حسين جموصفحات الثقافة

أطفال الحدود يتركون الهتاف وراءهم..وتحت كل زيتونة عائلة تزيح الأغصان للضيوف


في ثورتنا لا يسير أي شيء وفقاً للخطة!

حلب ـ حسين جمو

قبل أن تقلع الطائرة من دبي باتجاه اسطنبول، تشكّل لدي شبه يقين أني لن أتحول إلى جثة في سوريا التي أقصدها. فالتمهيد الأدبي للموت بقي بعيداً عني. أدركت ذلك بطريقة بسيطة جداً: حاولت قبل يومين من موعد رحلتي، القيام بأمور، على أن أدفع نفسي إلى الاعتقاد أن هذه هي المرة الأخيرة التي أفعل فيها كذا وكذا، مثل المرة الأخيرة التي أرى فيها برج خليفة، والمرة الأخيرة التي أقابل فيها صديقاً، والمكالمة الأخيرة مع صديقة..لكن شعور «المرة الأخيرة» هذا لم يراودني مطلقاً. بقيت ساعات أحاول كتابة «ستاتوس» عميق و»أخير» في صفحتي على الفيسبوك ليقول أصدقائي، في حال تهشّمت جمجمتي برصاص متفجر، أن آخر جملة كتبها «الشهيد» كانت عظيمة!

أدركت حينها أن الموت لا يأبه لوجودي، وحياتي لا تشكل مصدر إزعاج له..هكذا سرت في كل الشوارع التي كان يتجول فيها الموت بحلب في نوع من التواطؤ المتبادل.

نصائح من اسطنبول

رغم الخلفية التي أملكها عن معايير تعرّف هوية المدن التي أزورها، إلا ان اسطنبول بدت عصية على التعريف، هي لا تشبه شيئاً وفيها من كل شيء. ربما اتخاذي لها كـ»ترانزيت» إلى سوريا لم يترك لي مجالاً لأتصرف معها كسائح، حتى الكاميرا التي معي لم أستخدمها سوى مرة واحدة لاختبار جاهزيتها. لكن اسطنبول تعج بالناشطين السوريين والصحافيين الغربيين العائدين من سوريا. في شارع الاستقلال يتبادل السوريون السلام من بعيد وكأنهم يسيرون في باب توما بدمشق أو شارع القوتلي في حلب.

التقيت بالصحافي السوري الذي كان عائداً من حلب مع فريق من الصحافيين الغربيين، وكانت نصيحته الأولى: «اتبع تحركات قائد الكتيبة على خط الجبهة وليس الجنود». جيري، مصور صحافي ألماني، اكتسب لقب «أبو حسين» في سوريا، أيضاً طلب مني عدم إطفاء كاميرا الفيديو من أجل الفيلم الوثائقي الذي خططت له مطولاً. صحافية روسية عادت قبل لقائنا بعشرة أيام من حلب ألحّت عليّ بعدم المبالغة في السعي وراء تصوير الحدث، بل أن انتظر الحدث في المكان الذي أتواجد فيه. ملأت جعبتي بنصائح «المخضرمين» واستمعت بحرص إلى طرائف رواها هؤلاء عن الجيش الحر، ولم يخل الأمر من بعض السخرية حول طريقة قتال الطرفين المتصارعين في بعض المواجهات.

الطائرة التي أقلتني من اسطنبول إلى أنطاكيا ازدحمت بالسوريين، أمكن التمييز بسهولة بين لهجاتهم المحلية وهم يتحدثون عبر الهواتف النقالة في المطار. كان يكفي أن يتواجد ضابط مخابرات سوري في القاعة حتى يجمع كنزاً من المعلومات «الحسّاسة» وهو يشرب فنجاناً من القهوة.

هاتاي..الحديقة الخلفية

ساعد طول إقامة الناشطين السوريين في المدن التركية على إنشاء «شبكة أنفاق» من العلاقات، ممتدة من اسطنبول إلى المحافظات الحدودية مع سوريا، وبخاصة في غازي عنتاب وهاتاي. هناك يجد الزائر مثلي خيارات غير محدودة للدخول إلى سوريا.

كان ستة شباب من ادلب يقيمون في شقة بمنطقة «سنّية» في هاتاي، هنا السؤال الطائفي ضروري، فالعلويون موالون للنظام كما لو كانوا جنوداً لديه.. يمكن سماع أغان مديح لبشار الأسد باللغة العربية أو صور الثلاثي (بشار وماهر الأسد وحسن نصر الله) في بعض المطاعم.. يتفادى السوريون المعارضون الإقامة في فنادق أنطاكيا بسبب «إشاعات» عن تقديم العاملين فيها معلومات عن النزلاء السوريين إلى مخابرات النظام. هذه المنطقة تشكل امتداداً سياسياً وثقافياً لسوريا، حيث السنة يرون في الثورة السورية ثورتهم، والعلويون يرونها تستهدف وجودهم. أنطاكيا أشبه بمنطقة خلفية لكل من الثوار والنظام، وتبدو السلطات التركية مرتبكة وغير مؤهلة للتعامل مع أي توتر مذهبي، وقد رضخت لمطالب العلويين العرب بالطلب من السوريين المقيمين في شقق مستأجرة مغادرة محافظة هاتاي وعاصمتها انطاكيا إلى مدن داخلية (سنّية).

كان شابان من الستة يتعالجان من إصابات بليغة نتيجة المعارك بين الثوار وقوات النظام، وبدا لي أن كثرة مرور «الضيوف» عليهم، وهم في طريقهم إلى سوريا، جعل من وجودي أمراً عرضياً. تركّز حديثهم عن ذكريات الأيام الأولى لاستخدام السلاح. أحد المصابين سرد كيف خاض اشتباكاً في الشهر الثالث من الثورة ضد عملاء للأمن في قريته. في هذه المرحلة التي امتدت حتى اقتحام ساحة العاصي في حماة نهاية شهر تموز 2011، كان يُستخدم السلاح على نطاق ضيق جداً، بعيداً عن أعين كل من الأمن ونشطاء التنسيقيات، الذين كانوا سادة الموقف عبر تمسكهم بالتظاهرات السلمية. هؤلاء الشبان لجؤوا إلى إطلاق رصاصات من بنادق الصيد على بعض الشبيحة، وكانت العمليات تتم دائماً بعد منتصف الليل.

لم يكثروا طرح الأسئلة لأنهم يعرفون وجهتي أفضل مني. ولتفادي إزعاجهم في الصباح، أخبرتهم أني سأنطلق بصحبة مجموعة من السوريين في الساعة السابعة صباحاً إلى مدينة كلّس للدخول منها إلى اعزاز. كان أحدهم يعرف أني لن أستيقظ في الموعد، لذا وجدته أمامي في الساعة التاسعة والنصف قائلاً: «لم تستيقظ في الموعد..هذا يعني أنك لن تدخل إلى سوريا في الموعد الذي خططت له.. دعني أخبرك شيئاً.. في هذه الثورة لا يسير أي شيء وفقاً للخطة المرسومة..الأمر ينطبق على رحلتك أيضاً..ولتحفظ هذه القاعدة طيلة فترة مكوثك في سوريا..نحن نخوض ثورة ارتجالية ضد النظام..لذلك يفشل النظام دائماً في كشف خططنا!!»

بعد أقل من ساعة على خروجي من المنزل وجدت ترجمة مثيرة لكلماته، ووجدت نفسي امام خطة مختلفة كلياً، فالمجموعة التي كانت سترافقني من تركيا وفقاً لتنسيق دام اكثر من أسبوع، لم تأتِ، وأرسلوا شاباً آخر لم أعرفه مسبقاً قط، وتغيرت نقطة الدخول، فبدلاً من التوجه إلى كلّس ثم اعزاز أصبحت من الريحانية إلى بلدة أطمة الحدودية التي تقع في ادلب. الخطط الارتجالية هنا سلسة، وتنفيذها يحتاج إلى مكالمة قصيرة يقول الشخص في الطرف الآخر: سأكون بانتظاركم بعد ساعة!. انتظرنا ساعتين في منزل «المنسق» لإدخالنا إلى أطمة، لحين وصول حقيبة كتف مليئة بضمادات الجروح وبعض علب الأدوية التي تستخدم في المستشفيات الميدانية. أقلت سيارة «المجموعة الجديدة» التي تشكلت ارتجالياً إلى مخفر تركي على الحدود وقمنا بتسجيل أسمائنا بشكل نظامي قبل ان تأتي حافلة «رسمية» لتنقل 19 شخصاً -بينهم نساء وأطفال – إلى الحدود.

أشجار النزوح

كانت المفارقة الأولى بعد أن تخطينا الأسلاك الشائكة هو سلاسة الدخول من تركيا و»استحالة» دخول نحو ألفي نازح عالقين في الجانب السوري إليها. ما زالت الكاميرا غير مريحة بالنسبة للسوريين، لكن الأطفال استثناء لهذه القاعدة. يرفعون أصابعهم ليرسموا شارات النصر في حرب لا يبدو أنهم يجهلون هدفها، لكن مقارنة بين حركات الأطفال وردود أفعالهم أمام الكاميرات في الشهور الأولى من الثورة واللحظة التي ضبطتُ فيها كادر التصوير على وجوههم أظهر كم أن الصمت حلّ محل الهتافات التي كانوا يرددونها: فقط إشارات النصر وابتسامات من دون أي هتاف. التحولات التي طرأت على مسارات الثورة ابتلعت معها هتافات الأطفال. ويقول عبد الحي، الرجل الأربعيني من معرة مصرين في ادلب، معلقاً على سؤالي حول الصمت العميق لهؤلاء الأطفال: «ليسوا الوحيدين..اللغة السائدة الآن هي لغة السلاح..النظام استخدم ضدنا ما لم يستخدمه ضد إسرائيل في حرب لبنان 1982..الهتافات والنظاهرات فقدت وظيفتها..هل ترى هؤلاء الأطفال؟ كل منهم رأى أشلاء عدة جثث..حتى الرجال باتوا يكرهون النطق، علينا أن نراقب حتى ينتصر الجيش الحر..الثورة انطلقت مع الأطفال، ثم قادها الشباب ما دون سن العشرين، وعندما حان موعد حمل السلاح تقدم الرجال الذين تزيد أعمارهم عن الثلاثين..لم تعد هناك من كلمة للشباب في هذه الثورة سوى تنفيذ أوامر من هم أكبر سناً». وعندما سألته عن رأيه في تراجع الشباب الصغار، أجاب وهو ينفث دخان سيجارة الحمراء: «هذه حرب بين الكبار«.

طلب مني شاب عشريني ويدعى خليل أن ألتقط صوراً له. مهمته هي تزويد النازحين بمياه الشرب عبر نقل خزانات من أطمة إليهم.. لم أكن قد ألقيت نظرة بعد إلى المنحدر حيث «تحت كل شجرة زيتون عائلة» على امتداد النظر..

يعود عبد الحي ليفاجئنا..فطيبة قلب وبساطة الناس أمثاله تجعل المرء يفكر بالتخلي له عن كل ما يملك وإخراجه مع عائلته من ذلك البؤس حتى ولو على حساب إلغاء الرحلة الخطيرة. فبعد أن غاب عشرة دقائق، عاد ليدعونا إلى كأس من الشاي تحت «شجرة النزوح»..أصرّ كثيراً من دون أن يخفي خجله: «تعرفون يا شباب أن المكان ليس على قدر مقامكم، أنتم ضيوفنا.. أرجوكم لا تؤاخذونا«.

عندما بدأنا بالسير عبر المنحدر المؤدي إلى «أشجار النزوح» على بعد مئة متر من الشريط الشائك على الحدود مع تركيا، أدرت وجهي جانباً بحيث لا يراني العم عبد الحي..كانت دموعي تنساب بتثاقل، وعندما رآني أطفال كانوا ينتظرون أن أصوب عدسة كاميرتي عليهم، تراجعوا..أدركوا أن شيئاً ما احترق في داخلي..لكنهم بقوا صامتين.. في ذلك المكان لم أسمع صوت الأطفال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى