا قضيتنا أيضاً هي “الدولة” بالذات، مهما تكن النتائج الواقعية، المترتّبة على هذا التهوّر اللفظي، خطيرةً ومأسويةً ووجودية.

أبناء سيزيف، لا يهابون آلهةً ولا قصاص الآلهة. لا تروّضهم دهورٌ، ولا أعمارٌ، ولا ويلات.

هم آباء أنفسهم، وهم الأبناء، وإن اعترفوا بأبوّة الأسطورة. مهنتهم اختراع الجبال ليرتقوها بلا هوادة. الصعود الأبديّ لن يفتّ من عضدهم. ولا النزول إلى الجحيم.

كيف للصعود أن يثني جبالاً ترتقي الجبال!

قضية هؤلاء هي الحرية. لا فراغ الدولة يخيف، مهما يكن مخيفاً. ولا المروق، ولا وضع اليد.

فلتستبدّ الأنظمة، وهي مستبدّة. وليتجبّر الطغاة، وهم متجبّرون. وليتصاغر الرجال، وهم متصاغرون.

للسياسة عهودٌ، ولها أيضاً رجالٌ. هؤلاء في الغالب الأعمّ، ليسوا رجال الحرية، بل أزلام السياسة وخدّام الانتهاز. مأساة السياسيين أن ليس هناك حلولٌ وسط مع الحرية. لأجل ذلك، سرعان ما تلفظهم في الطريق. عندما تفعل الحرية شيئاً من ذلك، هي لا تتطلع إلى وراء.

متوحشةٌ وصارمةٌ ومستحيلة هي الحرية. لكن صفاتها هذه لن تعدمها رجالها.

الحرية لن تُعدَم رجالها. لا في صناعة الدول. ولا في صناعة الحياة و… الكلمات.

في حالٍ كهذه، في هذه الحال فقط، يصبح للجغرافيا، وللتاريخ، وللعيش المشترك، وللوحدة الوطنية، وللدولة بالذات، معنى الحرية، بما هي دولةٌ ديموقراطية مدنية. وهذا معنىً يستحقّ أن تُبذَل له الرجال.

كلما تكاثر أعداؤها، هنا، وفي كلّ مكان، تكاثر رجالُها، وإن قلائل.

جمالُها وقوّتُها، الحرية، ليسا بالعين. بل بالقلب. والعقل.

وهذا سرّ المغناطيس فيها.

* * *

نداء بارد إلى القتلة

لن نستطيع أن نمنعكم، أيّاً تكونوا، من القتل.

نستطيع فقط – وبالكاد – أن نطلب منكم أن تكفّوا عن قتل الناس الأبرياء. فهؤلاء، كما تَعَلّمْنا من مآسي العِبر الوطنية المتواصلة، لن يغيّروا في المعادلات شيئاً.

لا نستطيع أن نلجم جموح غرائزكم، ومقامراتكم، وحروبكم المذهبية والدينية، ولا أن نلجم جموح الاقتتالات التي يشعلها الآخرون عبركم، لأنها على الأرجح ليست رهينة إراداتكم المباشرة وغير المباشرة.

قد نستطيع – وبالكاد – أن نسألكم، أيّاً تكونوا، أن تكفّوا عن اغتيال الأطفال والنساء والفتية والفتيات والعجائز، والناس العاديين، الذين تذهب وجوههم وعيونهم وأحلامهم وذكرياتهم، إهداراً، وتقريباً من دون فائدةٍ ترجونها في ما تفعلون.

لا نستطيع أن نخاطب فيكم العقل، ولا الحكمة، ولا القلب، ولا أيضاً الرأفة. فلقد تخرّجتم من غير هذه المدارس، ولا لزوم – والحال هذه – أن تذهب مخاطباتنا سدىً.

نستطيع فقط أن نخاطب مصالحكم المباشرة وغير المباشرة: اذهبوا واقتلوا حيث تشاؤون، لكن لا تفعلوا ذلك حيث لا فائدة لكم، ولا مصلحة.

قتل الأبرياء والعزّل والفقراء والناس العاديين لن يحرّك ساكناً، لا هنا ولا هناك، لا في الداخل ولا في الخارج. فكفّوا إذاًَ، عن هؤلاء المساكين.

وجِّهوا سياراتكم المفخّخة – إذا كان ولا بدّ – إلى حيث مكمن الوجع السياسي، لا الوجع الأهلي والمدني. فهذا الأخير – صدِّقوني – لا يوجع إلاّ أصحابه وأهله، وسائر مَن يقول بأوجاع الوجدان.

تخطئون دائماً في عناوينكم، أيّاً تكونوا.

تأكدوا، يا سادة القتل، من العناوين، ثمّ افعلوا ما تشاؤون.

اقرأوا هذا النداء، بعناية واهتمام. اقرأوه بعينٍ محض حسابية، مصلحية، وانتهازية.

اقرأوه كنداء – بيزنس فحسب.

ولا تدعوا أنفسكم ورؤوسكم تدوخ في الحلقة الجهنمية المفرغة.

هذا نداء بارد إلى القتلة: الحلقة المفرغة، ستظلّ مفرغة، ولن توصل إلى نتيجة.

* * *

إلى أ. ح. باعتباره كبير أبنائي

ليتني صمتاً. فقط لأن صمتي يمكن أن يُشعِركَ بألفةٍ تؤنس حياتكَ من غير دخيل. ليتني هذا الصمت. فقط حين تحتاج إلى حوارٍ كهذا، حيث لا تخدش هديلكَ غير المسموع إلاّ نسائم وغيوم عابرة أمزجتكَ الصعبة.

* * *

ليتني سماءً زرقاء لأظلّ أُرسل اليكَ سمائي الزرقاء. من أجل أن ترى فيها قمراً أرعن، وعصافير غفيرة تحتاج إلى خيال عينيكَ لتطير.

* * *

ليتني ليلاً مفتوحاً على منتصف ليل مغامراتكَ المهلوِسة. ليس للتلصص عليكَ، بل من أجل أن يكون جمركَ مضاعَفاً ومتهيئاً للخروج إلى حيث تتلاقى أحلامكَ ونزواتكَ.

فليتكهرب ليلكَ، وليحتلم، كخيالٍ غير قابل للاستكانة أو للتقاعد المضجر.

* * *

ليتني وقتاً يضاف إلى أوقاتكَ. من أجل أن يتسع لكَ الوقت المليء، كلما احتجتَ إلى الفرار، متخفّياً وراء أقنعتكَ الكرنفالية.

* * *

ليتني ما تريد أن يتحقّق من أمنياتكَ، فأكون خاتمكَ. كمثل ما يكون الخاتم في خيال العقل واليد.

* * *

ليتني شمس الصيف. من أجل أن تنزل عليكَ شمس الصيف كشحنةٍ من كهرباء لامتناهية.

* * *

ليتني الشتاء لكَ. إذا الشتاء لكَ، من وراء نافذة فندقٍ باريسيّ مطلٍّ مشهدُهُ على رفوف الحمام فوق قرميد الكاتدرائية، أو على مصطبة المقهى، في شارعكَ الباريسيّ المفضّل.

* * *

ليتني السَّفَر لكَ. أو ليتني الأوركسترا. إذا عازفاً على شبّاك غرفتكَ المطلّة افتراضاً على ساحة سان ماركو في البندقية.

* * *

ليتني موسيقى كتلك الموسيقى التي كان يبتغي بيتهوفن أو موزار كتابة نوطاتها قبل أن يدهمهما الوقت الصعب. ليتني موسيقى فقط لأنكَ قد تحبّ موسيقى كهذه، من شأنها أن تفتّح هواءً لم تُتَح له سماءٌ لكي يتفتّح.

* * *

ليتني أمين الكتب كلّها. المكتبات كلّها. والحروف المبعثرة التي تحتاج إلى تأليف. فقط لتكون في مأمنٍ من خريف الكتب والمكتبات.

* * *

ليتني خبزاً ساخناً. ليس لسببٍ شخصي، بل لتكريم شهواتكَ التي تحبّ الخبز الساخن إلى مائدةٍ من لذائذ وهلوسات.

* * *

ليتني باريس. بيروت شارع الحمراء. ساحة البرج. في العام 1959 أو في العام 1960. فقط لأعاين عبوركَ في هذه الأمكنة بعد منتصف الليل، مغادراً إلى حيث لا أحد يعرف مقصدكَ، إلاّ تلك الغرائز التي تفوح من رأسكَ المخاتل.

* * *

ليتني كنوزكَ المهدورة كأنهارٍ ذاهبة إلى بحر. ليس طمعاً بكنوزكَ، بل لأجل أن أجعلها معكَ عندما تشعر بالحاجة إلى صداقةٍ، خفيفة الظلّ، قليلة الكلام، مكتفيةٍ بالإنصات إلى مزاجكَ الجليل.

* * *

ليتني كنيسة. ليتني الكنائس والكاتدرائيات والمزارات كلّها. فقط لأنّكَ قد تجد فيها أيقونةً تطمئنّ إلى ندائها الخفيّ.

* * *

ينعتكَ صديقٌ مشترك بأنكَ بكرُ أبنائي الثلاثة، وبأنّي أبوك. أُحبّ أنّكَ ابني البكر الذي يكبرني بأكثر من ستة عشر عاماً.

أزعم، في الواقع، أنّكَ الجنين، وأنّي الأمّ التي تحملكَ.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى