صفحات الرأي

أسئلة في المسكوت عنه


بشير عيسى

لقد دشنت العولمة عصرا جديدا من إعادة تشكيل الهويات الوطنية وتغييرها، وذلك نظراً لكثافة وحدة المتغيرات الديموغرافية والمعرفية، التي قامت على أعقاب ثورة النقل والاتصال والمعلومات، وما رافقها من زيادة مشاريع الاستثمار العابر للقارات الأمر الذي زاد في انضغاط المجتمعات البشرية، بعد أن ساهم الفضاء الالكتروني المرئي والمكتوب في تقريب المساحات بين الثقافات المحلية والعالمية، محتماً عليها المغامرة في فهم ثقافة الآخر بغرض التواصل أو للدفاع عن الخصوصية أو كلا الأمرين.

متغيّر أوجد ثقافات هجينة، بعيدة عن العرق والدين وأقرب إلى الإنسان والحداثة. أمام هذا الواقع المتغيّر كان على الأفكار العابرة للدول القومية والوطنية، أن تعيد صياغة استراتيجياتها بما يتواءم وروح العصر، حيث يتحول المطلق إلى نسبيّ، ما شكّل تحدياً حقيقياً للديانات الكبرى، القائمة على احتكار الحقيقة، فكان لزاماً عليها إعادة صياغة خطابها الإيديولوجي، بحيث يمكنها من امتصاص التحديات المصيرية التي تواجهها، دون أن يفقدها ذلك خصوصيتها. من هنا كانت الدعوات مستمرّة لإنجاح حوار الأديان والخروج بصيغ توافقية، يرضى عنها كل الأطراف، لاسيما داخل الدين الواحد، حيث ما تزال الرؤية الطائفية المالكة للدين هي المهيمنة، بدلاً أن يكون الدين لكل طوائفه، وهو مازال متعذراً حتى الآن.

نظراً للطبيعة المعتقدية القائمة على حقائق لاهوتية ما فوق إنسانية، مما يجعل إنهاء الخلاف بين مكوناتها استحالة، كونه يتطلب تنازلاً متبادلاً، وهو ما يفقدها مطلقها المتمثل بالحقّ. لذلك تعمد إلى المهادنة والمساكنة كل حين، فتشدّد على المشترك وتحيّد الخلافيّ. بانتظار وضع أفضل يُمكّنها من فرض رؤيتها، عندها يخرج المسكوت عنه إلى حيّز العلن، بعد أن سمح له الممكن بذلك. حقيقة تحدث عنها أبو بكر الرازي في معرض تشكيكه حول حقيقة المصدر الجامع لكل الأنبياء، حين يقول “إذا كان المصدر واحدا، فلماذا هذا الخلاف فيما بينهم؟”.

يحاول القيّمون في المؤسسات الدينية وخارجها، مراكمة التفاصيل الفقهية، الخاصة بالفرد، والزجّ به بنسق الجماعة، مخافة الخروج على سلطانها، كي ينسى حقيقة وجودها، الذي يُفترض أنه يسعى لإقامة العدل ونشر السلام والمحبّة بين الناس. فهاهو شعب الله المختار، حيث لا يتمكّن أنبياؤهم ورسلهم من إتمام مهمّتهم. فيبعث الله بمسيحه المخلص، الذي يُفترض أنه افتدى البشرية كقربان، بموته على الصليب، لكن الشعب المختار يُنكر عليه نبوّته، فيما يبقى السلام مع حروب التبشير ضرباً من الأمنيات. ثم يرسل الله بين الأميين رسولاً، يرفض حقيقة صلب المسيح، ولنجد في الفاتحة التي يتلوها المسلمون أن اليهود “مغضوبٌ عليهم” وأن المسيحيين “من الضالين”!. فأين لهم أن يتفقوا؟ والنتيجة مزيد من القتل والتكفير فيما بينهم، دفاعاً عن الدين “الحق”. أليس غريباً أن يرسل الله طيور الأبابيل للقضاء على جيش أبرهة المسيحي، دفاعاً عن كعبةٍ كانت تضج “بالأصنام”؟. ألم تكن المسيحية دين الله قبل الإسلام؟ سؤال برسم الفقهاء الذين طالما أغفلوا هذه النقطة، على أمل ألا يخرجوا علينا بفتاوى التكفير، أو خطاب الفتنة، حيث لا جواب إلا بلعن من أيقظها! أليس عجيباً، فتنة عمرها أكثر من ألفي عام لم يتمكنوا من حلها، فكيف لنا أن نثق بهم؟ وهل يكفي تنويمها لنرفع لهم القبعات إلى الأبد!.

وإذا كان من علامات يوم القيامة، تعاظم الشرّ في كلّ مكان حتى يسود، وهو ما يستوجب تدخلاً مباشراً من الله ليثّبت حكمه على الأرض، فلماذا يصدع المتحمسون رؤوسنا بالجهاد، أليست الكلمة الحسنى تستحضر السلام “ادفع بالتي هي أحسن” وبعدها “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”!. وهنا نسأل “أهل العلم” إذا كان جلّ جلاله قد نفخ في آدم من روحه وعلّمه من لدنه، لتسجد له الملائكة، فكيف يغويه الشيطان ويتسبب بطرده من الجنة؟. إذا كان آدم كذلك!، فهل من حرج على الناس البسطاء! إن الله لم يقتل آدم لمعصيته، فيما المتعصبون يحللون قتل كل من يخالفهم الرأي، فأين هم من الله.

أقول هذا لأسأل: إذا كان الباري، قد أوجد الوجود كله بما فيه الزمان، ثم استراح أو استوى على عرشه في اليوم السابع، بعد أن دوّن كل شيء في لوحه المحفوظ، فهذا يعني أنه فعل وعمل كل شيء في سبعة أيام، فهل يعني أننا والكون منتهيان، بمعنى أن لا جديد فيه؟. إن خلق الجنة والجحيم قبل آدم وحواء، ثم كتابة الضلالة على البعض من نسله والهداية على البعض الآخر، بحسب المشيئة الإلهية “إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء”، يضع البشر أمام جبرية يتعذر الخروج منها. نأمل من “الراسخين في العلم” أن يجيبوا علينا عملاً بالآية الكريمة “وجادلهم بالتي هي أحسن”. نقول قولنا هذا، لنختبر سماحة أصحاب السماحة، من مبدأ الحوار الذي يحترم الآخر ولا يلغيه، وتغليباً لمنطق العقل الذي لا يستوي مع الإكراه، إذ “لا إكراه في الدين”. تأسيساً لفتح أبواب الممنوع أمام حرية المعرفة وحق الإنسان في التعبير عما يعتمل في خلده دون خوف.

في الحديث عن الخمر، ثمة أناس يُقتلون جرّاء بيعهم للمشروبات الروحية، دون أن تصدر أي إدانة لهذا الفعل، بل على العكس يلقى ترحيباً في الأوساط الدينية لاعتقادهم بأنّ الخمر حرام، وبديهيّ أنّ الحرام والحلال يُقرّهما الله، وهو ما لم يأت به النص القرآني، فالتحريم البيّن أتى في الحديث “ما أسكر كثيره فقليله حرام”. بعض المفسرين ذهب إلى أنّ الاجتناب أشدّ من التحريم، وهذا كلامٌ مردود، فلو كان الاجتناب أشدّ من التحريم لما أتى الحديث ليُحرّم. لنضع الحديث جانباً ولنقارن بين الاجتناب وفعل التحريم، بدايةً نقول بيت الله الحرام! وفي قوله تعالى “حرّمت عليكم أمهاتكم وأخواتكم وبناتكم…” وأيضاً ” لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحقّ…” كذلك “حُرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير..”، والسؤال هنا: هل أكل الميتة أو قتل النفس أو ارتكاب الفاحشة مع الأمّ أو الابنة أو الأخت..الخ مساوٍ لشرب كأس من الخمر!. وهل من المعقول أن يَعِد الله بأنهارٍ من الخمر لو كان حراماً؟. أما القول بأن الخمر يُذهب العقل، ففيه شيء من الغلوّ ولو صح ذلك لكنّا أعقل أمة في العالم، ولكانت الأمم المتحضرة بلا عقل! أرجو ألا يفهم من كلامي هذا على أنه دعوة لشرب الخمر شرعياً، ولكن لمنع القتل بحجة التحريم.

إنّ وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن يدل على المرونة التي أتى بها الإسلام للتكيف مع واقع متبدل ومتغير، أبعد ما يكون عن الجمود والتصلب، والذي يحاول أصحاب خطاب التتريث إبقاءه أسير نظرتهم المنتهية، حيث يتوقف الزمن لديهم بعد أن رفعت الأقلام، مكتفين بالنقل والتفسير وتفسير التفسير، حتى توارى النص خلف حشو الحواشي، تماماً كما حدث بالأناجيل حين احتكرتها الكنيسة، فأصبح الإيمان بين الفرد وخالقه بالواسطة، من خلال سلطة دينية تحصي عليه أنفاسه.

وعلى فرض أن الدنيا دار اختبار، فهذا يعني أن الاختبار يتعارض مع منطق الفرض والإكراه، فالإنسان مفطور على الحرية، وله الحق في أن يدافع عن رأيه ومعتقده دون أن يلزم الآخرين به، وغير ذلك، يتحيْون الإنسان في قسرية الجماعة، وهذا ما لا يريده عاقل. فعلى سبيل المثال، يعتبر الكثيرون أن الحجاب فرض على المرأة المتدينة في ديانات الوحي، لكن هذا لا يلغي أنّ للمرأة الحق في التقيُد بهذا الأمر أو رفضه، أما أن يتم الإلزام به ضمن منطق حماية ثقافة الجماعة، فمعناه سلب للحرية الفردية وتكريس لمنطق الإكراه. أما اعتبارها معصية، فهذا كلامهم وليس كلام الخالق الذي يقوم على حرية اختيار الفرد. ولو كان عدم ارتداء الحجاب من الكبائر، فبماذا نبرر امتلاء الجنة بالحواري والغلمان، حيث لا حجاب ولا من يحزنون!.

وعليه نسأل: من أعطى أصحاب العمائم شرعية الوصاية على أرواحنا وحياتنا، ألم يقل الرسول بعد فتح مكة “من دخل بيته فهو آمن”، فأين نحن مما يحدث الآن؟ حيث لا أمان حتى في بيوت الله!. يتوجب على المسلمين إذا أرادوا الابتعاد عن العنف، أن يستبدلوا شعار “رأس الحكمة مخافة الله” بشعار “رأس الحكمة محبة الله” لأنه لا يمكن أن تستوي الحكمة والسلام مع الخوف، مهما كان مصدره.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى