برهان غليونصفحات سورية

أصل فساد القيادة وتهافتها في سورية والدول العربية/ برهان غليون

 

 

يفتح الوضع الكارثي الذي آلت إليه الأحوال في سورية، على جميع المستويات، الإنسانية والسياسية، وما يبدو من انسداد الآفاق وانعدام فرص الخروج من المحرقة، باب نقاشاتٍ تزداد حدةً داخل صفوف الثورة ذاتها. ويترسخ الميل، مع تنامي الإحباطات، إلى التشكيك بالذات، لدى جمهورٍ متزايد من أنصارها الذين تحولوا، في الوقت نفسه، إلى ضحاياها، وفي ما وراء ذلك، إلى التشكيك في الثورة وفي من قادها أو شجع عليها من المثقفين والسياسيين جميعا. ويلخص تعليقٌ حديثٌ قرأته على صفحتي درجة العنف الذي تعد به هذه النقاشات، والالتباسات العميقة التي تثيرها في الوقت نفسه. هكذا كتب مدوّن باسم عبد القادر قدري أو قادري: “من الشهامة أن كل من كان له في إشعال الفتنة السورية وما آلت إليه من سفك دماء ودمار وتشريد، عليه أن يسكت وينطوي على نفسه بعيدا عن الأنظار، وهو يطلب من الله العفو عن الأوزار التي يحملها. وعلى الناس والتاريخ أن يحكم عليه بالغباء، إذا أحسنوا الظن والعمالة للأجنبي إذا أرادوا الأمانة في حكمهم”.

وعبد القادر ليس خصما للثورة، ولا مرتدّا عنها. إنه يعتقد أنه يتحدث باسمها، أو ينتقم لها من المسيئين إليها. ومن يتوجه إليهم في كلامه هم أناسٌ من أمثالنا وقفوا مع ثورة السوريين، ودافعوا عن حقهم في تفكيك نظام العنف والبطش والإرهاب الذي حكمهم وتحكّم بوجودهم الفردي والجماعي نصف قرن، وحرمهم من فرص التقدّم ومواكبة مسيرة الشعوب والمجتمعات الحديثة، وقادهم، في النهاية، إلى الدمار، في سبيل ملء جيوب حفنةٍ من المرتزقة ومافيات المال والأعمال، وتضخيم حساباتهم المصرفية في الدول الأجنبية، على حساب حياة شعوبهم ومستقبل أطفالهم الذين تحوّلوا إلى شعبٍ من اليتامى والمعطوبين والجرحى والمشرّدين. وهي الحقيقة العارية التي لا يمكن لأحد إنكارها اليوم لكل من له عين أو سمع أو إحساس.

بالإضافة إلى ما تنطوي عليه هذه الأفكار من عنف تجاه الذات، تترجم كلمات عبد القادر مدى انهيار ثقة جمهور الثورة بقادتها، وخيبة أمله بجميع الذين تصدّوا لهذه القيادة أو قاربوها. وهي تطرح على قادة الفكر والسياسة السوريين ثلاثة أسئلة أساسية، سوف تزداد تردّدا في السنوات المقبلة، بسبب هول المأساة وفداحة نتائجها التي سترافقنا عقوداً طويلة: هل كنا، في سورية منذ 2011، وفي دول الربيع العربي عامة، أمام ثورة شعبية بالفعل أم هي فتنة أوقعتنا بها الدول الاستعمارية، وسار في ركابها بعض المهووسين من مثقفينا وساستنا، كما يميل إلى تصويرها اليوم كثيرون، بعد أن كان لا يردّدها إلا النظام؟ وهل كان قرار الاستمرار في الثورة صائبا بعد أن تبين تصميم النظام، ومعه جزء كبير من المجتمع الدولي، على سحق ثورة الشعب بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير البلاد وتشريد أهلها وفتح الأبواب أمام التدخلات والاحتلالات الأجنبية. بمعنى آخر، هل كنا نحن، الذين وقفنا وراء شعبنا، شركاء في الجريمة، بوعي أو من دون وعي؟ وأخيرا، ألم يحن الوقت لكي يراجع الذين احتلوا مناصب المسؤولية في قيادة الثورة المسلحة والسياسية أنفسهم، ويتحملوا مسؤولياتهم، ويعلنوا انسحابهم، ويغيبوا إلى الأبد عن الصورة، قبل أن تجري محاسبتهم وربما تخوينهم؟

لا يتسع المجال هنا للرد على هذه الأسئلة المعقدة سياسيا وأخلاقيا في مقالةٍ صغيرة. لكن، من دون الخوض في تفاصيلها، يمكن التذكير ببعض العناصر الأساسية التي تشكل مدخلا للإحاطة بالإشكالات الكبرى التي تطرحها.

(1)

بداية، ليس صحيحا، بالمطلق، أن ما شهدته سورية وبقية بلدان الربيع العربي يمكن أن يدخل، مهما طوّرنا من ألاعيب نظرية وسياسية، في باب الفتنة أو المؤامرة الخارجية التي روجها

“تمسّك السوريون بثورتهم المغمسة بالدماء والدموع، على الرغم من تنامي قوى التحالف العامل ضدهم، وخذلان الدول الصديقة” النظام السوري وحليفه الإيراني. ولا يمكن أن تشكل هذه الفكرة، أمام جبال الوثائق والصور والشهادات، وبشكل خاص استمرار السوريين في تقديم تضحياتهم اللامحدودة، وتصميمهم على الخلاص بأي ثمنٍ من النظام وحده، فرضيةً مقبولة للنقاش. وليس هناك، ولن يكون هناك، في نظري، طرحٌ أكثر سخافةً نظريةً وانحطاطا أخلاقيا من مثل هذه الفرضية التي تبناها الناطقون باسم الأسد ونظام عنفه من الإعلاميين، منذ بداية الأحداث، وذلك في وقتٍ لم تكن توجد فيه دولة واحدة تقف مع الثورة، وكانت جميع دول العالم، وأولها التي ناصبها الأسد العداء في ما بعد، من قطر إلى تركيا إلى السعودية، والتي كانت جميعها تسعى، بكل ما تملكه من نفوذ وعلاقات صداقة وتواطؤ، إلى إقناع حاكم دمشق بالشروع بإصلاحاتٍ سياسيةٍ تمتص غضب الجمهور الثائر، وتجنب البلاد الانفجار الكبير. لكن النظام كان يعتقد، كما لم يكفّ عن التصريح به، وما يعبر عنه شموله جميع قوى الثورة والمعارضة بوصف الإرهاب، أن القوة التي مكّنته من البقاء ما يقارب نصف قرن، والتي لا يملك غيرها سلاحا ومصدرا للشرعية ولإقناع الشعب بقيادته أو فرض نفسه عليه، هي وحدها التي سوف تنقذه من الطوفان الجارف الذي كان على يقينٍ من اقتراب قدومه. فاجأته الأحداث بسرعتها، ولكن الإطار العام للمواجهة الشاملة كان معدّا منذ سنوات، وعلى جميع المستويات، العسكرية والسياسية والإعلامية، وكان يعرف أنه سوف يخوض في دماء السوريين حتى الركب، لكنه كان على اقتناعٍ بأن ذلك هو الحل الوحيد، الحاسم للقضاء، مرة واحدة وإلى الأبد، على مقاومة الشعب، والحصول على خضوعه عقوداً طويلة قادمة. وإذا كانت هناك مؤامرة فهي بالضبط التي حاكها الأسد وحلفاؤه وخطط لها للإيقاع بشعبه. وإذا كانت هناك فتنة، فهي التي لم يكفّ عن تغذيتها، خلال العقود الطويلة السابقة، قبل أن يشعل فتيلها بمحض إرادته، لتحريض الجماعات والطوائف على بعضها بعضا، على أمل حرف الثورة السياسية عن هدفها، وتحويلها إلى حربٍ أهلية مدمرة، قبل أن يدفع بها ثانية، بمساعدة حلفائه الإيرانيين والروس، إلى أن تكون حرب إبادةٍ شاملةٍ لسورية والسوريين.

(2)

وبالمثل، ليس صحيحا، كما يعتقد الاقتباس الذي استشهدت به، أنه كان في إمكان أي مجموعةٍ من النخب الثقافية والسياسية والدينية، مهما كانت تحظى من نفوذٍ معنوي، أن تثني الجماهير

“إذا كانت هناك مؤامرة فهي بالضبط التي حاكها الأسد وحلفاؤه وخطط لها للإيقاع بشعبه” التي حطمت أقفاصها الحديدية، عن قرارها، أو أن تعيدها إلى حظيرة العبودية، بعد أن خرجت منها، تماما كما لم يكن بإمكان أي تقني أو خبير أن يعيد مياه الطوفان إلى ما وراء حاجز السد الذي انهارت أركانه. لم يكن ينفع في ذلك لا التهويل بالمخاطر المحتملة، ولا التحذير من هول التضحيات المنتظرة، ولا التشكيك في صدق التضامن والدعم الدولي والأجنبي، ولا التأكيد على ضعف الحلفاء والأصدقاء وعدم قدرتهم على تلبية شروط المواجهة. كانت إرادة التحرّر من القوة، بحيث لا يستطيع شيء أن يقف في وجهها من دون أن تسحقه، داخلياً كان أو خارجيا. وما كان لمثل هذه الطروحات إلا أن تعامل من الثائرين ذرائع للاستسلام وعلامة تواطؤ مع نظام العبودية. فعندما تنجح الشعوب في كسر قيودها، وتدخل في منطق انتزاع حريتها مهما حصل، لا يعود إلى الثمن الذي يتحتم عليها دفعه أي قيمة، ولن تمعن نظرها مديدا في ما إذا كانت ستخوض معركتها وحيدةً أم مؤيدة بالدعم الخارجي، بل لن يفرق معها في ما إذا خسرت أو ربحت، لأن حياتها في شروط العبودية تتساوى في هذه الحالة مع الموت، مع إضافةٍ بالغةٍ هي أن هذا الموت لن يكون موتا فعليا، وإنما انتصارا لمعنى الكرامة والسيادة. إنه يتحوّل إلى مدخل للحرية. كل ما يقال ويقف ضد هذا النزوع الجارف للتحرّر يصبح تفاصيل. وهذا ما يظهره تسابق مقاتلي الحرية، في كل زمان ومكان، على الفداء والشهادة، وإقدامهم على الموت من دون وجل، وهو الذي يزوّدهم بالإدراك السليم بأن تراجعهم عن مشروع تحرّرهم، بعد أن رموا بأنفسهم في أتون معركتها الملحمية، بدل أن يوفر لهم حياة جديدة، يقرّب رقابهم بالعكس من المقصلة، ويشجع أعداءهم على استباحة دمائهم وسحقهم بأبشع الوسائل وأشنعها.

وهذا ما أثبتته الأحداث بالضبط. فقد تمسّك السوريون بثورتهم المغمّسة بالدماء والدموع، على الرغم من تنامي قوى التحالف العامل ضدهم، وخذلان الدول الصديقة التي وقفت بجانبهم، وضآلة الدعم الذي قدّم لهم. وكان أكثر ما جسد هذه الإرادة التي لا تتزعزع بحتمية الاستمرار والنصر شعارهم الذي تحول إلى عنوان لصمودهم وصبرهم: ما لنا غيرك يا الله، والذي يجمع بين اليأس من العالم الخارجي والتصميم على متابعة النضال، مهما كان الثمن، ومن دون حسابٍ للتضحيات. أدرك السوريون، منذ بداية الأحداث، أنهم في حربٍ، عنوانها إما قاتلا أو مقتولا، كما فرضها عليهم النظام، وتقبلوا قدرهم، وأدركوا أنه ليس لهم في ذلك خيار. وأنه لا يمكن في الثورة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، ولا إجبار أو إقناع شعبٍ كسر قيوده أن يعيد مد ذراعيه لتكبيلها بالأصفاد.

(3)

لكن، في ثنايا هذا الاقتباس الذي أوردته عن عبد القادر، تكمن الفكرة الجوهرية التي كانت

“ما كان بإمكان أية مجموعة من النخب الثقافية والسياسية أن تثني الجماهير التي حطمت أقفاصها الحديدية، عن قرارها، أو أن تعيدها إلى حظيرة العبودية” الحافز لكتابته، وهي أن الثورة لا يمكن أن تستمر من دون مراجعة نفسها وإصلاح أخطائها، وإن أول فصول المراجعة الذاتية هو مساءلة القادة، أو جميع من احتلوا، في السنوات الماضية، مواقع المسؤولية، عن إنجازاتهم، ومن ورائها محاسبتهم، ومطالبتهم بالتنحّي، بعد أن تحولت مواقع القيادة، أو كادت، إلى ملكية شخصية، ووظيفة حرفية تساوي المرتب الذي يرافقها، ولا تنطوي على أي رؤيةٍ أو برامج سياسية، أو حتى شعور بالمسؤولية. ولا يلغي وجاهة هذا التذكير بفساد مفهوم القيادة السائد في مؤسسات الثورة، على جميع مستوياتها، وتحلّلها من التزاماتها، وانفصالها عن أي معيارٍ للإنجاز، وتجنيبها أي مساءلةٍ وطنيةٍ أو محاسبةٍ سياسية، الصورة المشوشّة التي صاغها بها المدوّن المذكور، فليس لدي شك في أن جزءا كبيرا من مناخ السخط والإحباط وعدم الثقة الذي يعيشه جمهور الثورة الواسع، ويقوده إلى التشكيك بنفسه وقيمة التضحيات التي قدّمها، وهي هائلة، ناجم عن فساد منهج هذه القيادة وأساليبها المأخوذة طبق الأصل عن القيادة الأسدية، حيث يعتبر صاحب السلطة أو الذي يحتل منصب المسؤولية نفسه غير مسؤول، ولا يمكن مساءلته، بينما ترمى المسؤولية دائما على من لا يحتل أي منصبٍ قيادي أو موقع مسؤولية، أي على الجمهور البسيط نفسه. وهذا جوهر سياسة الاستبداد وقاعدتها، لأنه لا يمكن لصاحب السلطة المستبدة، على أي مستوى كانت، من مستويات القيادة الاجتماعية والسياسية، أن يدافع عن بقائه في موقعه من دون تغيير، ما لم يطمس معايير الشرعية، التمثيلية أو المتعلقة بالكفاءة والخبرة والإنجاز، ويرفع منصب القيادة فوق أي تساؤل ومساءلةٍ مهما كانت، ويحمل أخطاء القيادة، مهما كانت أيضا، إلى الأدنى رتبةً، وإلى الشعب عموما. هكذا بتقديسها السلطة ومناصب المسؤولية لذاتها، لا لما تؤمنه من مكاسب وإنجازات، وتقديس رجال السلطة أيضا أنفسهم بالمعية، تجنب سلطة الاستبداد نفسها أي مساءلةٍ وتحول المحاسبة نفسها التي ترفعها عن نفسها إلى سيف مسلط على خصومها، أي على المحكومين.

(4)

عندما تنعدم ثقافة المسؤولية، وتغيب المساءلة، ثم في ما بعد المحاسبة التي تكافئ المحسن وتعاقب المسيء، تتزايد الأخطاء وتنحط النظم والأوضاع. ولأنه لا يوجد نظامٌ واضحٌ للمساءلة والمحاسبة، تختلط الأوراق ويتشوّش الوعي. وبدل أن يوجه السؤال عن الفشل أو الخطأ إلى صاحب القرار، أي المسؤول والقائد، تعمّم المسؤولية على الجميع، فنقول الشعب متخلف والشعب جاهل والثوار غير منضبطين أو غير متعاونين أو تنقصهم الشجاعة أو النزاهة أو الدين أو الأخلاق.. إلخ، مما اعتدنا على سماعه في الخمسين سنة الماضية مع جميع نظم الطغيان. وفي هذا التعميم، بل إن هدفه الرئيسي، هو قطع الطريق على محاسبة أولئك المسؤولين الفعليين عن الخطأ، وهم القادة الذين يحتلون مواقع القرار، بدءا من القمة حتى القيادات المحلية، المدنية والعسكرية.

وهذا بالضبط الخطأ الذي وقع فيه صاحب التعليق الذي ذكرته في المقدمة، فبدل مطالبته المحقة بخضوع من يتولى القيادة في مؤسسات الثورة السياسية والاقتصادية والإنسانية

“عندما تنعدم ثقافة المسؤولية، وتغيب المساءلة، ثم في ما بعد المحاسبة التي تكافئ المحسن وتعاقب المسيء، تتزايد الأخطاء وتنحط النظم والأوضاع” للمساءلة والمحاسبة، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة المخلصين والقادرين وتعزيز مواقعهم والكشف عن المرتزقة والانتهازيين في صفوف الثورة، بدل ذلك يدين جميع من استلم موقع قيادة من دون تمييز، ويطالبه بالانسحاب والانتحار السياسي. في مثل هذه الحالة، لن تبنى سياسة، ولن تتراكم خبرة، ولن تنشأ قيادة فعلية تحظى بثقة الناس وتأييدهم، وتؤمن لنفسها النفوذ المطلوب، لحثهم على التعاون والمبادرة، وعلى تنظيم صفوفهم، وتوحيد رؤاهم وجدول أعمال كفاحهم. بالعكس، ما يحصل عندئذ هو ما عرفناه منذ بداية الثورة، أي التدمير المتبادل والدائم لجميع من ظهر من قيادات، والحيلولة دون تنامي أي خبرةٍ أو نشوء ثقافة العمل الجماعي والمشترك. وبدل أن يساعد ذلك على ظهور قياداتٍ جديدة بديلة، يشجع بالعكس على انكفاء كل من يعتقد في نفسه الكفاءة والمقدرة والإيمان بالقضية العامة على نفسها وتجنب المشاركة. وتجربة مؤسسات الثورة السورية تظهر تماما كيف عملت هذه الثقافة على أن تطرد العملة الرديئة العملة السليمة وتقتلها.

وقد قاد هذا النهج في ثورتنا، كما قاد، في نظامنا المنهار، إلى أن يبعد القادرون أو يبتعدون من تلقاء أنفسهم، ويحل محلهم الانتهازيون الذين عمموا ثقافة عدم المسؤولية والهرب من المحاسبة برمي التهمة على من هو أدنى مرتبةً منهم. وشكل هذا النهج نخبة انتهازية رخيصة، لا تملك أي فضيلة، ولا تهتم بالحصول على أي معرفةٍ وخبرة. وقاد إلى الخراب الذي عرفناه في مجتعاتنا على كل المستويات، وفي الدولة بشكل خاص، وهو خرابٌ سابقٌ على الدمار ومقدمة له. والنتيجة هي تماما ما نشهده من شكوى متزايدة من سوء الإدارة والتحسّر الدائم على غياب القيادات الكفؤة والمسؤولة التي تحظى بثقة الناس وتأييدهم والتي لا يمكن، من دونها، كسب طاعتهم وحماستهم للعمل والتعاون والإنجاز.

(5)

ليس المطلوب من القيادات، من القمة إلى القاعدة، أن تكون كاملةً ومعصومة من الخطأ، فالقادة جميعا يخطئون، لأنهم بشر، وقراراتهم معتمدة على حسابات ومعلومات قد تكون صحيحةً أو ناقصة. لكن خطأهم لا يحولهم بالضرورة إلى مجرمين أو عملاء، ولا يستدعي إقصاءهم ومطالبة كل واحد منهم “أن يسكت وينطوي على نفسه بعيدا عن الأنظار، وهو يطلب من الله العفو عن الأوزار التي يحملها”، أي أن ينتحر سياسيا وإنسانيا، كما يطالب القادري، وربما أعداد متزايدة من أنصار الثورة الذين فقدوا ثقتهم كليا بالقيادة، نتيجة ما وصلت إليه من ضعفٍ وبؤسٍ وامتهان، وتخليها عن كل معايير الصدقية والأمانة الأخلاقية والسياسية، بسبب هذه العقلية بالذات.

“القيادة لا تصنع نفسها بنفسها، ولا تولد جاهزةً كاملةً ومتكاملة، ولكن تصنع في الممارسة والمسؤول عن صناعتها هو الجمهور نفسه والرأي العام”

بالعكس، ما نحتاجه هو أن نطبق قانون المساءلة والمحاسبة، فنجازي المحسنين ونعاقب المسيئين، حتى نبين الغثّ من الثمين، ونقدّم الصالح على الطالح. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنشوء قيادة كفؤة تتعلم من أخطائها، وفي الوقت نفسه، ملتزمة بجمهورها وخاضعة لمراقبته أيضا. ما يعني أيضا أن القيادة لا تصنع نفسها بنفسها، ولا تولد جاهزةً كاملةً ومتكاملة، ولكن تصنع في الممارسة والمسؤول عن صناعتها هو الجمهور نفسه والرأي العام، بمقدار ما يخضعها لآلية تكوين صحيحة وناجعة. وإذا كانت قيادة مؤسسات ثورتنا متهافتة، وهي كذلك بالفعل، فلأن معاييرنا في التعامل مع المتصدّين لمناصب المسؤولية كانت ولا تزال متهافتة، تركز على الشكل والأصل والهوية. وفي الأغلب على العلاقات الشخصية والقرابات العائلية أو العشائرية أو الدينية أو المناطقية، بدل أن تطبق معايير الكفاءة والمساءلة والمحاسبة العلنية، أي بدل أن تتبنى المعايير الموضوعية التي لا يمكن من دونها توليد أي قيادة حقيقية، تجمع إلى الكفاءة والخبرة الشعور بالمسؤولية، وتبني مشكلات مجتمعاتها، والاجتهاد في إيجاد الحلول الناجعة لها، بدل استخدام السلطة ومواقع المسؤولية لخدمة أغراضها الخاصة ومصالحها.

وإذا كان هناك مثال يعكس تهافت الطريقة التي تشكلت من خلالها قياداتنا السياسية والاجتماعية، وهي الوراثة والاستنساب الذاتي والمحسوبية المعممة، فهو بشار الأسد نفسه وأركان قياداته السياسية والعسكرية والأمنية التي رفعت إلى أعلى المراكز أقل الناس شعورا بالمسؤولية العمومية، وأجهلهم في السياسة الوطنية والدولية، وأبعدت إن لم تقتل وتنف كل من كانت لديه خبرة أو صاحب ضمير يحرص على المصالح العمومية. والدرس الأكبر الذي ينبغي أن نحفظه من هذه الكارثة الوطنية التي لا نزال نعيش فصولها الدامية، وسنعيشها بالتأكيد سنوات، قبل أن ننجح في تنشئة جيل من القادة الجدد، هو التالي: ليس انعدام المسؤولية السياسية والأخلاقية والاستهتار الذي أظهرته القيادات القائمة بحقوق الناس والتضحية بهم، بل الاستعداد لاستئصالهم جسديا وخوض حرب إبادةٍ شاملةٍ لتفكيك اجتماعهم وكسر إرادتهم، إلا جزء من التخلي الجامع، لكل فرد منا عن مسؤولياته العامة، تجاه الآخرين والبلاد معا، وتسليمه بالأمر الواقع، وانكفائه على نفسه ومصالحه، وقبوله بقاعدة تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس معايير الاستنساب والمحسوبية، بما تتضمنه من تقديم القرابات العائلية والدينية والمذهبية، وتنمية روح الزبائنية وثقافة الفهلوية والتحايل على القانون، بدل الاحتكام إلى معايير الكفاءة والمسؤولية والحرص على المصالح العمومية في جميع مناحي حياتنا الاجتماعية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى