صفحات المستقبل

أصواتنا التي نبتت كالحراب/ فايز العباس

 

 

الهواء الذي نتنفسه هو الهواء ذاته الذي يحمل أصواتنا، قالت لنا معلمتنا في الصف الأول، والماء الذي نشربه يحمل ضمنياً جزءاً من الهواء بين ذراته. نحن نتنفس ونشرب الماء، والشجرة التي تنقر العصافيرُ براعمَها وتحمل الفراشاتُ غبارَ طلعها في مواسم الزفاف المكللة بالزهور، الشجرة تلك مثلنا تتنفس وتشرب وتحب، والبلاد، أيضاً، مثلنا.

“هذه البساطة وضعْتُ قدميَّ على أُولى درجات التعلّم، وكنت أقول لأبي: إني أتنفس صوتَك فحدثني عن جدك، وعن الذئاب التي فتكت بالقطيع، كان أبي يستعيد أصوات أجداده وينقلها إلي حتى كدت أتنفس العواء وارتفاع وتيرة الثغاء من أثر المجزرة الدامية. وأقول لأمي: تكلمي حين أشرب الماء لكي أشعر بطعم المحبة التي تتدفق من صوتك، فتصير تحدثني عن ليلى التي تغلبتْ على ذئبها وأنقذت جدتها، فأزمّ شفتيَّ، قابضاً، على الماء بينما يملأُني الضحك من ذئب يفتك بقطيع وتهزمه طفلة.

وكنت متأكداً أن شجرة التوت الكبيرة التي تتوسط الدار تميز بين أصوات شقيقاتي وأشقائي، لدرجة أني كنت أعرف صوت مَن مِنهم مشى في كل غصن منها، فالغصن الكبير الذي يلامس الدرج الحجري ويظللني يمر به صوت شقيقتي، بينما الغصن الذي نتمرجح بالحبل المشدود إليه كان يمر به صوت أخي الأكبر.

قال لي صديقي: إنه كاد يختنق حين تنفس صوت سعال أبيه وهو نائم. بينما صديقتي -التي كنت أحب تنفُّسَ صوتها وهي تردد اسمي فأتجاهل نداءها إياي طمعاً بتكراره-، فقد قالت مرةً: حين غسلت وجهي سال صوتك على وجنتي فخجلتُ وخفت أن تعرف صوتك أمي فتمنعك من الحديث حين أغسل وجهي مجدداً، ولم تعرف أمُّها صوتي، وحتى يومنا هذا أستيقظ صباحاً فقط لأتحدث في موعد غسل الوجه.

ثلاثون سنة مرت، عرفنا خلالها أن معلمتنا تلك اخترعت لنا أسطورةً بقصد التسلية، فعشناها بكل جوارحنا، وساهم آباؤنا في تصديقنا لِما تعلمناه في المدرسة بتواطؤ ضمني مع المعلمة، هذا ما تأكدتُ منه لاحقاً، حيث كنت أستغرب مثلاً ألّا تتنفس أمي حديث جاراتنا عنها، وأقنع نفسي بأنها تنفست كل حديثهن، ولكنها تحب تذوقه من الماء الذي يرافق قهوة الصباح مع صديقتها التي تنفست اغتياب الجارات لأمي وجاءت تنمّ لها بالحديث.

ثلاثون سنة ولم يخطر ببالنا ولو مرة ألّا نشارك في تلقين أطفالنا مثل هذي الأساطير، وهربنا قبل أن نشرح للصغار الباقين في البلاد بأنها كذبة بيضاء، هربنا وتركناهم يتنفسون صوت الرصاص، وتسيل على أجسادهم الغضة مع المطر أصوات المجنزرات الثقيلة، وينتابهم كلما تحصّلوا كأس ماء طعمُ صوت القصف، رأيت بعيني صورة طفلة تحمل “بيدونة ماء”، وكلما تلاطم الماء الذي تحمله تطاير عليها رذاذ صوت الطائرة التي تحوم في سماء البلاد، مثل غراب يبحث عن حجر كريم ليسرقه، و تنفست -أنا البعيد الآن- صوت طفل كان يبيع الورود، الورود التي كان صوته يمشي بنسغها، الورود التي لم يلق حين نثرته القذيفة من يعيدها إلى أمه حتى تستأنس بصوته الذي يسري فيها. كيف لي، الآن، وأنا أتنفس صوت أبي وهو يشدّ من عزيمتي بينما أثقله غيابي، وصوت أمي وهي ترتل على الماء التمائم لئلا تفترسني الذئاب، وأصوات إخوتي وأخواتي حين يخنقهم الدمع والاشتياق، كيف لي أن أصدق أن كل ذلك كان كلاماً في الهواء.

أصرخ ملء ما في الغيوم من ماء، وملء ما في الحياة من هواء، فتجيبني البلاد التي أذكر أن المعلمة قالت، إنها مثلنا ومثل الأشجار. وحدها البلاد التي تغص، الآن، بالهواء الذي ملأته الأصوات ما تزال تؤمن بالأساطير، وتنبتُ فيها أصواتُنا مثلَ حِرابٍ جاهزةٍ للطعن.

(سورية)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى