صفحات سورية

أسرة طلاس لا تصلح لدور أسرة الأسد


غسان الإمام

كنت أول من سأل بشار الأسد عن الديمقراطية المفقودة في سوريا. كان ذلك قبل وفاة أبيه حافظ، بشهور قليلة (2000). قبل ترئيسه وبعد ترئيسه، بدا بشار للعالم شابا «مودرن» إصلاحيا. علمانيا. وكان آنذاك يكثر من التردد على باريس «الخبيرة» بالشأن السوري. وربما تلقى نصائح ودروسا في الديمقراطية، من الرئيس جاك شيراك. فقد عرفت باريس أن أيام الأسد الأب باتت معدودات. تكالبت أمراض عسيرة عليه، فأصابته بالوهن أيضا في ملكاته العقلية.

قال لي بشار وهو يصافحني: يجب أن تعود إلى سوريا. نحن هناك نقرؤك. ثم أسمعني محاضرة طويلة عن الديمقراطية. فهمت منها التفسير التقليدي الذي يتسلح به كل نظام سلطوي: الديمقراطية تربية. والسوريون غير مؤهلين للديمقراطية.

أحزنني التفسير. فقد عرفت سوريا الديمقراطية منذ استقلالها عن تركيا (1918). وعرفت مجلسا برلمانيا منتخبا بحرية، منذ عام 1928. واستقلت سوريا عن الاستعمار الأوروبي 1946، في عهد نظام ديمقراطي يقوده رواد ديمقراطيون للقومية العربية: شكري القوتلي رئيسا للدولة. والمسيحي فارس الخوري رئيسا للحكومة.

لم أزر سوريا، منذ علمت أن دعوة بشار لن تجنبني دعوة «إجبارية» لإجراء «حوار» مع مديري الأجهزة الأمنية! كرر الدعوة الدكتور إلياس نجمة سفير سوريا الأسبق في باريس. قال لي تستطيع أن تقيم حيثما شئت، برعاية النظام، في فرنسا. أو سوريا. أو لبنان. ثم فهمت أن الشرط هو أن أتخلى عن العمل في «الشرق الأوسط». فقد بت مزعجا. أفسدت زيارة بابا الفاتيكان السابق، عندما دعوت بشار إلى مطالبته بالاعتذار عن الحروب الصليبية التي دمرت المشرق العربي.

الحزن لم يفقد في الأمل. فقد وعد بشار بمسيرة ديمقراطية أمام نخبة من الصحافيين اللبنانيين نصحت السفارة السورية بدعوتهم. مع الأسف، لم يسل أي منهم بشار عن ديمقراطية لبنان. كانوا خائفين من آلة القمع السورية في بلدهم المحتل.

في تلك الأثناء، تلقيت دعوة من وزير الإعلام للكتابة في الصحافة السورية. على سبيل التجربة، كتبت زاوية يومية قصيرة في «تشرين» كبرى صحف النظام. ثم توقفت عندما ذوت ورود ربيع دمشق. فقد راح الرئيس بشار يغلق ندوات الساسة الهواة الذين طالبوه بالانفتاح. ثم بدأ يزجهم فرادى وجماعات في السجون.

عملت في الصحافة السورية نحو عشر سنوات فقط (1954/ 1963). ثم غادرت بلدي إثر مذبحة الصحافة السورية. فقد أغلقت حكومة صلاح البيطار الانقلابية الصحيفة التي أعمل فيها. ثم أغلقت مكتب وكالة الأنباء التي أراسلها. عملت في لبنان. عندما لحقني الجيش السوري إلى لبنان (1976) غادرته هاربا إلى أوروبا.

ثم رق قلب النظام. فقد توسط لي وزير الإعلام والسفير السوري في لندن (وكلاهما علويان متسامحان). صدر أمر سياسي لمدير عام جوازات الهجرة برد الجنسية السورية إلي وتجديد جواز سفري. كان الثمن أكثر فداحة وإهانة للكرامة. فقد اشترط علي ضباط المخابرات في السفارة بأن أكون عونا وعينا لهم على العرب واللبنانيين والسوريين في باريس.

ذهبت إلى الصديق السفير إلياس نجمة شاكيا. ذهب السفير إلى دمشق. وعاد حاملا معه أمر نقل ضباط الأمن إلى دمشق. ثم فوجئ السفير. وفوجئت معه. فقد «عوقب» أحد الضباط المنقولين بتعيينه مديرا للمخابرات العسكرية الخارجية.

ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز عاشق للصحافة. وقارئ لها. و«مبتلٍ» كما يقول بـ«بلاوي» الصحافيين. فقد رق قلبه لبلواي. استصدر لي أمرا من شقيقه العاهل السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز بمنحي جواز سفر سعوديا. جدده لي العاهل عبد الله بن عبد العزيز. وجدده لي الأمير الراحل نايف بن عبد العزيز ولي العهد السابق ووزير الداخلية.سوريا بلدي. لكن العالم العربي هو وطني. لا أعمل في السياسة. بيد أن تقلباتها العاصفة انعكست سلبا على حياتي ومهنتي. لست معارضا أو مواليا. أطل على العالم من خلال شاشة صحافية، أحب أن تكون عريضة، لأرى ما لا يراه المعارضون والموالون.

لكن النظام السوري، في انغلاقه، يرى الصحافي بوقا له في الداخل. ومعارضا له في الخارج. سرحت الحكومة شقيقي. تعلل رئيسها ناجي عطري وهو يقدم قرار التسريح إلى مجلس وزرائه. بأن الأستاذ الجامعي المسرح هو شقيق الصحافي «المعارض» فلان. ونشرت صحف النظام قرار التسريح معللا بأنه تم «خدمة للمصلحة الوطنية»!

لست وطنيا أولا. ثم عروبيا ثانيا. لا أعاني من شيزوفرينيا الفصام بين الوطنية والعروبة المصاب بها كثير من العروبيين. تربيت في البيت. المدرسة. الجامعة، على أب وجيل من الأساتذة المؤمنين، بعروبة أعتبرها اليوم خلاصا لسوريا، وسموا بها فوق الهويات الضيقة المذهبية والعرقية.

مع الأسف، نظام «المستعربين» يتحالف مع النظام الفارسي ضد العروبة. ومعارضة الداخل طلقت العروبة. ومعارضة الخارج أسقطت عروبتها، لعدم إزعاج عرابيها الغربيين الذين يستقبلون أعضاءها كسوريين أولا.

الواقع أن دعوتي للعودة إلى سوريا لم تبدأ بدعوة بشار لي. في منتصف الثمانينات، تلقيت رسالة مع صديق مشترك، من الزميل الراحل جبران كورية المستشار السياسي للأسد الأب ومدير مكتبه الصحافي يعرض علي العودة إلى سوريا، أو الإقامة حيث أنا في باريس. والشرط دائما هو التخلي عن عملي في الصحافة العربية المهاجرة إلى أوروبا. عندما امتحنت الدعوة بالمطالبة بتجديد جواز سفري، سبق ضابط أمن السفارة بشار بخمس وعشرين سنة. فقد اتهمني بالمؤامرة على النظام. أقنعت موظفة إدارية في القنصلية، بتجديد الجواز من دون حاجة إلى عرضه على أمن السفارة. عندما عادت إلى سوريا دخلت السجن. فقد وشت بها مسؤولة في القنصلية ظلت تتلقى ترفيعا بعد ترفيع، إلى أن غدت سفيرة لسوريا في بلد أوروبي.

في هذه الرواية القلمية، أحببت أن أقدم للقارئ صورة لحياة صحافي سوري يعمل في منفى الهجرة والاغتراب. هناك مليونا سوري مهاجر بعضهم يعمل. وبعضهم لا يجد قوت يومه. أتمنى «للمهاجر» الجديد العميد مناف طلاس وقتا أطيب من حظ المهاجرين الذين سبقوه. بل أشكره على وساطته لدى صديقه الحميم بشار، لإنقاذ القرويين في بلدته (الرستن). أخفقت الوساطة. فقد دمر «الصديق» البلدة فوق رؤوسهم. ثم أعتب عليه. فقد تأخر طويلا في «هجر» النظام.

في الوقت ذاته، تعتريني دهشة كبيرة، إزاء هذا الاستقبال الاحتفالي بالمهاجر الجديد. استقبلته هيلاري بالقول إنها ترحب «بالتعاون» معه. صحافة عربية رشحته لرئاسة سوريا. صحافة غربية رشحته لدور سياسي، بعد سقوط صديقه بشار.

أمانة صريحة مع هؤلاء «المرحبين» جميعا، أقول إن ملايين السوريين الثائرين يعرفون. ولا يقبلون بأي دور سياسي لهذه الأسرة التي عاشت منعمة. مترفة. مرفهة. أربعين سنة في ظل النظام.

أثبت المرحبون أنهم لا يعرفون السوريين. ويجهلون تماما تطورات القضية السورية خلال الخمسين سنة الأخيرة. لعل الأب العماد مصطفى (82 سنة). المهاجر بدوره إلى باريس يهمس في أذن نجله العميد مناف (48 سنة) بأن «كلينا لا يصلح لدور في سوريا. فقد تجاوزتنا الثورة بمسافة طويلة». وأنا أيضا فقد خدعني بشار. ضللني بمسافة طويلة.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى