ابرهيم الزيديصفحات الناس

أطفال التسوّل والمنافي/ إبرهيم الزيدي

إنهم يعيشون بيننا، يرتدون ثياب انكساراتهم، يطوفون بأبنيتنا التي لا تؤويهم، يمرّون بمطاعمنا التي لا تُطعمهم، ويستعرضون واجهات المحال بحيادية باردة، فهم يدركون أن كل ما هو معروض فيها، ليس لهم. وحشتهم تُربك ظلام الليل، وسعيهم يخدش حياء النهار. لو أن لانكسارهم صوتاً، لكان العالم قد استيقظ من نسيانهم. بعضهم ينام على قارعة الطريق، ومنهم من يموت على قارعة التجاهل. كأن ثمة من يريد تحطيمهم، لكي لا يصلحوا لأزمنة أخرى. تدفعني رغبة جامحة بمعرفة أحوالهم، وليتني أستطيع أن أستقبل مآسيهم بغير الكلمات.

أوّلهم أحمد، عشر سنين، كان كحلم غادره الحنين، عارياً من لهفة غيره من المتسولين لرؤية ورقة العشرة آلاف ليرة. قال: لا أريدها إن لم تسمح لي بتلميع حذائك. قلت: لقد لمّعتَ روحي بكلماتك. ابتسم، ولا أظنّه فهم ما قلته له. جلستُ إلى جواره، وطلبتُ من المصوّرة غدير حمية، التي رافقتني في رحلتي إلى اكتشاف تلك العوالم، أن تلتقط لي صورة معه، فارتجفت دهشته فرحاً غامضاً. ألم يصوّرك أحد من قبل؟ أجاب: لا. هل تحبّ أن تصوّرني، سألته؟ ارتسمت بسمة على شفتيه، والتمعت في وجهه الطفولي ألوان قوس قزح.

لأحمد 5 أخوات، و3 أخوة. الأب بساق واحدة، والأم هي التي تدير شؤون العائلة. لا أحد من أخوته أو أخواته التحق بالمدارس اللبنانية، بعدما قدمت أسرة أحمد من مدينة حلب، منطقة الشيخ مقصود. كان الوالد يبيع غاز الميتان، ففتح في إحدى غرف المنزل باباً، مستقلاً، وخصص الغرفة لعمله هذا، الذي تساعده فيه زوجته، لأنه بساق واحدة. أحمد وأخوه الأكبر منه، وواحدة من أخواته، كانوا يرتادون المدرسة، وحين تعطل المدارس بالصيف، كان الأخوان يعملان بتلميع الأحذية “بويجي”. سألته إن كان يحب أن تُنشر صورته في الجريدة؟ فابتسم بخفر، وهزّ رأسه بالإيجاب.

عيّوش، 9 سنوات، نسيت على ما يبدو أن اسمها عائشة، أو هي لم تسمع أحداً من قبل يناديها هكذا. تقول بحياء لمن يسألها عن اسمها: أنا عيّوش القادمة من مدينة عدرا السورية. التسول مهنة عائلتها، وهي تتدرب على المهنة تحت نظر الأمّ التي تجلس بعيداً عنا، محتضنةً رضيعها. عائلة عيّوش، الأب الذي يعمل في صناعة أسنان الخزف، فيخرج صباحاً مع حقيبته، ويتجول في الأحياء، الوالدة، والأخ الرضيع.

سألتُ عيّوش عما تشعر حين ترى مثيلاتها في طريق عودتهن من المدرسة. طأطأت، ولم تجب. سألتها إن كانت تحب أن تذهب إلى المدرسة؟ فأومأت بالإيجاب. عيّوش تعطي أمّها كل ما تجمعه خلال اليوم، ولا تتصرف بأي مبلغ من تلقاء نفسها. كنت خجلاً من طفولة عيوش التي ينتهكها التسول، فتجنبت الأسئلة التي تُخجلها، وسألتها من تحبّ أكثر، أباها أم أمّها، ولماذا؟ فقالت إنها تحبّ أباها أكثر من أمّها، التي تلازمها طوال الوقت، تراقب حركتها، تنهرها، وتزجرها، وفي كثير من الأحيان تضربها. أما الأب فهي لا تلتقي به إلا مساء، ومن طبيعة الأمور أنهم لا يسهرون، بل يتناولون عشاءهم، ويأوون إلى الفراش بعد أن يعودوا إلى البيت، وقد هدّهم التعب، وأخذ منهم كل مأخذ.

منذ زمن بعيد وأنا أحضّر نفسي لإجراء هذا التحقيق. كنت أراهم يلامسون غربة روحي، تلك الغربة التي تضاءلت بحضورهم الشفّاف. لم أستطع إجراء حوارات مع الكبار منهم، فقد استحكمت الصنعة في نفوسهم، وصقلتهم الدربة والممارسة، أغلبهم لم يوافق على أن أصوّره. لفتني أنهم يتسوّلون من دون أقنعة، فلماذا يرفضون التصوير؟! لم أستطع معرفة سبب ذلك الرفض، ومن وافق منهم، وافق بشروط مالية. انصرفت عنهم، إلى الفئة الأجمل، التي لا تزال تحتفظ بنقائها وعفويتها، فئة الأطفال، وما أوسعها من شريحة! على رغم فداحة البؤس، إلا أنه لم يستطع أن يمحو تجليات طفولتهم، التي كانت هي الأكثر حضوراً. وليد، 6 سنوات، لم يكن يريد مالاً. كان يريد طعاماً. بلهجته، قال: بدّي لفة فلافل. شو رأيك بالهمبرغر، سألتُه، فشرد في الكلمة، وأعاد عليَّ قوله “بدّي سندويشة فلافل”. فقلت في نفسي: “جلّ لله، من الوردة ناساً… ومن الأقذار ناساً خلقا”. ما ذنب هذا الطفل لكي يكون مصيره في قاع المجتمع، منذ ولادته؟!

في مخيمات اللاجئين العشوائية في بر الياس البقاعية، رأيت دوافع التسول، كما لم يشرحها أحد. رأيت البؤس بكل أشكاله، وتجلياته، ورأيت اليأس منتصب القامة يمشي، فوق جثمان الأمل. رأيت سوريا التي لم يكترث بها أحد.

في المخيمات العشوائية في بر الياس، رأيت جميع أنواع التسول، تسول الرحمة والشفقة والمأوى والطعام والشراب، لا بل تسول الموت أيضاً. إذ لا يمكن أن أنسى قول تلك العجوز التي لا أعرف اسمها: يا ريتنا، نموت ونخلص. تذكرت بيت المتنبي:

كفى بكَ داءً أن ترَى الموْتَ شافِيَا وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا

في ظلال إحدى الخيم، إن كانت تجوز تسميتها بخيمة، التقيت بأبي زيدان، السبعينيّ الذي أتعبته السنون. تقرأ في وجهه فوضى الملامح، كما تقرأ بمشهده العام بؤس الحياة التي يعيشها. بعد السلام عليه، قدمت إليه سيجارة، وجلست أمامه متربعاً على الأرض. أردت أن أقول له، لا يغرنّك قميصي النظيف، فثمة قلب لاجئ، كقلبك، في صدري. أبو زيدان من قرية الخفسة في ريف حلب، إبنه البكر مفقود، لديه ابنة صمّاء، وولد عمره 11 سنة. زوجته انهارت صحتها النفسية والجسدية، مذ فقدت ابنها. كان يملك في القرية قطعة أرض يستأجرها منه المزارعون، فيتوكأ وعائلته على ما يأتيهم من إيجار تلك الأرض، إلى راتب الابن الذي كان موظفاً بصفة مستخدم في إحدى مدارس المنطقة. ذهبت الأرض و… ذهب الإبن، فوجدت العائلة نفسها عارية إلاّ من رحمة الله. حين جاؤوا إلى المخيم، كانوا يعتقدون أنهم سيجدون حياة ولو في حدها الأدنى، فاكتشفوا أن البؤس، كالترف، ليس له حدود. وحين عضّهم الجوع، لم يجدوا بدّاً من أن يتسولوا. في البداية، ذهب أبو زيدان بنفسه إلى أحد المساجد في المنطقة، وجلس أمام باب المسجد، يستعطي الناس، فلم يجد استجابة لنداءات الاستغاثة. الناس هناك يعتقدون أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والجمعيات والهيئات والمنظمات، كلها في خدمة اللاجئين. عاد بخفّي الخيبة، وترك لابنه وابنته الصماء هذا الخيار. وحين لم يجد الأطفال ما يقتاتون به، توسعت منطقة حركتهم إلى خارج المخيم. بدأوا أولا بنبش حاويات القمامة، وحين لم يجدوا في الحاويات ما يؤكل، تحولوا إلى البيوت، يطرقون الأبواب، ليعودوا مع الغروب بما تيسر لهما ولوالديهما من طعام. لقد أثقلني أبو زيدان بما ليس لي طاقة على تحمله، فانسحبت من لقائه، بخطوات تبحث عن طريق يلمّها. مشيت حيناً من الزمن، ساهماً، مع شعور ممضّ بالعجز. فقد كنت بين خيارين، خيار الكتابة عنهم، أو طلاق الكتابة، كل الكتابة. لازمتني حالة التشتت هذه طوال الليل، وفي الصباح عقدت العزم، أن أغادر إلى منطقة جبيل. كنت أريد الخروج من ذلك اليأس الذي تلبّسني، إذ لم أكن أنا وأسرتي بعيدين عن ذلك المصير، الذي وصلت إليه تلك العائلات السورية. في جبيل ابتعت لنفسي فنجان قهوة، من بائع متجول، وجلست على إحدى صخور الشاطئ، فاقترب مني شاب ثلاثيني، في ثياب رثة، بشرته تميل إلى الشقرة، أقرب إلى الوسامة. سلم عليَّ، وطلب مني سيكارة، فناولته واحدة. جلس قريباً مني يدخنها. سألته إن كان سورياً، فأجاب نعم. من أين؟ قال إنه من سفيرة، وهي منطقة زراعية مشهورة بزراعة الخضر، وخصوصاً البندورة، قربها تقع معامل الدفاع، التابعة لوزارة الدفاع، وقد نشبت فيها معارك طاحنة، لا تزال مستعرة إلى الآن. ناديت على بائع القهوة، وابتعت له فنجان قهوة، وقدمت إليه سيكارة ثانية. سألني إن كنت قد استغربت أن يتسول سيكارة، شاب مثله؟ قلت نعم. كان على ما يبدو يشكو من وحدة قاتلة، ومن صمت لا يمكن تجاوزه من دون نحيب. سألني إن كنت قد سبق وتسولت سيكارة، فقلت إن تسول السيكارة، يحدث مع أغلب المدخنين، حين ينقطعون من السجائر. روى لي أنه جرّب جميع أنواع العمل الشاق، فلم يجد أقسى من التسول. سألته لم لا يبحث عن عمل، فقال إنه يحاول من دون جدوى منذ شهر، وقد نفد ما لديه من مال. سألته أين ينام، فلزم الصمت ولم يجب. حاولت أن أساعده بما أستطيع، فأبى، وغادرني مخنوقاً بعبرته.

انتصف النهار، وأنا مستغرق في قصة ذلك الشاب. لو أنه أخذ مني ما أعطيته إياه، كان من الممكن أن أعتبره نصّاباً، علما أن قسمات وجهه، ونبرة صوته، ولغة جسده، كلها كانت تؤكد لي صدق ما قاله عن نفسه. استيقظت من شرودي على صوت “بصارة” تقف أمامي، وتؤكد لي، أن الفرج قريب، وأنني في مشكلةٍ، حلّها عندها، وما عليَّ سوى أن أبسط كفّي، “وأبيّض لها الفال”. هكذا قالت. فقلت لها قد تستطيعين معرفة مشكلتي، ولكنك قطعا لا تستطيعين حل مشكلة 23 مليون سوري. مشكلتي يا سيدتي ليست شخصية، مشكلتي هي مشكلة سوريا. هل سمعت بدولة اسمها سوريا؟ قالت: الله يفرجها عليكم، وانسحبت.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى