صفحات العالم

أزمة إدارة الأزمة في سوريا

 


غازي دحمان

ما بعد ثورتيْ تونس ومصر، باتت الثورات العربية تحمل في بنيانها بعداً أزموياً، فلم يعد “الربيع العربي” ينساب بتلك السهولة، ثمة عقبات كثيرة باتت تقف في طريقه، ولعل أهمها تلك الأسئلة التي تتعلق بمصير الوطن ومسار الشراكة الوطنية، بعد أن تم استحضار -وحتى استيلاد- الغيلان العشائرية والطائفية والإثنية، من تحت أظافر المجتمعات هكذا فجأة، والهدف فرملة الحراكات الوطنية وتحميلها مسؤولية الخطر القادم وتشويه مقاصدها، وصولاً إلى شرعنة إطفاء جذوتها.

وبالطبع، فإن الثورة بحد ذاتها ليست سوى تعبير عالي النبرة يصل إلى حد الصراخ المروع، وإشارة صريحة وواضحة على أن الأمور تجاوزت حتى القدرة على وصفها، فما بالك بإمكانية تحملها، أما أن يصار إلى اختراع أزمة لمواجهة الأزمة، فهذا نمط إدارة يعتمد طريقة اللعب على حافة الخطر، مع كل ما يحمله هذا الأسلوب من مخاطر الانزلاق إلى الهاوية في أي لحظة، فضلاً عن كونه يعدم كل فرص النجاة التي توفرها الإدارة السياسية العقلانية للأزمات.

في سوريا تأخذ الأزمة هذا المنحى، وكأنه طريق إجباري، والواضح أن الشرخ يزداد عمقاً وكأن كل ما سجل طوال الأسابيع الماضية من إشارات متبادلة لم يكن كافيا، ولا كان مقبولا. أسوأ ما فيه أنه كشف أن النظام ما زال في حالة إنكار للأزمة، والشارع ما زال في حالة استشكاف لها..، والجانبان يعبران عن الرغبة في المواجهة، وفي اختبار موازين القوى، من دون أي حساب للخسائر، ولا للخاتمة الحتمية في مثل هذه الحالة.

والحاصل، أن إدارة الأزمة التي تشهدها البلاد يأخذ طابعاً تصعيدياً، عبرت عنه السلطات من خلال نيتها تحضير مسرح الحدث لمزيد من الإجراءات القمعية في مواجهة الحراك الشعبي في أكثر من موقع ومكان، وقد كان بيان وزارة الداخلية صريحاً في هذا الاتجاه، حيث أكد أن السلطات لن تسمح بالعبث بأمن الوطن والمواطنين، مما يعني تأكيد إنكار الأزمة بوصفها أزمة وطنية ناتجة عن إحساس فئة أو مجموعة من الناس بالغبن والظلم، وبالتالي ضرورة وجود حل سياسي، وتحويلها إلى مجرد أحداث أمنية تتطلب مواجهتها إجراءات أمنية صرفة.

 

وفي أحسن الأحوال، لجأ النظام السياسي في سوريا إلى التعامل مع الأزمة عبر تفكيكها إلى حزمة أزمات مطلبية متفرقة، وليست حالة وطنية شاملة تنشد تغيير المناخ السياسي برمته، بما يتضمنه من إحداث تغييرات دستورية شاملة تعيد تنظيم الحياة السياسية في سوريا بطريقة عصرية تضمن مشاركة جميع ألوان الطيف السياسي السوري في عملية صنع القرار، وتكسر الاحتكار الأحادي الذي يمارسه الحزب الحاكم بوصفه قائداً للدولة والمجتمع.

ولا شك أن هذه الإستراتيجية تهدف -حسب اعتقاد النظام السياسي السوري- إلى تقليل حجم الخسائر، وإمكانية فرط دينامية الحراك الحاصل عبر التمييز بين مطالب أركانه، وتحقيقها بالقطعة، وعزلها عن الحالة الوطنية العامة، مما يسهل بالتالي احتواء الحراك الجاري وصولاً إلى إنهائه، من هنا كانت بعض القرارات الاقتصادية التي استهدفت كتلة كبيرة من موظفي القطاع العام، وكذلك القرارات التي صدرت بشأن عودة المنقبات وإنشاء فضائية دينية، وكان الواضح منها ترضية من يوصفون بالإسلاميين المعتدلين في البلاد، فضلاً عن القرارات التي صدرت بشأن تجنيس عشرات الآلاف من الأكراد.

إلا أن الواضح هو أن هذه الإجراءات قد أوجدت على ضفافها أزمة أخرى تمثلت بالتأكيد على حقيقة أن عدم طرح النظام السياسي في سوريا لإستراتيجية واضحة ومنسجمة مع ظروف البلاد وخياراتها التاريخية، من شأنه أن يهز الأساس الذي قام عليه التوافق الوطني خلال العقود الماضية، ويؤسس لحالة صراعية مستقبلية واختلالات بنيوية خطيرة في أساس التوافق الاجتماعي الذي تأسست عليه الحالة الوطنية السورية برمتها.

ولعل أخطر ما في تجليات أزمة إدارة الأزمة في سوريا، هو الانحدار المفاجئ في الخطابين الرسمي والإعلامي إلى استعادة شبح الفتنة المذهبية والطائفية، والعزف على وترها، ومحاولة ربط استمرار السلم والاستقرار الأهلي في سوريا ببقاء الأحوال على ما هي عليه، والتلميح بأن مطالب الحرية والديمقراطية تحمل في مضامينها مخاطر جمة على فئات وشرائح معينة في المجتمع السوري. مع ملاحظة أن الحراك في سوريا لم يقترب من هذه العناوين، ولا يعتقد أن ثمة في الأفق إمكانية لهذا الطرح، لإدراك المجتمع السوري الخطورة الكامنة التي تحملها هذه الأنماط من النزوعات، فضلاً عن أن العيش المشترك والتشارك في الآمال والآلام مسح منذ زمن خطوط الانقسام الطائفي والمذهبي في سوريا، لدرجة لم تعد موجودة.

ولكن أيضاً وللحقيقة، لا بد من الاعتراف بأن هذا السلوك الموصوف، حقق نجاحات معينة حتى هذه اللحظة، إذ إن من شأن فحص مكونات الحراك السوري ملاحظة اقتصاره على مناطق بعينها وتكوينات محددة، وأن ثمة مناطق وتكوينات اجتماعية أخرى نأت بنفسها عن هذا الحراك، وحتى وقفت ضده، رغم أن الحرية مطلب جماعي سوري، وكذا العدالة والمساواة، وإذا كانت ثمة ميزة للنظم التي تعاقبت على سوريا فهي كونها لم تعمد إلى التمييز بين فئة وأخرى، وكانت تعتبر أن النظام السياسي خط أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أي مسمى وذريعة.

كذلك يلاحظ أن النظام السياسي سعى إلى ربط مصير كتلة كبيرة من النخب التجارية والصناعية في البلاد -خاصة في دمشق وحلب- ببقاء المناخ الإداري الفاسد، حيث تحصل هذه النخب على مكاسب وامتيازات ضخمة، ومن شأن إصلاح الأوضاع واتباع مبادئ الشفافية وتلزيم التقيد بالمواصفات واتباع الإجراءات السليمة حرمانها من تلك المكاسب، وترتبط هذه النخب بشبكة معقدة من المصالح مع طبقة رجال الدين، ذات التأثير الواسع على الطبقتين الوسطى والفقيرة في دمشق وحلب، من خلال الدعم الذي يتلقاه رجال الدين لتسيير جمعياتهم ومشاريعهم الخيرية.

ثمة في سوريا من يرى أنه لا يزال ممكناً الرهان على إخراج البلاد من أزمتها، فالذهنية السياسية السورية الموصوفة بقدرتها على اجتراح الحلول المناسبة ما زال لديها الكثير من الخيارات التي ربما تبلورها الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، كما أن المراهنة على وعي الشعب السوري وإدراكه للمخاطر المحيطة به أثبتت حتى اللحظة جدواها، ولكن ذلك يتطلب بكل تأكيد اعتراف النظام السياسي بالأزمة التي تمر بها البلاد، واللجوء إلى حلول سياسية مناسبة، واتباع نمط إدارة للأزمة يضمن إيصال البلاد إلى شط الأمان.

وعلى النظام السياسي أن يدرك أن في ذلك منتهى التضحية، وليس من العيب التنازل للشعوب إذا كانت شرعية أي نظام سياسي رهناً بقبول مواطنيه به.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى