برهان غليونصفحات سوريةميشيل كيلو

أزمة المعارضة السورية –مقالات محتارة-

مؤتمر وحيد تحتاج إليه المعارضة السورية اليوم/ برهان غليون

يذكّرني تكاثر مؤتمرات المعارضة السورية، وتراجع تأثيرها ودورها معا، بالمؤتمرات التي كانت تعقدها المعارضة نفسها خلال الأشهر الستة التي سبقت تشكيل المجلس الوطني، وكانت تعكس تسابق المجموعات المختلفة على إعلان أبوتها لأي تشكيل جامع جديد، وقطع الطريق على المجموعات الأخرى. ولم ينجح المجلس الوطني في وقف هذه الديناميكية التسابقية، إلا عندما رفضنا الإقصاء، وفرضنا مبدأ التوافق، والتوجه إلى جميع الاتجاهات والتيارات والكتل، لتشكيل جسم تمثيلي واحد. ولم يضعف دور المجلس الوطني ويدخل في موته السريري إلا عندما عادت الأطراف التي شكلته إلى رياضتها التقليدية في التنازع والتسابق على أبوة المجلس، ووضع اليد عليه، أو إقصاء أطراف أخرى، بهدف التسلط عليه، وفي النهاية قتله.

مؤتمرات للتغطية على عجز دائم

المبررات الرئيسية التي تنعقد بحجتها المؤتمرات التي تحولت، في السنة الماضية، إلى رياضة سياسية، وصارت الإنتاج الوحيد للمعارضة السورية، تتركز على أن الاعتراض على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إما لأنه لا يمثل جميع أطياف المعارضة، أو لا يعبر عن كل فئات الشعب السوري، أو أنه لا يقوم بالمهام الملقاة على عاتقه، أو أنه مرتبط بتيارات وعواصم معينة، من دون أن يراعي مصالح عواصم أخرى وأدوارها. وفي جميع هذه المبررات والذرائع وجهات نظر ليست خاطئة تماما، لكن الوقوف عندها، وترجمتها باستبدال الائتلاف، تقود إلى إعادة إنتاج تشكيلاتٍ، تنطبق عليها المآخذ نفسها بصورة أكبر وأشد.

“لم يضعف دور المجلس الوطني ويدخل في موته السريري إلا عندما عادت الأطراف التي شكلته إلى رياضتها التقليدية في التنازع والتسابق على أبوة المجلس، ووضع اليد عليه، أو إقصاء أطراف أخرى، بهدف التسلط عليه، وفي النهاية قتله”

والحقيقة أن معظم ما يحصل من مؤتمرات باسم المعارضة السورية ينبع من طموح بعض الشخصيات، المشروع أحياناً، للعب دور وتبوّء مركز لم يسمح لها به الائتلاف، أو لا تريد أن تلعبه من داخله، وتجد لدى بعض العواصم الطامعة، أيضاً، في تأكيد حضورها في المناورة الإقليمية والدولية التي تدور على ساحة المشرق، تجاوباً يعكس الاختلاف الكبير في المصالح والتوجهات والمقاربات لدول المشرق ومحيطه. لكن الخاسر الأول من ذلك كله هو القضية السورية والمعارضة التي تفقد صدقيتها، بمقدار ما تتحول إلى معارضاتٍ، تدّعي كل منها شرعية تمثيل السوريين، وتتنافس في ما بينها على كسب ود الدول، وتأمل أن تحظى بدعمها ومساعدتها.

مع ذلك، إذا كانت الدوافع لعقد هذه المؤتمرات، التي تكاد تشمل جميع العواصم الدولية التي أظهرت اهتماما بالوضع المشرقي في السنوات الماضية، هي الطموحات الشخصية، واستغلال بعض الدول هذه الطموحات، فإن استمرارها يعكس أيضا حاجة موضوعية نابعة من تكلس التشكيلات الائتلافية القائمة، وعجزها عن التطور، بموازاة ما يحصل من تغيرات عميقة، في ظروف الصراع على الأرض من جهة، وعلى الفاعلين الرئيسيين، أيضاً. وبالتالي، عن تجديد أشخاصها وأفكارها وأساليب عملها للقيام بالحد الأدنى من المهام التي يفرضها عليها التطور الكارثي للأوضاع السورية والإقليمية. وتشكل المؤتمرات المتجددة فرصة مناسبة للتغطية على العجز، وإظهار تفوق الإرادة، حيث تنعدم القدرة على الإنجاز.

كما كان الحال في الفترة التي سبقت ولادة المجلس الوطني، تحتاج المعارضة السورية، بالفعل، إلى إعادة تشكيل، وإلى انتفاضة داخلية، تخرجها من تكلسها وتكيسها، وتُجدد دماءها، وتطلق قواها وقدراتها، وتحولها إلى أداة فعالة في مواجهة التحديات المتنامية التي يواجهها السوريون، وهم يتعرضون لحرب إبادة حقيقية، أمام صمت العالم، وفي غياب أي إطار تمثيلي معارض، قادر على إبراز معاناة الشعب السوري، وحمل راية كفاحه البطولي المرير، ومواكبة محنته التاريخية غير المسبوقة.

لكن، ما تحتاج إليه المعارضة السورية لتخرج بنفسها من الموت السريري، وتتحول إلى فاعل في الساحة السورية هو تماما عكس ما تقوم به شخصياتها وتجمعاتها اليوم، والتي تكاد كل طائفة منها تكرر ما تقوم به الطائفة الأخرى، في الفكر والعمل والطريقة والأداء، وفي الوثائق والبيانات التي تصدرها، والتي تكاد لا تتميز بعضها من البعض الآخر، إلا بركاكة متساوية في اللغة والأسلوب، وخصوصاً في الأهداف التي تتركز جميعا في طموح كل واحد منها إلى أن يكون حصان السباق في يد هذه العاصمة، أو تلك، لنيل الشرعية والدعم الدولي، واستقطاب المعونات والمساعدات.

بالعكس، ما ينقص المعارضة السورية هو مؤتمر تركيبي، وليس مؤتمرات تجزيئية أو تقسيمية، تزيد من عدد التجمعات المتنافسة والمتسابقة إلى تحقيق مهماتٍ، يفترض إنجازها قبل أي شيء آخر وحدة موقف المعارضة وتفاهمها وتعاونها وائتلافها ويمتنع بانقسامها. فأكبر ما تواجهه المعارضة من تحديات هو التحدث مع السوريين، وباسمهم، بخطاب واحد ولغة واحدة، والتعبير عن مطالبهم في التحكم بمصيرهم ومستقبلهم، ووقف التلاعب الدول والعواصم المتنازعة بمصيرهم، وتمثيل إرادتهم الموحدة في وضع حد للحرب وللنظام المتهالك وتجسيد إرادة العيش المشترك والتفاهم الوطني، والعمل لإعادة بناء سورية الحرة المستقلة الديمقراطية السيدة. ويتطلب هذا كله وجود قيادة سياسية، أي تعاوناً واتفاقاً في الرؤية والمنهج، ويتنافى مع التنافس على اقتسام تمثيلها أو التنازع على شرعية هذا التمثيل، والتسابق إلى تقديم الخدمات للدول والأطراف الدولية بين الأشخاص والقوى والفصائل والتكتلات والمؤتمرات التي تكاد لا تنتهي في عاصمة، حتى تبدأ في أخرى.

“أكبر ما تواجهه المعارضة من تحديات هو التحدث مع السوريين، وباسمهم، بخطاب واحد ولغة واحدة، والتعبير عن مطالبهم في التحكم بمصيرهم ومستقبلهم، ووقف التلاعب الدول والعواصم المتنازعة بمصيرهم”

فلم يعد يخفى على أحد أن سورية، بعد أن تم حسم موضوع بقاء الأسد ونظامه، وخسرت طهران وحلفاؤها الحرب، مقبلة على حقبة جديدة. وأن معظم الجهود الدولية والإقليمية أصبحت متركزة بصراحة، اليوم، على التفكير في مرحلة ما بعد الأسد، ومتمحورة حول وسائل مقاربتها وتقاسم الأدوار فيها، وأنه لم يعد لدى الأطراف شاغل سوى ترتيب أوراقها، وبلورة تفاهماتها، وحجز مواقعها في سورية الآتية، وأن الأعمال الحربية الجديدة نفسها التي تهدد طهران بتطويرها لصالح حماية الأسد من السقوط قد تحولت إلى وسيلة ابتزاز، للضغط على مفاوضات الحل، أو وسيلة للتموضع استباقا لها. وهذا هو أصلا أحد الدوافع الرئيسية لتنظيم المؤتمرات والاجتماعات التشاورية التي تحاول، من خلالها، بعض الأطراف، الدولية والإقليمية، أن تنتزع لنفسها موقعا في المعارضة، أو أجزاء منها، تعزيزا لدورها، وتوسيع هامش مناورتها الدبلوماسية، قبل بدء المفاوضات السياسية الرسمية المنتظرة.

بين صراعات الزعامة والإعداد للانتقال السياسي

في المقابل، لايزال التفكير في طبيعة هذه المرحلة الجديدة والإعداد لها بالكاد يبدأ في صفوف قوى المعارضة المسلحة والسياسية. ومن المحتمل، إذا لم ننجح في إدراك شروط الصراع فيها، والمهام التي يتوجب علينا القيام بها لمواجهة تحدياتها، أن يكون الشعب السوري، على الرغم من التضحيات غير المسبوقة التي قدمها، الخاسر الرئيسي فيها، وأن يحل تقسيم مناطق النفوذ بين الأطراف الإقليمية والدولية محل مشروع إعادة بناء الدولة السورية الجديدة، على قاعدة المبادئ والتطلعات التي ألهمت الشعب السوري ثورته وتضحياته غير المسبوقة، في الحرية والكرامة والسيادة، وأن يكرس التفاهم الدولي والإقليمي مبدأ تقاسم المصالح بين القوى الخارجية على حساب مصالح السوريين، ووحدة إرادتهم وأرضهم وإعادة بناء وطنهم المدمر، واستعادة سيطرتهم على مصيرهم ومستقبلهم.

إعداد المعارضة المسلحة والسياسية لمواجهة هذه الحقبة التي سوف يتوازى فيها التصعيد العسكري غير المسبوق والقتل الهمجي، كما تشير إليه مجازر النظام في الأيام الماضية، من دون أي رد فعل دولي، حتى ببيانات الإدانة، مع أوسع المناورات السياسية والدبلوماسية، لاستباق اختفاء الأسد من الساحة، والتي سوف يتقرر فيها مصير سورية وشعبها، وبالتالي، المشاركة في وضع أسس المرحلة الانتقالية ومؤسساتها، هو ما ينبغي أن يحدد طبيعة المؤتمر الجديد للمعارضة، والذي يشبه في بعض ملامحه مؤتمرها الجامع الأول الذي عقد في القاهرة في 4 يوليو/تموز 2012، والذي أجهضته تلك الأطراف التي رفضت أن تخرج منه أي لجنة تواصل أو متابعة.

لكن، بخلاف المؤتمرات التي دعت إليها، أو رعتها، أطراف دولية، لا ينبغي أن تقتصر أهداف هذا المؤتمر التركيبي، أو التجميعي، على تجديد وثائق المعارضة وتحديثها، ولا على إنشاء بدائل تحل محل التشكيلات القائمة، أو تتقاسم معها النفوذ داخل سورية وخارجها، ولا على إنشاء كيان أكثر تمثيلا أو فاعلية، ولا ترويج مبادرة سياسية أو رؤية خاصة، وإنما ينبغي أن تتركز على تطوير الرؤية، ووضع الخطط العملية، وتوزيع المهام على الأطراف المشاركة، وتنظيم صفوفها ومساعدتها على العمل تحت قيادة واحدة، أي إعدادها لمواجهة احتمالات تجدد الحرب مع مزيد من التورط الإيراني، أو انهيار النظام المفاجئ، أو تقدم داعش في مناطق المعارضة لحساب النظام، وإعداد الخطط للحيلولة دونها وبناء السلطة البديلة، لبنة لبنة، في إطار الحفاظ على وحدة الدولة وفاعلية المؤسسات والأمن والسلام الأهليين.

باختصار، المطلوب مؤتمر تستعيد فيه المعارضة السورية صدقيتها وفاعليتها وتمثيليتها في الوقت نفسه، إذ تكاد تفقدها جميعا، وهي تفقدها أكثر بمقدار تشتتها وتكرار مؤتمراتها وتشكيلاتها المتنافسة والمتنابذة والمتنازعة. ولن يعيدها الجمع الحسابي للقوى، ولا عدد المجتمعين، ولا البحث عن هويات واهية، يسعى، من خلالها، كل فريق إلى التركيز على أي نقطة اختلاف، حتى يبرر استقلاله بنفسه، وتشكيله قطبا إضافيا قائما بنفسه، ولا تشويه صورة الهويات أو التشكيلات المنافسة، ولا التسابق على كسب تأييد واعتراف الدول الصديقة أو الشقيقة، وإنما، بالعكس، تنمية روح الاتحاد والتفاهم، وتطوير آليات التشاور والتنسيق والتعاون والتكامل، ووضع قواعد ثابتة ومقبولة للتعامل بين الأطراف تساعدها على حل التناقضات وتجنب الانقسامات والمنازعات والعمل كقوة وطنية واحدة. ولتحقيق ذلك لا بد للمؤتمر المنشود من:

– أن يجمع الفاعلين، من عسكريين وسياسيين وناشطين مدنيين، أثبتوا في السنوات الماضية وجودهم بعملهم على الأرض، وفي كل الميادين، لا أن يكون تجميعا للموالين، كائناً من كان من يوالونه، شخصاً أم دولة أم حزبا.

 أن يكون هدفه الأول وضع أسس التعاون والتنسيق والعمل المشترك بين الفصائل، وتحديد مرجعيات هذا العمل ومعاييره، وبالتالي، أن يكون هدفه توحيد القيادة، لا أن يكون هدفه تبرير إقصاء الآخرين، أو تحويل فرض قيادة مؤتمر أو شخص أو فصيل على الجميع ودمجهم، بالقوة أو بالوهم، في بوتقته الواحدة.

“مطلوب من المعارضة السورية أن تبدأ، منذ الآن، التفكير ببناء نظام سورية البديل، والعمل عليه في كل خطوة وكل وثيقة وكل تحرك تقوم به”

 أن يعنى بالإعداد للمؤتمر، من الأول إلى الآخر، بما في ذلك تنظيمه وتحرير وثائقه وتحديد قوائم المدعوين إليه وتعيين أهدافه، لجنة تحضيرية من السوريين المخلصين والنائين بأنفسهم عن المناصب والنزاعات، من دون أن يستبعد ذلك التشاور والتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة المنخرطة في الصراع، إلى جانب المعارضة، بل بالتأكيد على ضرورتهما.

 أن يتم التحضير له عبر نقاشات موسعة مسبقة، تجمع بين الفاعلين السياسيين والعسكريين والناشطين المدنيين، بحيث يأتي تتويجا لتفاهم تم الاشتغال عليه، ويصبح جوهر نشاطه المصادقة، ربما مع تعديلات بسيطة، على الوثائق، وتثبيت الالتزامات المتبادلة، وتوزيع المهام المطلوب إنجازها، لتنفيذ خطة حسم الحرب وترحيل النظام القائم، أو ما تبقى من أنقاضه، ووضع النظام البديل.

 أن يزود بوثائق دقيقة ومفصلة ومرتبطة بالواقع، تعد بمشاركة خبراء في كل الميادين، تشمل الرؤية الوطنية لسورية المقبلة، وخطة العمل، والخطوات التنفيذية للانتقال من سورية التوحش إلى سورية المدنية والحضارة، دولة العدالة والكرامة والحرية والقانون.

لا ينبغي للمعارضة السورية أن تضيّع مزيدا من الوقت. فعلى الرغم من التصريحات الانتصارية الاستعراضية لطهران وحزب الله، لم يعد ممكناً لأي طرف، مهما فعل، أن يعيد إحياء نظام الأسد، أو المحافظة على بقائه. فقد تفككت دولته، وانهارت قواته العسكرية، ودب الخلاف داخل قياداته، وفقد جميع مقومات وجوده الأخلاقية والسياسية. ولن تغير القوات الجديدة التي أرسلتها طهران لتعزيز قوات النظام المنهارة في دمشق وحلب، وغيرها من المناطق، ولا الإعلان عن تقلد قاسم سليماني قيادة العمليات على كامل الأراضي السورية، من مصير الحرب، وإن مدّدت في أجلها أشهرا، أو ربما سنوات جديدة، وفاقمت من عمليات القتل والتدمير العشوائية للبلاد. فمصير كل أجهزة السيطرة الاستعمارية التهشيم والدمار. ولن يكون ذلك مستحيلاً على السوريين الذين واجهوا طهران في السنوات الأربع الماضية وحلفائها وهزموهم جميعا.

مطلوب من المعارضة السورية أن تبدأ، منذ الآن، التفكير ببناء نظام سورية البديل، والعمل عليه في كل خطوة وكل وثيقة وكل تحرك تقوم به. وهذه هي أوراق اعتمادها الوحيدة لدى السوريين، أعني تشكلها قوة منظمة قادرة على العمل المتسق والطويل المدى والهادف، بصرف النظر عن الأشخاص وألاعيب السياسة. آن الأوان للمعارضة السورية أن تنضج وتتحرر من هيجانات المراهقة السياسية وارتكاساتها.

العربي الجديد

 

 

 

فرصة للإصلاح/ ميشيل كيلو

يدوخ السوريون ويحارون في كل ما يتعلق بهوية الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ودوره. ويكثر الحديث، في كل اجتماع ومحفل، عن ضرورة إصلاح هذا الجسم السياسي الذي يتنطح لقيادة العمل الوطني السوري، لكنه يفتقر إلى المقومات التي تؤهله لذلك، ويقترف أخطاء صارت من لوازم وجوده، بدل أن يحرر السوريين منها، وينتهي به المطاف، في كل مرة، إلى “قيادةٍ” يتسم جهدها بالفردية والتخبط، بغض النظر عمن يتولاها. هناك بنية تحكم الائتلاف، حالت، إلى اليوم، بين من يقودونه وإقامة توازنات توحيدية فيه، تسمح بتوجيهه نحو إنجاز المهام الثورية والاستباقية التي تقوم بها عادة القيادة الثورية، لكي تلقى أعمالها قبولاً وطنياً عاماً، وتنسجم مع تطلعات الشعب، وتجتاز، بنجاح، المراحل التي يمر نضاله بها.

وعلى الرغم من محاولات لم تنقطع، قام بها معظم الذين انتموا إلى الائتلاف، أو عملوا في إطاره، وعلى الرغم من وعود بالإصلاح، قدمها كل من رشح نفسه لأي موقع قيادي فيه، فإن الفشل كان حليف الجميع، وحليف الأعضاء الذين قدم كثيرون منهم خططاً إصلاحية، طاول بعضها العمل الوطني برمته، واستهدف تفعيل الائتلاف جسماً معترفاً دوليا بتمثيله الشعب السوري، وحقه في أن ينال حريته، ويقيم نظاما سياسيا من اختياره. لم يقوّض هذا الفشل المتكرر، تماماً، فكرة إصلاح الائتلاف، سواء في ما يخص نظمه الإدارية وهيئاته، أو أساليب وطرق اتخاذ القرار فيه، أو نظرته إلى القضايا المطروحة عليه، وفي مقدمتها قضايا الثورة والصراع الدائر في سورية، الذي ترعاه أطراف متناقضة الأهداف والمصالح.

هل فشلت مشاريع الإصلاح لأنها اقتصرت على الإطار الداخلي الضيق للائتلاف، وإلى عدم طرحها خارجه: على الرأي العام الواسع، حيث يمكن لمطلب الإصلاح أن يصير شأناً وطنياً عاماً يتجاوز العدد المحدود لأعضائه، الغارقين في انقسامات وخلافاتٍ تدفع كل كتلة منهم إلى رفض ما يصدر عن الأطراف والكتل الأخرى من أفكار وخطط واقتراحات.

بسبب قصور الائتلاف وفوات سياساته، وما يشوبها دوما من نواقص وعيوب ، بدأت فصائل مقاتلة تبلور رؤية سياسية ووطنية عامة، ونشأت، شيئا فشيئاً، ظاهرة الفصائل العسكرية/ السياسية التي تتقارب وجهات نظرها، وتخلق أجواء عامة، يمكن أن تغدو حامل مشروع إصلاحي يفيد في تفعيل الائتلاف، إذا ما التقى توجهها مع سياسات “التجمع الوطني السوري”، بما يضمه من تيارات سياسات مختلفة: ديمقراطية وإسلامية، توافقت على عمل سياسي وطني الرهانات والممارسات، وقدمت مشاريع إصلاحية متعددة، واشتغلت بروحية التوافق وتجاوز التكتلات، ودعت إلى القيام بعمل منظم يخلو من العشوائية والتخبط…، ولكن من دون جدوى إلخ. من هنا، فإن لقاء التيار السياسي/ العسكري مع خط “التجمع” وجهوده يمكن أن يبني الحامل الوطني المطلوب لإصلاح الائتلاف، من دون أن يضر بطابعه التمثيلي، وباعتراف العالم به ممثلاً للشعب السوري، علما أنه سيسهم، بالتأكيد، في إخراجه من عجزه وركوده، ويحوله إلى مؤسسة عمل وطني، تقوم، أخيراً، بالمهام التي فشل في تحقيقها.

هل يلتقي هذان التياران في حاضنة وطنية، تضم عددا كبيرا من أعضاء الائتلاف، إلى جانب الفصائل المقاومة، فتتحد قوى الثورة بلقائهم، وتتوفر الحوامل المناسبة لإصلاح مؤسستها الرئيسة، ولاندراج خط المقاومة السياسي في حاضنة الوطنية الجامعة، بما في ذلك من خير للسوريين، وإنعاش لآمالهم في انتصار حريتهم، وتخطّ لمصاعب أنتجها تشتتهم وعجزهم عن إقامة حد أدنى من الوحدة بينهم، في مختلف مجالات نضالهم؟

العربي الجديد

 

 

 

من أجل مسيرة فكرية ناجحة/ كامل عباس

عكس السجال الحاد بين كوادر في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي وجود تعارض بين محددي البنى الحزبية: المنطق السياسي والقواعد التنظيمية الناظمة. حيث جنح المحدد الأول إلى فتح فضاء الحرية، باعتبار هدف الإعلان الرئيس، كما جاء في البيان التأسيسي، التغيير وإقامة نظام ديموقراطي، في حين قيد المحدد الثاني حق الكوادر في التحفظ على مواقف أو قرارات تتخذها المؤسسة أو تبني رؤى خارج الخط الرسمي.

واقع الحال إنها عقدة الأحزاب في المجتمعات النامية التي لم تتعمق فيها ثقافة الديموقراطية ولم يتكرس في ممارستها قبول حق الاختلاف، وعقبة أمام تطورها كأطر للعمل الجماعي. وقد استمرت فيها رغم إن القرن الواحد والعشرين قد شهد تقارباً بين فلسفتين كانتا قبله متباعدتين هما الماركسية والليبرالية، فتحت تأثير هاتين الفلسفتين انتشر في عصرنا المعولم تيار سياسي جديد واعد يمكن وصفه بـ»ليبرالي يساري». فالليبراليون، حتى التقليديون، أصبحوا يطالبون بقدر من العدالة الاجتماعية. الماركسيون من جهتهم تقدموا خطوات باتجاه الليبرالية فلسان حال غالبيتهم أصبح يعلن الديموقراطية السياسية ممراً إجبارياً للديموقراطية الاجتماعية.

وقد نُظر إلى إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي عند تأسيسه كحالة سياسية قريبة من روح العصر ونقلة على طريق القطع مع السلوكية التقليدية في أحزاب الدول النامية في ضوء توجهه السياسي، فقد صاغ مؤسسوه الأوائل، عرباً وكرداً وآشوريين، إسلاميين وقوميين وشيوعيين، وثيقته الأولى بروحية جديدة متميزة وواعدة مفرداتها:

– إقامة النظام الوطني الديموقراطي هو المدخل الأساس في مشروع التغيير والإصلاح السياسي. ويجب أن يكون سلميا وتدرجيا ومبنيا على التوافق، وقائما على الحوار والاعتراف بالآخر.

– ليس لأي حزب أو تيار حق الادعاء بدور استثنائي.

– بناء دولة حديثة، يقوم نظامها السياسي على عقد اجتماعي جديد ينتج عنه دستور ديموقراطي عصري يجعل المواطنة معيارا للانتماء، ويمنع عودة الاستبداد بأشكال جديدة.

غير أن هذه الرؤية السياسية المفعمة بالروح الديموقراطية الليبرالية عند مؤسسيه وكوادره لم يواكبها توجه مماثل على صعيد البنية التنظيمية. وقد تجلت هذه المفارقة مبكراً إن عبر اختيار المندوبين إلى مؤتمر المجلس الوطني يوم 1/12/2007، أو في النقاش الذي دار حول وثائق في هذا المؤتمر حيث عرضت بسرعة قياسية ولم تشهد نقاشاً معمقاً أو يجري تعديل عليها أو حتى رفضها، لحظة تذكر بالمناخات التي عرفتها الأحزاب الشمولية، الشيوعية خاصة، في مؤتمراتها. وإذا كان في الإمكان تفهم ما تم في المؤتمر على خلفية عقده في دمشق في ظروف أمنية ضاغطة فإن ما تم بعده من ممارسات جامدة ونمطية غير مفهوم أو مقبول لأنه قاد ويقود الإعلان إلى مآزق وانسداد أفق قاتل، فقد كشفت السجالات الأخيرة بين كوادر في الإعلان إن ثمة من يعتبر الجمود والنمطية ظاهرة صحية ويحتمي بالنظام الداخلي كي يبرر تقييد حرية الرأي والتفكير داخل اطر الإعلان وفي علاقات كوادر الإعلان مع القوى الأخرى أو مع أبناء المجتمع. أن يستمر الإعلان في العمل بهذه الروح حتى بعد انطلاق الثورة السورية فكارثة غير مقبولة أو معقولة! فإذا كان من الممكن قبول الإعلانيين كماركسيين على خلفية دعوتهم الى العدالة والمساواة عند توزيع الثروة الوطنية، فمن الصعب القبول بهم كلينينيين على خلفية تمسكهم النمطي بالمركزية الديموقراطية في مجال التنظيم حتى بعد ظهور مؤشرات على تفكك النظام الديكتاتوري الذي دفعهم إلى العمل تحت الأرض لفترات طويلة.

إن أي تنظيم أو تجمع تبقى قيادته ذاتها من دون أي تغيير ومن دون مؤتمر ثمان سنوات، والوضع مازال مستمراً، ستندفع، مهما كانت إرادتها طيبة ونواياها حسنة، نحو البيروقراطية، فكيف إذا كانت هي ذاتها قد تربت في أحزاب شمولية قاعدة عملها المركزية الديموقراطية وسياقاتها التي تقتل الروح وتحول العنصر إلى «حمار» وفق تعليق احدهم على نتائج انتمائه إلى حزب شمولي؟

ترى هل سيتمكن إعلان دمشق من تجاوز حالته الراهنة ويجسر الهوة بين محدديه ويقيم اتساقاً منطقياً في بنيته السياسية والتنظيمية ويحرر حركته من إرباك ترتب على هذا التعارض بينهما ويصبح ليبرالياً في السياسة والتنظيم أم انه سيذهب إلى مزيد من الجمود والغرق في نمطية قاتلة تقوده إلى موت سريري أو إلى انهيار درامي؟

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

خريطة الطريق السورية/ رياض نعسان أغا

قرأت باهتمام خريطة الطريق التي رسمها الإخوة المشاركون في مؤتمر القاهرة الذي انعقد في 8 و9 يونيو 2015 وتذكرت القول الشهير «اقرأ تفرح، جرب تحزن»، وهذا ليس تشاؤماً مني، فقد شاركت في المؤتمر الأول الذي انعقد في يناير 2015 في القاهرة وكان متابعة لبيان جنيف الذي امتلك شرعية دولية ولكنه لم يستطع أن ينجز شيئاً لأن النظام مصرٌّ على الاستمرار في القصف اليومي وارتكاب المجازر ضد المدنيين عبر البراميل التي جعلت حربه غير مكلفة! وهو غير مهتم بكل البيانات والنداءات السلمية والسياسية والإدانات الخجلى ضامناً أن المجتمع الدولي غير معني جدياً بالدفاع عن حقوق الإنسان السوري مهما تعرض للتعذيب والتهجير والتدمير وحتى الإبادة!

ولكنني أقدر أن المعارضة السياسية التي تدعو للحل السياسي وتخاطب المقتنعين به وحدهم، قد رفعت سقف مطالبها في مؤتمر القاهرة الأخير، وهو ما كان شبه غائم في المؤتمر الأول حيث لم تشر نقاطه العشر إلى موقع الرئاسة وتركته كما تركه بيان جنيف قابلاً للتفسيرات.. ففي خريطة الطريق الأخيرة نصٌّ واضح حول استحالة بقاء المنظومة الحاكمة ورئيسها في مستقبل سوريا، ولابد لي من أن أشير إلى أن موقف الخارجية المصرية عبّر أيضاً عن تطور في وضوح موقفها وتقييمها للأحداث عبر خطاب وزير الخارجية المصري في افتتاح المؤتمر، حيث قال «انطلق الحراك الشعبي السوري في مارس 2011، حراكاً سلمياً يتطلع للتغيير، إلا أن النهج الأمني العنيف، وعدم إدراك طبيعة المرحلة، أديا لازدياد حدة الاحتجاجات والمواجهات وسقوط الأبرياء، فتدهورت الأوضاع على مدار السنوات الأربع الماضية».

والمهم أن خريطة الطريق التي تبحث عن شريك تواجه صعوبة كبرى ولا تتجاهلها فهي ترى الحل عبر تفاوض مع وفد من النظام، وتقول «لا يمكن بدء العملية التفاوضية في ظل غياب أي قدر من الاتفاق بين أطراف التفاوض، وإقرار الطرفين منذ البدء على إجراءات وآليات مشتركة»، وهذا صحيح، ولكنه سيبدو غير واقعي، فمن المحال أن يشارك النظام في إجراءات رحيله! ولو توفرت عنده النية للرحيل الطوعي بهدف تجنيب البلاد حدوث انهيار أو فوضى لوفر على سوريا ما تعرضت له من دمار غير مسبوق، ولكنه أعلن أن حربه ضد معارضيه مستمرة إلى «آخر بشر وآخر حجر، وحتى إحراق البلد»! وخريطة الطريق التي تتوجه إلى المقتنعين بالحل السياسي لا تجيب عن سؤال مهم «وماذا إذا لم يستجب النظام للتفاوض حسب هذه الخريطة؟ ماذا سيفعل المقتنعون –أمثالي- بالحل السياسي؟». لن نجد غير قول أبي تمام الشهير «السيف أصدق إنباءً من الكتب»! وقد حدث ما كنا نخشاه ونحذر منه وصارت دماء السوريين أنهاراً.

وقد أصاب البيان حين حذر من خطر ظهور السيناريوهات الأشد ظلاماً، ولا توجد قوة ضاغطة تجبر الفريقين على الإعلان الفوري عن وقف الصراع أو تجميده، ولاسيما أن نصف مساحة سوريا يسيطر عليه «داعش» والنصف الباقي تتوزعه فصائل متعددة منها «النصرة»، وهؤلاء جميعاً غير معنيين بخريطة الطريق، والشعب السوري مهدد بجحيم أخطر قادم عبر تطور الصراعات الطائفية التي تتجلى اليوم في الصراع السني- الشيعي بسبب احتلال إيران و«حزب الله» لكثير من المناطق السورية. وأخشى أن الصراع سيتطور بقوة إلى «سُني- سني» فالفصل القادم هو فصل التصفيات الكبرى بين بقية الفصائل وهذا خطر كبير لابد من تجنبه.

إنني أثني على جهد المشاركين في مؤتمر القاهرة وعلى حسن مسعاهم، ولكنني أتوقع ألا تكون لهذه الخريطة فاعلية عملية وهي تحمل تناقضاً واضحاً بين استبعاد المنظومة الحاكمة والمطالبة «بتغيير جذري وشامل» وبين موافقة النظام وسيبقى الحل السياسي في المؤتمرات وحيداً بلا شريك حتى تنبت الأرض حملها.

الاتحاد

 

 

 

حتى لا نظلم اجتماع القاهرة/ بهية مارديني

كلمة حق ُيراد بها كل الحق حتى لانظلم اجتماع القاهرة للمعارضة السورية الذي نظمه معارضون سوريون برعاية المجلس المصري للشؤون الخارجية في 8 و9 الشهر الجاري ضمن الاشاعات التي واكبته ( كالعادة التي باتت دارجة، ابان كل مؤتمر للمعارضة السورية) كان ناجحا لعدة اسباب تصب في جوهر التوافق والاتفاق وبنود الوثيقة بصيغتها النهائية.

فجمع سقف أحمد الجربا وحسن عبد العظيم وهيثم مناع وعمار قربي وعارف دليلة وقاسم الخطيب وعبد الحميد درويش وصالح مسلم وحسين العودات وعبد المجيد منجونة و حبيب حداد وجمال سليمان وبشيرالسعدي……… اضافة الى القادة العسكريين اللواء عبد العزيز الشلال رئيس الشرطة العسكرية المنشق والعقيد هيثم عفيسي نائب رئيس هيئة الاركان والعميد أحمد شروف….جمع و اجماع كل هؤلاء على وثيقة واحدة بحد ذاته انجاز كبير ومهم.

نقاط النجاح باختصار تبرز لدى عدة محاور تبدأ من اتفاق كل هؤلاء ان لا دور لبشار الاسد في المرحلة القادمة ونية الاتفاق بين كل الاطراف التي حضرت، و مهما كان انتماءها، ان الشعب السوري واحد “عماده المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات دون تمييز بين أبنائه بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المذهب، المواطنة المرتكزة على أساس وفاق وطنيّ شامل “الدين فيه لله والوطن للجميع”، حيث لا يجوز لأحد فرض دينٍ أو اعتقادٍ على أحد، أو أن يمنع أحداً من حريّة اختيار عقيدته وممارستها”، والموافقة على اضافة اسم حزب الله الى الوثيقة والطلب الفوري الى جميع الدول والمجموعات والأفراد المسلحين من الأجانب الذين يقاتلون الى جانب النظام ( مثل حزب الله وفيلق القدس الايراني) وداعميهم أو ضده (مثل داعش وجبهة النصرة) وداعميهم مغادرة الأراضي السورية.

ولا بد من التذكير بأن الوثيقة شددت على بيان جنيف من خلال الفقرة التي تحدثت عن الحفاظ على الدولة السورية بكامل مؤسساتها من خلال تنفيذ “بيان جنيف” الصادر عن مجموعة العمل الدولية لأجل سورية بتاريخ 30 حزيران/يونيو 2012.

والحض على تشكيل “حكومة انتقالية” وتحديد مهامها، وتسمية أعضائها وتوزيع حقائبها، على أن تتمتع هذه الحكومة بكافة الصلاحيات التنفيذية المدنية والعسكرية الممنوحة لرئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء في الدستور الحالي، وذلك وفقاً لبيان جنيف.

كما لم يقدم اجتماع القاهرة أي تحالف بديل او كيان يمكن أن يشعر احد اطراف المعارضة السورية انه يهدده ولا يكمله، وكان واضحا من خلال الوثيقة والاجتماع تماهي المعارضة في الداخل والخارج ضمن نفس الاطار الجامع دون أن ننسى حضور 11 عضو من اعضاء الائتلاف الوطني.

والنقطة الرئيسية خلال انتظار اجتماع الرياض للمعارضة السورية ان اجتماع القاهرة كان مرحلة ضرورية وان السقف العربي الاقليمي المصري السعودي التركي القطري بات متقاربا على مرحلة انتقالية قادمة دون الأسد.

ايلاف

 

 

 

 

 

في ثقافة ارتداء الأقنعة/ غالية شاهين

تكثر الأقنعة محاولة إخفاء الحقائق، لكنه زمن سقوط الأقنعة.

خلال عقود مضت، اعتادت الشعوب العربية على تقبل أقنعة السياسيين والمثقفين والفنانين، كما اعتادت، هي نفسها، على تبديل وجوهها، حسب الهدف المقصود من الظهور.

ربما تكون أقنعة العامة بسيطة وسهلة الكشف عند أول محك، لكنها تتطور وتتعقد كلما ازدادت حنكة مرتديها، وكلما اقترب من دائرة “النخبة”، فأقنعة المثقفين والكتاب تكون أكثر حرفة، وقد يصعب كشفها وإزالتها إلا بالاقتراب كثيراً من حياتهم اليومية، أو التعامل معهم خارج منابرهم، حيث يمكن أن يتورطوا بالتفاصيل، فتسقط الأقنعة سهواً.

الأخطر، دائماً، هم السياسيون، لأن وجوههم المتعددة قد تكون أداتهم للعب بمصير المئات أو حتى الملايين، كما حصل في مناطق كثيرة من الوطن العربي، وكما حصل، وما زال يحصل، في سورية.

لم يُظهر النظام السوري، يوماً، وجهه الحقيقي للعالم، واستطاع إخفاء معالمه فترة طويلة، خلف أقنعة عدة، اختلفت باختلاف الظروف الإقليمية والدولية، لعل أبرزها وجه المحارب للعدو الإسرائيلي، والذي لبسه وألبسه للبلاد طويلاً، ثم راح يسوّق قناع النظام الديمقراطي، والذي لم يأخذ زمناً طويلاً ليسقط، داخلياً على الأقل.

ورث بشار الأسد البلاد، ليرث معها أقنعة والده. لكنه تفنن في صناعة وارتداء وجوه جديدة، مثل وجه الدولة العصرية المنفتحة والقابلة لتعدد الآراء بحريّة، ذلك القناع الذي أسقطه النظام عمداً في ربيع دمشق، ليكشف عن أنيابه الموروثة أيضاً، لكنه لم يلبث أن ارتدى وجه المقاومة والممانعة، ليكون حجة جديدة قديمة للقمع والتهميش والإفقار.

أجمل ما فعلته الثورة السورية هو إسقاط جميع الأقنعة وتحطيمها، لتظهر الوجوه الحقيقية للجميع وعلى جميع الأصعدة. أول التي سقطت بعد أقنعة النظام كانت أقنعة معارضته. فعلى الرغم من أن الشعب السوري كان “محكوماً بالأمل”، كما قال سعد الله ونوس، إلا أنه بعد الثورة لم يعد قادراً على تحمل الأقنعة من أحد، فأمهل بعضهم ليثبت إن كان يحمل وجهه الحقيقي أو المزيف، لكن المهل لم تكن طويلة، فتعرّى الجميع أمام معاناة الشعب العظيم، وإصراره على الاستمرار في ثورته.

لم تفهم بعض القوى “الثورية” الدرس بعد، وما زالت مصرة على أن تلبس أقنعتها المكشوفة للجميع، إلا لمن لا يزال ينظر في المرآة، ولا يرى غير نفسه، فيصدق مرآته ويزداد تمسكاً بقناعه.

ولأن الأقنعة ضرورة دولية وسياسية، فقد عُقدت لها كرنفالات أو مؤتمرات واجتماعات كثيرة، وشارك فيها كل من يساهم، ولو من بعيد، بصناعة الوجوه المزيفة، ويستخدمها ليحرك مصالحه في العالم. جديد هذه الكرنفالات، أقصد المؤتمرات، ولن يكون الأخير، مؤتمر القاهرة 2، والذي ينسق له صاحب القناع الأكثر زيفا، هيثم مناع، وتلة من الأقنعة لا الشخصيات. مهرجان حقيقي للوجوه المزيفة التي تخفي حقائقها المشوهة تحت أقنعة المعارضة الوطنية، لكنها أقنعة فضفاضة، لا تناسب قياس رؤوسهم الصغيرة.

ما يغيب عن أذهان هؤلاء، أن للشعب ذاكرة حية ليس من السهل محوها، فمن نسي، مثلاً، اتهام مناع المتظاهرين بأنهم مرتزقة يقومون بتمثيل المظاهرات لصالح الجهات المغرضة مقابل “سندويشة و200 ليرة سورية”، وهو الذي انقلب على الثورة منذ بدايتها؟ ومن منا نسي حسن عبد العظيم، الذي سوّق له النظام كمعارض وطني، يعمل تحت “سقف الوطن”؟ أو صالح مسلم، والذي مازال ينسق مع النظام عسكرياً، ويتقاسم معه المناطق في الحسكة؟ وأي قناع سيرتدي جهاد مقدسي، المتحدث السابق باسم وزارة خارجية النظام، والذي لم يعلن انشقاقه رسمياً حتى الآن؟ لن ينفع تعداد المؤتمرين، فكلهم على ذات الشاكلة أو أسوأ، وكلهم لبس أو أُلبس القناع المجهز له.

للمؤتمر قناع كبير يرتديه، ولكل من الحاضرين الذين يدّعون أنهم يمثلون الشعب السوري، وبنسبة 80%، حسب أحد التقارير المنشورة، قناعه المزيف.

أيها السادة، قد لا نطلب الكثير الآن، فقط ارحموا أنفسكم من حساب الشعب الذي سيطالكم يوماً.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى