صفحات العالم

أزمة سوريا أم أزمة نظامها السياسي


طارق عزيزة

كثرت في الآونة الأخيرة المبادرات والدعوات السياسيّة الرامية إلى إيجاد مخرج من الوضع الراهن في سوريا. مبادرة عربية لا ترتقي لمستوى طموحات الشارع الاحتجاجي، ولم يعترف بها النظام أو يوليها أيّ اهتمام، إلى حديث عن “أفكار” إيرانية يحاول الملالي من خلالها دعم حليفهم السوري وإخراجه من مأزقه سياسيّاً بعد أن دعموه بأشكال أخرى، ودعوة روسيّة للحوار بين السلطة والمعارضة للخروج من الأزمة، وأخرى صينيّة للقيام “بعمليّة سياسيّة شاملة” يقودها النظام، وقبل ذلك كله “النصائح” التركيّة التي قدّمها أردوغان لأصدقائه الذين خيّبوا أمله.

عدا عن المبادرات التي تطلقها بعض أطراف “المعارضة” في الداخل لإنهاء الأزمة عن طريق حل سياسي يكون النظام القائم جزءاً منه، من خلال تهيئة المناخ لحوار وطني حقيقي يفضي إلى حل. أي أنّه لا بدّ من الحوار ـ أو التفاوض ـ مع النظام للقيام بإصلاحات سياسيّة جادّة، والوصول إلى صيغة سياسيّة آمنة تنتقل بالبلاد من واقعها الحالي إلى نظام ديمقراطي تعدّدي. ما يعني افتراض إمكانيّة أن يقود هذا النظام، أو بعض رموزه، عملية الانتقال تلك، بما يرضي الشارع المتظاهر ويمهّد لحياة سياسيّة حقيقيّة.

وجهة نظر دعاة “الحوار والحل السياسي” وأصحاب تلك المبادرات والدعوات جميعاً، تنطلق من اعتقادهم بعدم إمكانية إسقاط النظام في الشارع بالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية. وحتّى عندما يقرّ البعض بهذا الاحتمال فإنّه يفترض سلفاً أنّ ما سينجم عنه حتماً هو الفوضى والانفلات الأمني، وصولاً إلى الاقتتال الطائفي والحرب الأهلية، ما يقتضي بالتالي العودة إلى مسألة إيجاد المَخرج السياسي.

محصلة ما تقدّم هي بلا أدنى شك تعدّ حالة من القفز على تضحيات السوريين والالتفاف على انتفاضتهم الشعبيّة ومطلبها الأساسي برحيل النظام.

النظام الذي لم يعد له واقعيّاً أي مستقبل سياسي بعد كل هذا الدم الذي سال. ذلك أنّه لو قيّمنا مضمون ونتائج الرواية الرسمية حول “الجماعات المسلّحة الإرهابيّة، والإمارات السلفيّة، والمؤامرة الخارجية لتقسيم البلاد” فذلك يعني أنّ النظام الحالي قد أثبت فشله في حماية البلاد من ذلك كله، وما سقوط الآلاف من السوريين، مدنيين وعسكريين، بين قتيل وجريح، إلا دليل دامغ على هذا الفشل.

ثم تبعه الفشل مرّة ثانية عندما لم يفلح في إخراج البلاد من تلك الحالة على امتداد الأشهر الماضية، الأمر الذي أدّى إلى تدهور الوضع الاقتصادي، كما فتح الباب واسعاً “للتدخّلات الخارجيّة” والتي هي بحسب الرواية الرسميّة نفسها “جزء من المؤامرة”، التي لم يستطع حماية مواطنيه الأبرياء منها. ما يعني أنّه لم يعد مؤهلاً لحكم البلاد.

لو انتقلنا إلى الرواية المقابلة التي ترى أنّ ما يحصل عبارة عن انتفاضة شعبية سلميّة، أتت في سياق ربيع الثورات العربية، المطالبة بالحرّية والكرامة وإنهاء الاستبداد وبناء نظام ديمقراطيّ عصريّ، وبالتالي تحميل النظام القمعي وأجهزته الأمنية المسؤولية المباشرة عن سفك الدماء وقتل الأبرياء، في محاولته للقضاء على الانتفاضة. تكون النتيجة المنطقيّة أنّه لا مستقبل لنظام يقتل شعبه.

ولمّا كان سلوك النظام على الأرض هو الإمعان أكثر فأكثر في استخدام العنف والقوّة المفرطة من قتل واعتقال وتعذيب واجتياح المدن والقرى لقمع المحتجّين، فإن كل حديث معه في السياسة يغدو مضيعة للوقت، أيّاً يكن المتحدث، من الداخل أو الخارج. وإذا كان ثمّة مأزق أو أزمة وسعي للخروج منهما، فهما أزمة النظام ومأزقه، الذين بدأا مع انطلاق شرارة الاحتجاجات في سوريا في منتصف آذار/مارس الفائت معلنةً تدشين الربيع السوريّ.

التاريخ ذاته أعلن بدء الخروج من الأزمة الوطنية العامة في سوريا، والتي تمتد إلى ما قبل 15/3/2011 بعقود طويلة، هي عقود حكم الحزب الواحد والقمع والتسلّط الأمني والفساد والإفساد الممنهج. فهي محصلة ونتيجة لأزمات متراكمة وصلت إلى درجة لم يعد هناك أمام السوريين من بدّ سوى أن يأخذوا زمام أمورهم بأيديهم، وينزلوا إلى الشوارع ليقولوا لهذا الاستبداد: كفى.

إذاً نحن أمام بوادر حل الأزمة الوطنية المتمثّلة بنظام الاستبداد، والعبور إلى مستقبل سوريا الجديدة، وبداية أزمة النظام الحقيقيّة. والتي قد تفضي إلى إنهاءه، بعد أن أثبتت عدم صلاحيته.

وإذا كان بعض جهابذة النظام يعتقدون أنّهم يستطيعون القضاء على الانتفاضة الشعبيّة بممارساتهم القمعية، مستحضرين من جعبتهم الأمنية والعسكرية خبراتهم وتجاربهم في قمع التمرد المسلح الذي قامت به جماعة الإخوان المسلمين أواخر السبعينات وانتهى مطلع الثمانينات من القرن الماضي، فلا شكّ أن قراءتهم للواقع تنقصها الدقّة. ذلك أنّ المقارنة لا تصلح مطلقاً بين ما جرى آنذاك وما تشهده سوريا اليوم.

شتّان بين ما فعله حزب ديني طائفي رفع السلاح لمقاتلة السلطة قبل ثلاثة عقود، وقدّم بسلوكه الأرعن ذريعة للسلطة استخدمتها للقضاء على الحياة السياسيّة في البلاد، وبين التظاهرات السلمية وأشكال النضال السلمي الأخرى التي يبتدعها اليوم الشباب السوريون، المنتمون لمختلف مكونات المجتمع السوري وأطيافه، يهتفون بوحدة الشعب السوري، ويصرّون على سلمية ثورته من أجل الحرية.

إلاّ أنّ انجرار قلّة من المحتجّين إلى العنف كردّ فعل على ممارسات النظام، أو حتّى من باب الدفاع عن النفس أمام حالات الاجتياح العسكري الذي يقوم به في المناطق المنتفضة غير عابئٍ بأبسط القواعد الإنسانيّة المتعلّقة بتحييد الأطفال والنساء. بالإضافة إلى ارتفاع الأصوات الداعية إلى “الكفاح المسلح”، تشكّل الخطر الأكبر الذي يتهدد الانتفاضة الشعبية، لأنّ العنف هو الملعب الوحيد الذي قد ينتصر فيه النظام المفلس أخلاقيّاً وسياسيّاً. لا بدّ إذاً من الإصرار على سلميّة الانتفاضة حتّى النهاية، للحفاظ على تفوّقها الأخلاقي، وقطع طريق الانزلاق نحو المجهول الذي يسبّبه الانجرار للعنف.

رغم وعورة الطريق، يجب أن يبقى رهان الشعب السوريّ على سلميّة انتفاضته ووطنيّتها، لأنّ ما لم يفهمه أهل السلطة حتّى الآن، أنّهم يستطيعون بالسلاح القضاء على تنظيم مسلّح كما فعلوا في الماضي، لكنّ السلاح لا يمكنه أن يكسر إرادة شعب اختار طريق الاحتجاج والتظاهر السلمي لنيل حرّيته واستعادة كرامته وبناء دولته الديمقراطيّة المنشودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى