صفحات الرأي

أسئلة الربيع العربيّ في مواجهة إجابات الخريف

 حازم أحمد

كثر الحديث داخل النخبة الثقافية العربية، وفي دوائر البحث واتخاذ القرار حول العالم، عن حقيقة “الربيع العربيّ”: أهو ثوراتٌ لم تكتمل، أم انقلاباتٌ لم يفصحْ أصحابُها بعد عن نواياهم، أم حروبٌ أهليّة، أم مؤامراتٌ خارجيّة، أم مجرّدُ تصدّعات موضوعيّة أصابت قديمًا لم يعد يعبّر عن واقع قابل للحياة، أم هو جديدٌ لم تتشكّل ملامحه بعد؟ لكنّ الكلّ يكاد يجمع على أنّ المنطقة تعْبر حاليّاً مرحلة تحوّلات قد تنتهي ببناء منظومة إقليميّة جديدة، وإن اختلفوا على مآلات هذا الجديد، وطبيعة علاقته بالقديم: أ) فالبعض يراه بديلاً مفارقًا للقديم، ب) والبعض الآخر يخشى أن تنتهي التحوّلاتٌ إلى مجرّد عمليّة “زرع أعضاء” تسمح للجسدين الثقافيّ والسياسيّ القديمين بمواصلة الحياة بلا تغيّر يُذكَر في طبيعة وظائفهما، أو قد تنتهي بانهيار “الدول” التي قامت على أنقاض الخلافة العثمانية أو بانسحابها لمصلحة دولٍ أخرى تعبّر عن توازناتٍ محليّة وإقليميّة ودوليّة لم تنتهِ بعدُ من رسم خرائط طموحاتها غير المعلنة.

في مواجهة أسئلة التحوّلات والمآلات هذه، تحوّلتْ مصر فى أعقاب 25 يناير، ومعها كلُّ مجتمعات الربيع العربيّ بدرجات متفاوتة، إلى ما يشبه برج بابل سياسيّاً وثقافيّاً. فقد تمّ التوسّعُ فى توظيف التيّارات المختلفة لمصطلحاتٍ حداثيّة وما بعد حداثيّة لا تعبّر بالضرورة عن مفاهيم يتفق الجميعُ على تعريفها الإجرائىّ: كالدولة الحديثة، والدولة الدستوريّة، والإرادة الشعبيّة، والديمقراطيّة، والليبراليّة، والعلمانيّة. وتمادى البعض في تقديم أطر ذهنيّة ملفقة تُعلي من شأن بعض التيّارات الثقافية والسياسية وتزري بتيّارات أخرى.

يرتبط بسؤال اللغة والتصوّرات هذا سؤالُ الهويّة الذي ظلّ يؤرّق الدولة المصريّة الحديثة منذ عهد مؤسِّسها محمد علي مع بدايات القرن التاسع عشر. فقد كان يريد بناء دولة عصريّة لم ينجحْ من تتابعوا على بنائها في حلّ تناقضاتها مع مفاهيم دولة الخلافة التي كانت مصرُ ما تزال ولايةً تابعةً لها قانونيّاً ورمزيّاً على الأقلّ. وعاد سؤال الهوية هذا مرة أخرى إلى الظهور في عهد الخديوي إسماعيل الذي أراد لمصر أن تلحق بالدول الأوروبيّة، ثم في ظلّ ثورة 1919 وما زامنها من توجّهات ليبراليّة صاحبتْ صدورَ دستور 1923. ثم عاد سؤالُ الهويّة بقوة مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين وما سبقها ولحقها من جماعات سلفيّة تتشبّث بخيار دولة الخلافة، الذي اصطدم بخيارات حركة التنوير المصريّة التي كانت ترى (حتى على مستوى بعض شيوخ الأزهر) عدم صحة اعتبار الخلافة شعيرة دينيّة؛ كما اصطدم بخيارات حركات كثيرة قامت فى الربع الثاني من القرن العشرين، تتراوح بين التطرف والاعتدال، وتعبّر عن حساسيّات مسيحيّة أو فرعونيّة أو متوسطيّة أو يساريّة.

كلّ هذه التيّارات التي تنازعتْ سؤال الهويّة المصرية تآكلتْ مع الزمن إلى حدّ بعيد، عدا تيّار الانتماء إلى دولة الخلافة، الذي صار يُعرف بتيّار الإسلام السياسيّ، سواء عبَّر عن نفسه بشكل صريح مثل الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، أو ضمنيّ فى صورة عمل دينيّ ودعويّ لا يُظهر وجهه السياسيّ الحقيقيّ الذى انكشف بقوة بُعَيْد 25 يناير، وتحديدًا بعد خلع الرئيس السابق في الحادي عشر من فبراير 2011. وقد نجحتْ جماعات الإسلام السياسيّ فى تسيّد المشهد السياسيّ بفضل أدواتٍ إعلاميّة وقدراتٍ ماليّة وجاهزيّةٍ تنظيميّة تعاظمتْ على امتداد أربعة عقود بفعل عوامل وتغيّرات وتوازنات محليّة وإقليميّة وعالميّة لم تكن مواتية للتيارات الأخرى بالقدر نفسه.

يظلّ تيّار الإسلام السياسيّ، إذن، هو الطرف الصعب في معادلة الهويّة المصريّة منذ عهد محمد عليّ: فعلى حين لم يستبعد أيٌّ من التيارات الأخرى المكوِّنَ الإسلاميَّ من معادلة الهويّة المذكورة، نجد أنّ تيّار الإسلام السياسيّ قد وقف دومًا موقفَ الخصومة من غيره من التيّارات، منحازًا إلى فكرة هويّة مصر الإسلاميّة التي يراها نقيّة لا يجوز “تدنيسُها” بأيّة مكوّنات أخرى قديمةٍ أو مستحدثة، وإنْ كانت هذه المكوّناتُ مستخلصةً من ميراث المصريين الحضاريّ عبر آلاف السنين!

وفي الوقت الذي نشط فيه مشروعُ إحياء نظام الخلافة، نجد قدرة التأثير لدى التيّارات الفكريّة والسياسيّة الأخرى قد ضمرت، الأمر الذي يترك سؤال الهوية مفتوحًا على أحد احتمالين: 1) أن تنجح موجةُ الإسلام السياسيّ هذه في تحييد كلّ حوائط الصدّ التي تعترض طريقها، فتعملَ كلُّ التيارات المنافسة على استرضائها طلبًا للسلامة أو يأسًا من المقاومة، ومن ثم يحدث تحوّلٌ هائلٌ في الهويّة الثقافيّة للشعب المصري، وفي الهويّة السياسيّة للدولة المصريّة، سيكون كلاهما في الغالب غير قابل للانعكاس في المستقبل؛ 2) أن تظهر قوة ثقافيّة وسياسيّة جديدة، غير القوى الخائرة الموجودة على الساحة الآن، وأن تنجح في استقطاب الكتلة الصامتة والحائرة في المجتمع المصريّ، وهي كتلة لا تكاد تضع ثقتها في أيّ من الفاعلين الذين يتزاحمون نجومًا على المشهدين الثقافيّ والسياسيّ اليوم، وأن تنجح فى قيادتها لتكوين كتلة فاعلة تعيد معادلة الهويّة المصريّة إلى توازناتها الحضاريّة.

ترتبط إجابات “سؤال الهويّة” بإجابة سؤال التنوّع والتعدديّة، الذى صار ملحّاً فى مرحلة الاستقطابات الحادّة التي تكاد تسم مناخ الربيع العربيّ بأكمله. إذ لو انتصرتْ إجاباتُ سؤال الهويّة المنحازة إلى فكرة الهويّة الإسلاميّة “الخالصة” لكان هذا بمثابة حكم على عناصر التنوّع فى المجتمع بالاختفاء؛ أما انتصار فكرة الهويّات المركّبة من عناصر قديمة ومستحدثة ساهمت جميعها فى تشكيل الهويات الوطنية، فيعني انتصارَ خيار التعدديّة الثقافيّة والسياسيّة على خيار الأحاديّة، ومن ثم الحفاظ على التنوع الثقافيّ والسياسيّ، بما ينفي عن مشروع إحياء دولة الخلافة منطقَ وجوده أصلاً. وقد يكون هذا من أصعب ما في معضلات باقي دول الربيع العربيّ فى مقبل الأيام، ونعني به المواجهة مع معطيات مشروع دولة الخلافة الشموليّ هذا بلا مجاملات أو مهادنات.

وإذ لا تنفصل خريطةُ الانتماءات الثقافيّة والسياسيّة في أيّ مجتمع عن خريطة المصالح والتوقّعات التي تتشكل فى أذهان المنتمين إلى هذا التيّار أو ذاك، فإنّ أيّ فعل ثقافيّ أو سياسيّ ينفصل عن الواقع وظروف المعيشة السائدة إنما هو فعل محكوم عليه بالفشل. وإذا كان التلازم بين الخريطتين قاعدةً عامّةً فى كلّ زمان ومكان، فإنه يكتسب اليوم أهميّة استثنائيّة: ذلك أنّ جملة التحولات التي حدثتْ خلال العقود الماضية قد تلازمتْ مع اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتزايدِ معدلات البطالة، وانزلاق أعداد أكبر من المواطنين إلى ما دون خط الفقر؛ كما تلازمتْ مع تضخّم القدرات الماليّة لجماعاتٍ ترتبط بشبكة مصالح دينيّة أو سياسيّة واقتصاديّة كونتها الأنظمةُ الحاكمةُ على مدى عقود، حتى تمكّنتْ تلك الجماعاتُ من ترسيخ نفوذها، ما خلق منظومة حياتيّةً جديدةً ربطتْ توقّعاتِ الناس المستقبليّة بمدى اقترابهم أو ابتعادهم عنها. وإذا كان هذا الارتباط قد تأسّس قبل “الربيع العربيّ،” فإنّ ما استشعرتْه الجماهيرُ من بطء الاستجابة لمتطلّبات التغيير، بل واختفاء أيّ أثر لسياسات اقتصاديّة واجتماعيّة يغيّر خرائطَ تلك التوقعات، جعلا هذه الأخيرة تنحاز إلى فكرة تأييد التيّارات التي نجحتْ بمواردها، أو بموارد حلفائها، في الإيحاء بقدرتها على بناء شبكة إنقاذ اجتماعيّ واقتصاديّ، وإنْ قامت هذه القدرةُ على وهم عابر لا على حقيقة راسخة لها طاقةُ الاستدامة. ومن ثم فإنّ تغيير خريطة الانتماءات القائمة يرتبط بقدرة الفاعلين السياسيين والثقافيين على كسر منطق الارتباط الوهميّ القائم بين شبكة المصالح القائمة وبين التوقّعات المستقبليّة المعبّرة عن مصالح المواطنين الحقيقيّة والمستدامة.

بالتلازم مع سؤال المصالح والتوقّعات، يطفو بالضرورة سؤالُ الديمقراطيّة على سطح الحياة السياسيّة بعد تنحية الأنظمة القديمة، وما صحب ذلك من سقوط أحزابٍ أفسدت الانتخاباتِ البرلمانيّة والرئاسيّة في كلّ دول الربيع العربيّ بلا استثناء، حتى تحوّلتْ هذه الانتخابات إلى مجرّد “ديكور ديمقراطيّ” على مسرح حياة سياسيّة استبداديّة بامتياز. لكنّ الملاحَظ هو أنّ حديث الديمقراطيّة “وقت الربيع” يكاد لا يختلف عن حديثها “وقت الخريف” إلا في التفاصيل، أو في شخص التيّار المستفيد من تسخير الانتخابات لخدمة مشروعه الاستبداديّ: فمازال تفصيلُ العملية الانتخابيّة، والنصوص الدستورية، لتحقيق مصالح بعض الحركات السياسيّة، قائمًا؛ ومازالت عربدةُ المال على مسرح الحياة السياسيّة قائمة دون ضابط؛ ومازال توظيفُ المرجعيّات غير السياسيّة في حصد أصوات الناخبين هو القاعدة.

قد يكون مفيدًا في هذا الشأن تدقيقُ النظر فى التجربة التاريخيّة المصريّة منذ تأسيس الدولة المصريّة الحديثة في عهد محمد علي. فمنذ بدء العمل بالنظام النيابيّ في مصر، مع نهاية الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، توفّر لمصر مناخٌ معقولٌ يسمح بقدرٍ من التنوّع والتعدديّة، من دون تمثّل جوهر الثقافة الديمقراطيّة، وبقيت اللعبة الانتخابيّة داخل حدود “الآليّات،” خاليةً من أيّ محتوى قيميّ أو مؤسّسىّ يؤسّس لواقع ديمقراطيّ حقيقيّ:

فما زالت فكرة “الحاكميّة للشعب” مستهجنةً في مجتمع يخلط بين الحاكميّة بمفهومها الدينيّ والحاكميّة بمفهومها السياسيّ. وما زالت فكرة الدستور تعاني الخلط بين الكتب المقدّسة، باعتبارها مرجعيّات حاكمة لأتباع الديانات المختلفة، وبين الدستور، باعتباره مرجعيّة التشريع لعموم المواطنين. وما زالت الإرادة الشعبيّة منقوصة بفعل ارتفاع نسبة الأمّيّة الهجائيّة، فضلاً عن تدهور منظومة التعليم والمنظومتين الثقافيّة والإعلاميّة. وما زال المواطن – تحت وطأة الحاجة وانتشار البطالة وتدنّي الأجور وانخفاض مستويات المعيشة وعجز شبكات الضمان الاجتماعيّ – أسيرَ لقمة العيش التي تبقيه رهينة سياسيّة لصاحب مفاتيح أبواب الرزق.

البدء في عمليّة انتخابيّة من دون توافر شروط الحياة الديمقراطيّة، وأهمُّها تحرّر الإرادة الشعبيّة من سلطان الجهل وسلطان لقمة العيش، معناه استمرار النظام الاستبداديّ تحت غطاء ديمقراطيّ سطحيّ. بل ربما أدّت قشرةُ الديمقراطيّة هذه إلى مزيد من تدهور الأوضاع السياسيّة نتيجةً لمقايضة الصوت الانتخابيّ بلقمة عيشٍ تسدّ رمقَ يومٍ أو بعضِ يوم، أو مقابل سهمٍ في جنّةٍ موعودةٍ يتوق إليها بسطاءُ لم يتعوّدوا التمييزَ بين ما هو دينيٌّ وما هو زمنيّ، ولا بين ما هو إلهيٌّ وما هو إنسانيّ ينتحل سلطة إلهيّة. وجميعُها أحوالٌ تهدِّد بالانزلاق إلى “ديمقراطيّة” انتخابات المرة الواحدة، وهو ما لاحت بوادرُه في مصر بتمسّك تيارات الإسلام السياسيّ بشرعيّة استفتاء المرّة الواحدة حتى حين لا توجد علاقةٌ بين الموضوع المطروح للنقاش وموضوع الاستفتاء!

سؤال “الحاكميّة” وسؤال “الديمقراطيّة” يقودان إلى سؤال الشرعيّة، وهو أصعبُ ما يواجه الدولَ والمجتمعات في لحظات التحول التاريخيّ. فهناك من يرى أنّ الدولة تستمدّ شرعيّة نظامها السياسيّ من رضاء الله والعمل بحُكمه متمثّلاً في الشريعة، وهى مقولة يصْعب دحضُها في مجتمع يحتلّ فيه الدينُ مساحةً كبيرةً من الضمير الجمعيّ، بل ومن العقل الجمعيّ أيضًا. لكنّ فكرة حاكميّة الله، رغم وجاهتها، تصطدم بفكرة إرادة الإنسان الحرّة، التي تتحوّل على المستوى الجمعيّ إلى إرادة شعبيّة حرة، ومن ثم تتعارض مع فكرة أن تستمدّ الدولةُ شرعيّة نظامها السياسيّ من إرادة الشعب ــ وهذا هو جوهر الديمقراطيّة التي يرى كثيرون (ومنهم أنصارُ فكرة الحاكميّة الإلهيّة) أنها النظام الذي يُحتكَم إليه في إثبات الشرعيّة! ثم هناك من يرى أن الشرعية لا يستمدّها النظامُ السياسيّ إلا من قدرته على الوفاء بمتطلّبات الشعب الماديّة والمعنويّة. وهناك من يرى أنّ الشرعيّة، خاصةً في مرحلة التحولات، إنّما يستمدّها النظامُ السياسيّ من قدرته على قراءة الأمر الواقع، وعلى ترويضه وتوجيهه، وعلى فرض الأمن وإفشاء السلام بين الناس.

سؤال الشرعيّة هذا صار سؤالاً ملحّاً في مصر على وجه الخصوص، وقد يكون هو المحدِّدَ لمستقبلها لأعوام طويلة قادمة. ويبدو أنه قد استقرّ من عادات المصريين وتقاليد حياتهم السياسيّة ألاّ يقبلوا فكرة التعايش بين الشرعيّات؛ فهم يرون ـ وربما معهم كلُّ دول الربيع العربيّ ـ أنّ الشرعيّة الجديدة لا بدّ لها “بالتعريف” أن تجبَّ ما سبقها من شرعيّات:

فقد اعتَبرتْ ثورةُ 1919 أنها أسّستْ لشرعيّة جديدة تجبّ شرعيّة العائلة العلويّة، وهو ما كان يقف دومًا وراء الأزمة شبه الدائمة بين الوفد والسراي على مدى ثلاثة عقود. ثم جاءت شرعيّةُ يوليو لتنهي شرعيّة ثورة 1919، أو هكذا أراد نظامُ يوليو للشرعيتين أن تجبّ إحداهما الأخرى. ثم اعتقد السادات لاحقًا، مع تأسيسه لما يُسَمَّى “شرعيّة أكتوبر،” أنه يضع حدّاً ـ ولو بشكل جزئيّ ـ لشرعيّة يوليو التي انتسبتْ إلى جمال عبد الناصر. وأخيرًا اعتبر قطاعٌ من المشاركين في ثورة يناير أنها قد أسّستْ لشرعيّة جديدة تجبّ شرعيّتيْ يوليو وأكتوبر مجتمعتين، وهو ما يفسّر جزءًا كبيرًا من الأزمة القائمة بين المجلس العسكريّ الحاكم في مصر وبين ثوّار يناير، أو من يتحدثون عن أنفسهم بهذه الصفة؛ كما يفسّر ما يحدث من صدام بين ميدان التحرير وغيره من ميادين صارت ترمز إلى “تصادم” أو “تنازع” الشرعيّات في مصر!

تنازعُ الشرعيّات هذا لا بدّ أن ينتهي إلى شرعيّة جديدة، يرجّح أن تكون شرعيّة تعدديّة لم تنجح القوى السياسيّة القائمة، ولا القائمون على حكم البلاد، في صياغتها حتى هذه اللحظة؛ وليس من المتصوّر أن تتقدّم الحياة السياسيّة في مصر، ولا في غيرها من دول المنطقة، قبل الانتهاء من هذه الصياغة. ويزيد الأزمة تعقيدًا دخول القوى السلفيّة (بما فيها الإخوان) في محاولة لتأسيس شرعيّة جديدة يستمدها النظامُ السياسيّ من مرجعيات محض دينيّة تؤسس لفكرة إحياء دولة الخلافة على أساس الكتاب والسنّة. ومن ثم فإنّ مصر تعيش مرحلة “تصادم الشرعيّات،” وهو تصادمٌ مكتومٌ في مجمله حتى هذه اللحظة، لكنه ينذر بنشوب حرب أهليّة إذا لم يتم حسمُه بحكمةٍ تبدو مفقودةً حتى الآن.

هذه الحكمة المفقودة تثير سؤالَ الدولة، الذي نعتقد أنه السؤال الجامع لكلّ ما سبق من أسئلة. لكنْ ينبغي التمييز بين الدولة، وبين المؤسّسات والأجهزة التي تعبّر عن وجودها وتنفّذ إرادتها؛ إذ تبدو الدولة الحديثة التي تأسستْ مع الاستقلال، أو قبل ذلك مثلما هو الحال مع دولة محمد علي في مصر، وقد استنفدتْ أغراضها، إنْ لم تكن قد فشلتْ تمامًا في تحقيقها. ولقد وضع المدُّ الثوريّ الدولة “الحديثة” في مواجهة أسئلة الربيع، التي تهَرَّب الخريفُ دومًا من مواجهتها، وذلك بإطلاقه ستارةَ دخانٍ من الإجابات الزائفة، حتى صارت هذه الستارة تضلّل الحاكم بقدر ما تخفي الحقيقة عن المحكوم؛ وهى اليوم تكاد تكون عاجزة عن المبادءة، بل عن القدرة على ردّ الفعل.

الشئ المؤكد الآن هو أنّ مؤسسات الدولة القائمة قد صارت حائرةً بين الشكل القديم للدولة، وبين شكل جديد يبدو غامضًا في أذهان المؤسّسات التي أفسدتها سياساتُ عقودٍ من التفكيك والترويض لخدمة مشاريع توريث جموحةٍ أودت بقدرة هذه المؤسسات على الاضطلاع بمهمة بناء المستقبل. ومن المؤكّد أيضًا أنه قد صار لزامًا إعادةُ هندسة جميع مؤسّسات الدولة، في مرحلة أصيبت فيها الدولة بالهشاشة في مواجهة مشاريع تستهدف وجودها لمصلحة إقامة دولٍ بديلةٍ جميعُها يصبّ في نهر الدولة الدينيّة وإذا لم ينجح القائمون على أمر الدولة في قراءة خرائط المعركتين الثقافيّة والسياسيّة التي تخوضها الدولة في صمت لمواجهة مصيرها، فإنّ انهيار الدولة قد يكون حتميّاً، إما بسبب اضطرابات داخليّة خارج حدود السيطرة، أو بسبب حروب خارجيّة ليست مؤسّساتُ الدولة الفاسدة مستعدةً لها، أو للسببين معًا.

الآداب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى