صفحات مميزةعلا شيب الدين

أطلُّ من شرفتي وأنا أرشفُ النسيم وأدخّن الغيم/ علا شيب الدين()

 

 

[إنهم منارات

مات أبي بعد ثمانية أشهر من اندلاع ثورة الحرية السورية. في البيت، على فراشه في الغرفة، مات. في المكان الأحبّ إليه والأقرب. المكان الذي طالما احتضن في كلّ شتاء موقداً «ياما» تحلّقنا حوله، على وقعِ حكايات أمي، وأشعار أبي، وطقطقة الحطب وهو يحترق. في الخامسة صباحاً، مات أبي. شامخاً مثلما عاش. مع طلوع الشمس طلعت روحه. رفع ناظريه، الرفعَ الأخير إلى السقف وانطلق محلّقاً. سقف بيتنا لم يكن يوماً سوى سماء تؤمن بأن ما السماء السابعة، سوى فاتحة السماوات. كنتُ جالسة إلى جانب أبي، أرقبه غير مصدّقة، وهو يفتح السماء السابعة مريداً إشعال نار أخرى هناك، بينما تبرد هنا يده الغالية في يدي رويداً رويداً. اليد السمراء النظيفة، النافرة العروق جرّاء التعب والعتب. اليد التي طالما كسّرت عناد الصخر لكي لا يكسّر الصخر عنادَ صاحبها. اليد التي طالما أمضت عمراً في حلٍّ من مصافحة المعول والرفش والمهدّة والشوكة والمشط وتنكة الباطون والشاكوش والإزميل، مبسوطة ممدودة سخيّة للكرام، للشرفاء، للنبلاء، للأعزاء. مقبوضة أمام المنافقين، أمام اللصوص أجمعين. لصوص الأخلاق والشرف والقيم تحديداً.

عرَقُ الجبين كان رفيق أبي الوحيد على الدروب. كان يسافر إلى لبنان من سوريا رفيقه العرق، ويعود رفيقه العرق. يروح ساخطاً على كل خسّة ونذالة، ويجيء ساخطاً على كل خسّة ونذالة. يبصق ذهاباً ويبصق إياباً، لاعناً كلَّ دجَل. لعنة أبي قاتلة ككل لعنات الأرواح الأصيلة. أبي كان على عداءٍ دائم مع كل سلطة: دينية، سياسية، اجتماعية /ثقافية، فكرية. يجهرُ بنفاق السلطة ووساختها أينما ذهب، دونما أدنى اعتبارٍ لدبلوماسيات وأناقات وتفاهات وترّهات. ينقد ببريّته النقيّة، في الآن عينه المجتمعَ الكذّاب، والسلطةَ السياسية الكذّابة. يجوب الأمكنة سالخاً جلدَ العجرفة عن عظمها، مقداماً، مرفوع الرأس، موفور الكرامة.

أبي السوري الذي كان يتركنا في البرّية حيث بيتنا، في حضن أمي اللبنانية التي طالما عشقَها، وكنّا خلاصة عشقهما الذي قطّر عسلاً فأنبتَ قمحاً، ظلّ ردحاً طويلاً من حياته، مسافراً راحلاً، حاملاً حقيبة ثيابٍ بنيّة. ظلّ يحملها حتى اهترأت، فاستبدلها بأخرى زرقاء، لازمتْه هي الأخرى طويلاً في سفره الدؤوب الكادح الهادف إلى محض بناء بيت وتعليم أبناء. مات أبي تاركاً بيتاً عظيماً ببساطته، مبنيّاً من محض قطرات عرق، وكرْماً زرعَه بالصبّار والتين واللوز والعنب والزيتون، و(نحن). أجمل ما في بيتنا، حكمتُه في كونه ظلّ عمراً لم يكتمل، ولا يزال. ظلّ سنوات مديدة من دون أبواب ولا شبابيك، يزورنا الثلج شتاءً، ضيفاً عزيزاً أمام الغرف المفتوحة على بعضها وعلى الطبيعة والكون. أمّا الريح، فقد ظلّت سنوات مديدة أيضاً، تشبق «المشمّعات» على النوافذ مريدةً الاقتحام، على وقع ندائنا: هبّي يا ريح. هبّي أكثر. حين صار لبيتنا، في ما بعدُ، أبواب ونوافذ، بقي حراً، مفضِّلاً الانفتاح على العالم، على الشمس والسماء والقمر والنجوم والصنوبر و»الريح والثلج» أيضاً. وحين صار عندنا كذلك تلفزيون، بعد طول حرمان منه، كنّا نلتهم عالم الشاشة الأبيض والأسود، التهاماً، على الرغم من كونه لا يشبه الحياة الملوّنة في شيء. كنّا نلتهم بعيون مشدوهة، كل ما يُعرض على قناتَين وحيدتَين مشوَّشتَين دائماً. كان أبي كلّما أطلّ مشهدٌ يظهر فيه حافظ الأسد أو عائلته، أو أي شيء يخصّ الجيش والعسكر، يبدأ بالبصاق؛ فتذهب أمي بهدوئها المعتاد، ثم تعود حاملة «خرقةً» تمسح بها ما يسيل على الشاشة. يغادر أبي الغرفة خجِلاً من تعذيب أمي الملقَّبة من القاصي والداني بـ»الجوهرة». أمي التي لم تكن بالنسبة إليه، ليليق بأصابعها غير ملامسة الجوريّ وتمّ السمكة والحنبلاس والقرنفل في أحواضها وفي مطرَّزاتها وحريرها وملاءاتها.

بعض مَن رآنا مفجوعين، يوم مات أبي، قال: لا تبكوا. لقد ماتَ بكرامة، في بيته، على فراشه. الناس الآن تموت على قارعة الطريق. الجثث مرميّة في كل مكان تنهشها الكلاب. هناك مَن لم يستطع دفنَ أحبابه. هناك مَن مات واعتُبر مجرّد رقم جرّاء تشوّه جثته وغياب هويته في ملامحه المعجونة المطروقة.

وقتذاك، لم نعر الكثير من الاهتمام لذاك الكلام. لكنه كان ولا يزال كلام حقّ. لِمَ البكاء؟ لِم ارتداء الأسوَد؟(إن كان ثمة لون ينبغي قتله الآن وكل آن، فهو الأسود. «الداعشيّ» خصوصاً). أمضى أبي عمراً بلباس الشغل، بالجزمة والطاقية، حاملاً المعول في يد، ومشعل الحرية في يد. قلّما أحبَّ تغيير شكله ومضمونه هذين. عاش شغّيلاً فاعلاً، لا موظفاً حكومياً مفعولاً به مترفاً وفاسداً. عاش ساخطاً، عصبيّاً يشعله الكذبُ والنفاق ناراً حارقة ومنيرة دفعة واحدة، غاضباً عاصفاً، رافضاً معارِضاً، كادحاً حراً، شاعراً طيّباً مُحبّاً الشعر وقراءته، كحبّه للسيجارة التي لم تفارقه وبقيَ مخلصاً لها حتى بعدما أوغلت مفاعيلُها في معدته. ظلّ مخلصاً للحظات الفرح الحقيقيّ، للمبارزة أمام طاولة النرد، لضرب كؤوس «الأُوف» و»الميجنا» بصوته الجبليّ العالي المذهل. أيضاً، ظلّ مخلصاً للنهوض عن المائدة قبل الشّبع بقصد توفير الطعام لنا. كان حاضراً في المضافات دوماً كرجل جدير، واقفاً يكره المنبطحين والعبيد والمتسوّلين والممالئين. فلِمَ البكاء؟! لِمَ ارتداء الأسود؟! يستحق أبي أن ننعم بتركَة ألوانه كلّها. لعلّ روحه الشاعرة كانت أهمّ ما تركَ. كانت شقيقتي الكبرى، الشاعرة الراحلة وفاء شيب الدين(1972- 1998)، شغوفة بأبي كشاعرِ حياة. مثلُه لم تنتمِ يوماً سوى للحرية. تقول في إحدى قصائدها، المجموع بعضها في ديوان تحت عنوان «خطيئة الرّمّان»: ستموتين مطعونة من الخلف/ تقول نبوءة الشتاء المدقوق بالأبيض/ سيتكرر يهوذا في وجوه مَن تحبّين/ وسيضيع بينهم/ ذلك الجسد سيتولى أميرة لذّاتكِ/ أمام الرّكعات المرفوعة بتعبٍ…وعتب/ سينبجس دمكِ على الثلج/ ولأول مرّة ستتعرّين كالجريمة/ لأول مرّة سيُراق الذي فكّر كثيراً/ كيف هو العالم في الخارج؟/ لأول مرّة/ سيتدفق الساخن المدفون دون عتمة/»والموت حرية الاعتزال».

ذات يوم، عادت وفاء إلى البيت، سعيدة مرِحة. كنتُ مراهقة صغيرة، أنصتُ بشغف إلى كلّ ما ترويه شقيقتي الكبرى عن الشام والجامعة، عن الأحلام الشابة والهواجس اللامعة. راحت تقصّ حينذاك، كيف بعثرت وصديقة، في يوم عاصفٍ، أوراقاً تحت أشجار «المدينة الجامعية»، كتبتا عليها: «من أين لكَ شرَف الشهادة يا باسل؟!» إنه باسل الأسد نفسه، الذي مات سنة1994، وصار مذاك يشكّل عدم حفظ اسمه: «الشهيد الرائد المهندس المظلي الفارس الذهبي باسل حافظ الأسد»، وعدم ترديده هكذا بالحرف الواحد، كابوساً مرعباً في المدرسة، وفي الجامعة في ما بعدُ، بعدما تحققَّ حلمي في دخولها، وفي الذهاب إلى الشام أسوة بشقيقتي الكبرى. أتذكر أني في أول مرة أذهب فيها إلى المدينة الجامعية، بعدما سجّلتُ في الجامعة، كلّمت سائق سرفيس، طالبةً منه توصيلنا إلى «المدينة الجامعية»، فلكزَتْني صديقتي هامسةً بخوف وتبكيت: «لازم نقول مدينة باسل الأسد الجامعية».

شهداء ثورة الحرية والكرامة السورية، هم أيضاً يستحقون أن ننعم بتركِة ألوانهم وبرَكَتها. أن ننتبه دوماً إلى مناراتهم لكي لا تضلّ سفنُنا. فلنقرأ كتُبَ الشهيد محمد نمر المدني وأشعاره وترجماته مثلاً، ولنناقش أفكاره وآراءه ورؤاه، بدلاً من تذكّره دوماً كفقيرٍ مات (استشهد) وليس في جيبه سوى ثلاثين ليرة سورية!. («ومن يقسْكم بأقلّ أعمالكم شأناً، يكُنْ كمَن يَقدُرُ جبروتَ المحيط بوَهَن زَبَدِه« جبران خليل جبران «النبي»ص95).كم يحزنني استحضار ذاك الكاتب الشهيد، على مواقع الكيتش الاجتماعي، بصورة:» أنا جائع، منذ يومين لم أذق طعاماً، الطعام لا يكفي فأتركه لأولادي. في جيبي ثلاثون ليرة« ثم: «يا حرام»!. مات هذا الكاتب والباحث السوري الوطني، تحت التعذيب في أحد فروع المخابرات الأسدية، في عام2012، لأنه كان كادحاً، مناضلاً، معارضاً رافضاً حقيقياً. فبدلاً من «يا حرام»!، فلنمعن مثلاً في الآتي مما كتبَه بتاريخ 15تموز2011، على موقع «الشبكة العربية العالمية»، في مقال تحت عنوان «تأسيس للحوار بين الطوائف»: «لابد من الحوار.. فتفضلوا، جميع السوريين، لنتحاور بصدق وبطريقة حضارية. تفضلوا نحترم بعضنا البعض. ونستخدم عبارات وكلمات لائقة بالحوار، تفضلوا يعلن كل شخص عن أفكاره ورؤيته، ويطرح أفكاره ولنتبادل الآراء حتى نصل إلى نتائج توافقية بيننا جميعاً«. في تلك الفترة، أتذكر أن صبيّة «أقلّوية» ضاحكة دوماً، لطالما أتقنت نفسها كثائرة «فيسبوكيّة» مدخّنة بأظافر حمراء طويلة؛ اعتُقلت على الحدود السورية- اللبنانية، قبل الإفراج عنها بعد أيام قليلة. حازت الصفحة التي أُنشئَت لها خلال بضعة أيام على ألوف «اللايكات». واستُحضرت باعتبارها «بطلة خارقة». لا أرى، على أي حال، أن في هذا مدعاة للأسف، لأن مَن يُرى كثيراً لا يُرى كثيراً. الكثير الذي يستهلكه ضوءٌ إعلانيّ، يقلّ مع مرور الأيام، ليصعدَ كثيرٌ آخر مختلف، ينمو ببطء في حنايا العتمة الخصبة الماكرة.

على المواقع نفسها، حين تكون محض كيتش، يحدث أيضاً ألاّ يعود يُذكر، على سبيل المثال، بطلٌ من أبطال دوما في غوطة دمشق الشرقية، ابراهيم الدرة أبو صبحي، بائع البقدونس المسنّ، بحِرام رأسه التقليديّ المعروف ذي المربعات البيضاء والسوداء، الذي قضى شهيداً يوم5نيسان2012، بعدما أُعدِم ميدانياً برصاص الاحتلال الأسدي. أبو صبحي نفسه الذي لحقَ مرّة بشباب دوما الفارّ من رصاصٍ أُطلِق على تظاهرتهم، طالباً منهم البقاء، منادياً عليهم ببيتَين من قصيدة شفيق جبري التي كتبها بعد جلاء الاستعمار الفرنسي عن سوريا :يا فتيةَ الشام للعلياء ثورتُكم/ وما يضيع مع العلياء مجهودُ/جُدتُم فسالتْ على الثورات أنفسُكم / عَلّمتُمُ الناسَ في الثورات ما الجُودُ«. يحدث ألاّ يعود يُذكر هذا الشهيد سوى في صورته وهو مستسلم للموت، مثير لشتى أنواع الشفقة المجانية. في حين يجب أن تكون صورة أبو صبحي الدرة الأولى، حاضرة دوماً ومتوهجة، كونها إحدى الصور التي تشير إلى فحوى الثورة السورية. كونها الرسالة التي ينبغي تناقلها، بل تعليمها للأجيال القادمة، وتكريسها كمنارةٍ يُهتدى بها، ولكي نخرج، تالياً، من ثقافة الـ»ياحرام»، إلى ثقافة المجد العقلانيّ، والثقة بالنفس، والعطاء والقوة الجديرة.(ترى لماذا تميل الغالبية في مجتمعاتنا إلى رؤية الآخرين بائسين، ويخيفها ربما رؤيتهم ناجحين صاعدين؟ ألِأنّ ثقافة مجتمعاتنا، هي ثقافة موت في المقام الأول؟ ألِأنها ثقافة حزن وبكاء ورثاء، مع خالص الاحترام لهذا كلّه أيضاً؟)

في السياق نفسه، وعلى سبيل المثال أيضاً، يمكن الحديث عن منارة أخرى. عن رجل آخر مسنّ، من بلدة سرمين بريف محافظة إدلب، هذه التي بعدما تعرّضت في يوم17آذار2015 إلى غارة جوّية أسدية ألقيَت خلالَها براميل متفجِّرة تحوي غازات سامة، حسب ناشطين وإعلاميين، سقط على إثرها قتلى من الأطفال والكبار، فضلاً عن المصابين والجرحى. أطلّ الرجل في فيديو، بعباءةٍ بنيّة وحِرام رأسٍ تقليدي أبيض وأحمر. في وسط ركام البيوت المدمَّرة، وقف شامخاً ساخطاً صادحاً صائحاً:»ما بدنا ياكْ. هدول مو إرهابيين. هدول أبطال. هدول ثوّار. هاي شوكة بعينَكْ هاي. منعمِّرا. منعمِّرا وبضل إسما سرمين».

[ أطلُّ هادئة على الأسفل، من شرفتي وأنا أرشفُ

النسيمَ وأدخّن الغيمَ هازئة..!

في موازاة الآباء الشخصيين، كان ثمة أب عام، لطالما نزع إلى انتزاع الأبناء من آبائهم الطبيعيين ونسْبهم إليه إرضاء لنرجسيّة مستفحِلة مريضة تتطلب بحثاً ودرساً معمَّقَين. هكذا، كان حافظ الأسد، «أباً» عاماً، مثلما كان قائداً ملهماً خالداً، ورمزاً لأمةٍ عربية، سيُمسي «كلبُها» بعد اندلاع الثورة عام 2011، وانبجاس اللاوعي الجمعي السوري الذي طالما ظلّ مكبوتاً ردحاً طويلاً من الزمن، في بعض الهتافات التي تعالت في التظاهرات يوم كانت الثورة سلميّة. ذات يوم ماطر، قارس، أُخرِجْنا في مسيرة مسائيّة، في مناسبة «تجديد البيعة»، كنّا في الصف الثامن على ما أظن. جُبنا شوارع البلدة. هتفنا حتى انبلحت قلوبُنا، وبحّت حناجرُنا ونحن نقول «حافظ»، رداً على سؤال زميلة طفلة مثلنا، أوكِلَت إليها مَهمّة الصياح بأعلى الصوت الذي لا يعرف لماذا هو متحمّس إلى هذا الحد:»بتحبّوا مين؟ وحبيبكم مين؟». كنّا في معمعة استرضاء الآلهة الأسدية، واتقاء شرورها في ذاك اليوم الماطر، خائفين من فصلِنا من المدرسة، أو إنقاص علاماتنا، حسب ما قيل لنا على سبيل تحذير كل مَن تسوّل له نفسه بعدم الذهاب إلى المسيرة.

كان سندويش الزيت والزعتر حاضراً دوماً لا يتغيّر على مدار السنة الدراسية، وكنتُ أسأل أمي: «حافظ الأسد بياكل زيت وزعتر؟» فتقول: لكان شو يا إمي! هوّي إنسان». لا أزال أحتفظ بمعظم وثائقي كـ»الجلاءات» الممهورة بصورة «الأب» حافظ الأسد، ووثائق أخرى من مثل»هوية الطليعي» تعود إلى الصف الثاني الابتدائي. في الأمس، أخرجتُها من حقيبة قديمة. رحتُ أمعنُ في ملامح تلك الطفلة: غير معقول! ما هذا القلق لدى كائن طريّ صغير إلى هذا الحد! ما هذه الحساسية المفرطة في بريق العينين المذعورتَين! ممَّ هما خائفتان هكذا؟ لقد قتل الخوف هذا الكثير من الأحلام والطموحات. خوف «تعلّمناه» على ما يبدو، مع تعلّم أبجدية اللغة الأم، أو ربما رضعناه معها وقبلَها وبعدَها. صُفِعتُ مرّة بينما كنّا نتعلّم كتابة حرف «النون»، لا لأني كنتُ أشاغب آنذاك، ولا لأني كسولة، لكن كنتُ ألحُّ في طلب قلم رصاص من المعلمة، فأزعجتُها، ما دفعَ برفيقتي لأن تهبّ من مقعدها لتعطيَني قلمَها. مَن يصدّق ذلك! أكَثيرٌ على الأطفال أن يكونوا أحياناً أجمل وأنبل وأرقى وأذكى بما لا يُقاس من كبارٍ شيمتهم العجرفة والتسلّط؟!

 

في مناسبة عيد المعلم، كانت أمي تصنع لنا حلوى اسمها «صفوف»، لونها مائل إلى الأصفر بفعل بهار «العقدة الصفراء»، لكي نأخذها إلى المدرّسين والمدرّسات المحتفَى بهم في المدرسة. دائما كنتُ أشعر بأن الحلوى الخاصة بي ووُفْرتها، لا تأخذ حقّها من التقدير، كمثل التقدير الذي يُقابَل به «الأقلّ» الذي يجلبه غيري من الزملاء، من أبناء المدرسين والمدرسات، أو من أبناء «الشهداء» والأثرياء والموظفين الحكوميين والحزبيين. وكم كنتُ أشتهي أن آكل من الحلويات والفاكهة التي طالما كان الإداريون، يهرعون إلى جلبها من «تبرّعاتنا»، كلّما زارَ المدرسة وفدٌ «حزبيّ». كانوا يتحلّقون حول الطاولات، يلتهمون، وكنا نتفرّج، وإن شاؤوا، يعزمون على بعضنا من قبيل «الرأفة»، أو «يحسنون» إلى بعضنا بقطعة حلوى أو حبة فاكهة. كان عيباً أن نطلب. بل عار. خصوصاً أن أمي كانت توصينا بألا نقبل أي شيء من أي أحد، ونكتفي بالقول: «شكراً عنّا كل شي بالبيت». على هذا الأساس أيضاً، كنا نرفض أنا وأخوتي كل ما يأتي من»حسنات»، معتبرين أمراً كهذا جارحاً لعزّة النفْس والكبرياء. لم نقبل يوماً منحة من مثل دفاتر وأحذية أو غير ذلك مما كان يأتي أحياناً على سبيل التقدمة إلى أولاد الفقراء، كما كان يفعل غيرنا من الزملاء. لستُ أدري مَن كان يأخذ ما نرفضُه، بدلاً منّا، لكن كان كبرياؤنا هذا يثير إعجاباً ضمنياً، مثلما كان يثير تندّراً وسخرية أيضاً. إذ كيف «تُرفَس» النعمة؟! يجب أن تنحني دوماً، تشكر وتسبّح باسم «المانحين» جميعاً. عليك أن تنبطح كثيراً وقليلاً. هكذا تستلزم العملية التعليمية والتربوية في بلاد الاستبداد الغاشم. لا كبرياء هنا. لا عزة. لا شموخ. لا أنفة. وإلا سوف تبقى الغريب المنبوذ الملفوظ المقصيّ المهمَّش الملعون المطرود. ولن تحصلَ، طوال حياتك، على ما قد يساعدك في تحقيق أحلامك وذاتك. حتى على مجرّد وظيفة تافهة تأكل منها خبزاً. (على سيرة «المكرمات»، كانت أمي في تلك الفترة، تحبّني أن أرافقها أنا بالذات إلى «مشاويرها»، لأني كنتُ سهلة الاستيقاظ باكراً، لا أعذّبها في ذلك مثل أخوتي. كانت توقظني الساعة الرابعة صباحاً. نسري أنا وهي في العتمة إلى الفرن، لكي نحجز دوراً قبل بدء الزحمة التي كانت في ذلك الوقت تعني ألا تعود إلى البيت قبل الساعة الثانية ظهراً مثلاً، و»ياما« مرّت أمام ناظريّ مشاهد «خناقات» بين الخبّازين والزبائن، ومشاهد أخرى يكون فيها شرطيّ ما أو عنصر أمن، آخِر الواصلين فيأخذ الخبزَ أولاً ويغادر. كنتُ أرافقها أيضاً، إلى الجمعيّة المختصّة بتوزيع قنينة زيت صغيرة وعلبة سمن، مرّة كل ستة أشهر أو أكثر، على «المواطنين»، شرطَ اصطحاب «دفتر العائلة»، وعلى الرغم من كونها كانت مشتريات، إلا أنها كانت توزّع باعتبارها «مكرمات». أتذكرُ أن المحال التجارية آنذاك، في الثمانينات من القرن المنصرم، كانت شبه مقفرة، والكثير من البضائع كان مفقوداً. راجت حينذاك، نكتة سرّية مستوحاة من مشهد إطلالة حافظ الأسد على «الجماهير»، ملوّحاً بكلتا يديه ثم ضاماً الكف إلى الكف. تقول النكتة: «ما في سمن. ما في زيت. بعْصركُن عصر؟»).

في العودة إلى المدرسة، كانت سياسة التمييز ممنهجة على ما يبدو، وكانت أشدّ ما يولّد القهر والغلّ في النفوس. أحد مظاهر السياسة تلك مثلاً: اختيار تلاميذ محدَّدين لكي يكونوا دائماً روّاداً في طلائع البعث، وتكريسهم كمتفوقين دائمين في كل شيء، حتى في الرقص والمسرح وما شابه. كنتُ أعشق الرقص، الشرقيّ خصوصاً، لكن لم يحصل يوماً أن اختارتْني المدرّسة من أجل المشاركة في أيٍّ من التمثيليات المسرحية «المعدودة المحدودة» التي قامت في مناسبات الأعياد «الوطنية». اختارت مَن يُخترْنَ دوماً، بنات المدرّسين والمدرّسات و»الشهداء». في إحدى «المسرحيات»، أدّت الزميلات على «الخشبة»، بلباس موحّد أدوارَ «بطولة» ضد الاستعمار، بينما وقفنا نحن في الأسفل أمام المسرح، نتفرّج. نصفّق ونحتفي بزملاءٍ مثلنا تماماً يُقدَّمون إلينا كمبدعين رفيعين. مذاكَ، صارت رغبتي الطموحة في الرقص تنكمش رويداً رويداً، إلى حدود غرفة خاصة ومرآة صادقة تقول ما أنا عليه دونما تفكير.

من أبناء «الشهداء»، ما كان ليَطلبَ مثلاً مدرّسٌ ما سكبَ الماء في راحتَيه لغاية غسلهما. المدرّس نفسه، لم يطلب من ابنة أخيه «الشهيد»، سكبَ الماء في راحتيه، بُعيد الانتهاء من درس العلوم الذي أجرى فيه تجربةً متواضعة استعملَ خلالها مواد استدعت غسل يديه. لكنه طلب منّي ذلك، كسيّدٍ ليس لي أن أنسى ملامحه المتعجرفة. هل سيظنّ أحدٌ الآن، أن ثمة اهتماماً بالدرس والعلم، كان؟ لَعمري إن المدرسة كانت، في جزء كبير منها، موئلَ فرزٍ نسويّ متخلّف بين جميلة وقبيحة، بين هذه تصلح للزواج، وتلك لا. كان معيار الجمال الأوحد الذي يكرّس دونية هذه الفتاة «التلميذة» ويرفع من شأن تلك، هو البياض والشقار والشعر الناعم المسترسل والشفاه الرفيعة. أتطلّع الآن من سماء شرفتي صوب ذاك المنحدَر المنحط، فاكتشف كم كنّا ولا نزال جميلات بسُمرتنا الجذّابة وشعرنا الليليّ وشفاهنا المغرية، وكم كنّ قبيحات أولئك اللواتي طالما صُوِّرن لنا كملكاتٍ في الجمال.(أوَليس في هذا عنصرية تقترب من تلك التي تُعلي من شأن ذوي البشرة البيضاء وتحطّ من شأن ذوي البشرة السوداء؟ بلى، وكم كنتُ ولا أزال لا أستسيغ اسم حلوى «راس العبد»!).

في الصف العاشر، كلّفَنا أستاذ «التربية القومية» مرّة، كتابة موضوع «تعبير» عن «الحركة التصحيحية المجيدة»، فعبّرتُ. أخذَ الأستاذ المواضيعَ إلى البيت، وفي اليوم التالي، أعادَ الدفاتر إلى الجميع، عداي. قال لي بالحرف الواحد:» بدّك تعملي حركة تصحيحية ثاني؟ ليش مين إنتي؟ أقسم بالله لو ما كنتي صغيري وبعدك ما نضجتي سياسياً لجبتلّك الأمن السياسي فوراً». كنتُ قد كتبتُ آنذاك، موضوعاً آملُ فيه حركة تصحيحية أخرى، «سارقةً» الفكرة من شقيقتي الكبرى، متأثِّرة بها لا أكثر ولا أقل، إذ لم تكن لدي أفكار تصحيحية أو غير تصحيحية. تذكّرتُ هذا التفصيل بالذات، بينما كنتُ مرّة في نقاش مع مثقف «كبير»، ذات لقاء سنة2012، أبديتُ خلاله اعتراضاً على موقف أدونيس من الثورة السورية ومن حرية الشعب السوريّ، فأجاب المثقف «الكبير»: «ليش مين إنتي لتنتقدي مثقف كبير ومهم مثل أدونيس؟!». يبدو أن «ثقافة ليش مين إنتْ؟» معمَّمة في «آفاق» الاستبداد و»رحابه» كافة.

وكان أنّ في إحدى سني المحْل التعليميّ، قد مرّ فصلٌ دراسيّ كاملٌ، لم يكن هناك أستاذ لإحدى المواد، ولم نتعلّم شيئاً مما في الكتاب، فاجتمعنا أنا وزملائي في الصف (القاعة)، صبياناً وبناتاً، ورحنا نبحث عن طريقةٍ معقولة نحتجّ من خلالها على عدم وجود مدرّس لتلك المادة، ونطالب بإحضار مدرّس (عجيب! كيف لم يتوفّر مدرس، في حين توفّر الشاغر؟ مع أن الأبواب كانت توصد دوماً في وجه طالبي الوظائف «وما أكثرهم!»، بحجة عدم توفّر «شواغر». الحجة التي طالما مات الكثير جرّاءها قهراً). المهم أننا قرَّرنا أخيراً أن «نعتصم» في اليوم التالي في أثناء «الاجتماع الصباحي» في باحة المدرسة قبل الدخول إلى الصفوف، وأن نصرّ على عدم دخول الصف مهما جرى، حتى يجلبوا لنا مدرّساً. كنّا بذلك، فطريّين على ما يبدو، إذ لم يكن لدينا وعي سياسي حقيقي. أتساءل الآن مستغرِبة: من أين جئنا بمفردة «اعتصام» وقتذاك؟! وكيف اهتدينا إلى هذه الوسيلة الاحتجاجية غير المعروفة على الإطلاق في ذاك الوقت؟! لا أجد إجابة، سوى إن الشعور بالظلم قد يولّد لدى المرء، من حيث لا يدري ربما، دافعاً ما إلى اختراع شيء ما حياله، تماماً ربما كما شعرتْ رفيقتي تلك حين أعطتني قلمَها كردّ فعلٍ فطريّ طفوليّ عفويّ على تعنيف المعلمة لي في غير وجه حقّ. نفّذْنا الاعتصام. دخل الجميع إلى صفوفهم، إلا نحن في شعبة البكالوريا، بقينا واقفين، نطالب بمدرّس، فكان ردّ أستاذ «التربية العسكرية» ومدرِّبها: «نحنا ما عِنّا هون شي إسمو اعتصام. فوتو عالصف أحسن ما نجبلكن الأمن السياسي يشحطكن شحط». البعض منا كان أكثر عناداً وتصميماً من بعضنا الآخر، لكن في النهاية دخلنا جميعاً إلى الصف على رغم أنوفنا، وبقينا من دون مدرّس، حتى إننا اضطررنا إلى دراسة كتاب «المحاسبة»، وحدَنا. قدّمنا الامتحان، الأغلب نجح، والبعض تفوّق، منهم أنا.

-2-

اتُهِمَ مرّة أستاذ مقرَّر «مبادىء الأخلاق» ببيع الأسئلة الامتحانية للطلبة في قسم الفلسفة. فأُحيلَ على القضاء. في الفصل الدراسيّ التالي عادَ الأستاذ نفسه إلى تدريسنا، كأنّ شيئاً لم يحصل. أحدٌ لم يشرح كيف ولماذا وما الذي جرى حتى عاد هذا الأستاذ إلى مزاولة المهنة. ذهبتُ إلى رئيس قسم الفلسفة آنذاك، قاصدةً سؤاله حول أمر كان جارحاً بالنسبة إليّ. لا أنسى نظرة الازدراء التي استقبلَتني بها الموظفة(أغلب موظفي البعث نسَخٌ، يتعلّمون مع مرور الأيام والسنين، كيف يصيرون لئاماً، كارهين للناس، ومتجبّرين). تبلكمتُ. بقيتُ واقفة نحو ربع ساعة لم يُسمح لي خلالها بالجلوس على الكرسيّ. أخيراً، بعدما «تفضّى» لي رئيس القسم، سألني لِمَ أنا هنا، فشرحتُ. شكرَني بعد الشرح، على اهتمامي بـ»الأخلاق» وقال في «بساطة»: إن القضاء برّأه. ومع السلامة.

في تلك الفترة، كانت قد سرت شائعات عن انتحار أحد رجال المخابرات «الكبار». في إحدى محاضرات «الإبستمولوجيا» التي طالما كانت تتناول السياسة كـ»علم» متسائلةً حول ذلك، سمحَ لنا أستاذ الإبستمولوجيا، بـ»معرفة» أي شيء في ما يخص «نظرية المعرفة»، شرطَ الابتعاد عن «المعرفة» في السياسة. كان هذا بمثابة ردّ على محاولة أحدهم سؤاله: «هل انتحرَ رجل المخابرات إياه أَم قُتِل؟».

كانت «الحياة» الجامعية للشباب والشابات مؤطَّرة دوماً. الحب فيها منبوذ، والعشق ممنوع، لكن مسموح بالجلوس «العاهر» أمام صنم حافظ الأسد المهيب وهو يحمل كتاباً ضخماً في وسط الساحة الكبيرة في «المدينة الجامعية»، وأنت تتأمّل نفسك كجامعيّ قزَم أمام تمثالٍ عملاق وكتابٍ إسمنتيّ لا يساوي نبض قلبك العاشق حياله شيئاً. في عام 2007، سُيِّر الطلبة كالأغنام لكي يشاركوا في مسيرةٍ ضخمة تحت عنوان: «منحبّك»، لغرض «تجديد البيعة» لابن حافظ الأسد هذه المرّة. بينما كانت المهرجانات «الراقية» في «أوتستراد المزّة» على أشدّها، كان حمَلة العصا داخل «المدينة الجامعية» قُبالته، يلاحقون بعض الطلبة الرافضين المشاركة وأنا منهم، من مكان إلى مكان، بالشتم والصراخ. بعدما أُقفِلت مداخل المدينة الجامعية ومخارجها كافة. بينما كانت الاستعراضات البهلوانية على أشدّها لرأب الصدع، وترميم الشعور بالنقص المتولّد عن «كَحْشِ» الطاغية وجيشه من لبنان عام2005، كان هناك طلبة ليس معهم ثمن ربطة خبز، تُسحب منهم بطاقاتهم الجامعية ولا تُعاد إليهم إلا بعدما ينتهوا من المشاركة في مسيرة «الحُب» إياها.

-3-

في «سوريا الأسد»، النجاح «النظريّ» ممكن، لكن كل ما يقترب من أن يصير عملانيّاً، واقعياً، يصير، في المقابل، شبه مستحيل شيئاً فشيئاً، خصوصاً إن كان الشخص واقفاً، نظيفاً، غير ممالئ وغير منافق. وعليه، فالنجاح نظرياً بالنسبة إلى مجتهدٍ من أمثالي كان ممكناً في «مسابقةٍ» ما، لكن النجاح نفسه في المقابلة التي من شأنها «التعيين» الفعلي العملانيّ، كان يعني المستحيل في ذاته. هذه كانت إحدى سياسات المراوغة الأسدية القهرية حيال»المواطنين» في بلاد البعث والعروبة. اللغة العربية مثلاً كانت الأساس دوماً، حتى أنها مادة مرسِّبة في المدارس، هذا في المستوى النظري، لكن في مسابقات التعيين، تصبح اللغة الإنكليزية هي المرسِّبة. كيف؟ يُطلَب من ناسٍ تعلّموا بركاكة لغة إنكليزية ركيكة في مدارس حكومية ركيكة. ناس لا يمكنهم إجراء دورات من شأنها تحسين اللغة الإنكليزية كونها مكلفة مادياً، يُطلب منهم النجاح بنسبة عالية في امتحان اللغة هذه، كشرط «تعجيزيّ» أحياناً وإلا لا تعيين(معلومٌ، على أي حال، ما الذي يتطلّبه التعيين في «مؤسسات» البعث). يدخل هذا عادة، ضمن السياسة المزدوجة التي طالما اتّبعها نظام البعث في سوريا. يمعن، على صعيد الداخل خصوصاً، في تأكيد نفسه كـ»ممانع ومقاوم وقومي وعروبيّ». يمعن، من جهة أخرى، في إظهار نفسه للعالم، الغربيّ على وجه التحديد، كعلمانيّ منفتح ومتحضّر، عبر إجراء مسابقات تعيين شكليّة، على المتقدمين إليها أن ينجحوا باللغة الإنكليزية وبالمعلوماتية، لكي يجدوا «فرصتهم» في التعيين.

في مسابقةٍ خاصة بوزارة الخارجية عام 2004. كنتُ قد نجحتُ في الاختبار النظري آنذاك، وكنتُ من بين قلّة نجحوا على مستوى «الجمهورية». في الاختبار النظري الكتابيّ، كان الآتي واحداً من الأسئلة المطروحة: هل يحقّ لإيران امتلاك سلاح نووي لأغراض سلمية؟. كلمتُني آنذاك: «ليش مشغولين بإيران ومشاريعها كل هالقدّ؟». بعد اندلاع ثورة الحرية عام2011، صارت الغالبية الساحقة، تعرف أشدّ المعرفة، «ليش كانو مشغولين» بإيران و»بَعدهن مشغولين». قبل أن نذهب إلى المقابلة في مبنى وزارة الخارجية، نصحَ موظفٌ: «تعو بلباس رسميّ. تعو بشَعر مهندّس ومش منكوش». استدنتُ آنذاك، حتى تمكّنتُ من شراء لباسٍ «رسميّ» لم أحبّه يوماً مثلما لم أحبّ يوماً «هدوء» الساسة والدبلوماسيين. ذهبنا. كالعادة: أجواء رهبة وترهيب. قذارة تسود وتفوح. هذه «شر..» تبتسم هنا(بالمناسبة، «الشر..» الحقيقيّة، دبلوماسيّة هادئة، قلّما تُعصِّب)، وذاكَ برفقةِ مسؤولٍ «يحوص» هناك. تخرجُ من مُناخ القوادة و»التعريص» هذا، مُريداً رميَ نفسك في أقرب نهرٍ لغرض الاغتسال فحسب. يضنيكَ في البداية الضبابية عدمُ «قبولك». لتكتشف، بعد انقشاع الضباب، أنّ ما من دليل دامغ على رفعةِ أخلاقك وجمالك ونباهتك، أهمّ من عدم قبولك موظفاَ في مملكة الفساد والانحطاط. إنها دولتُنا وهم محتلّوها. لذا، كان ولا يزال، الصحّ الوحيد في حياة السوريين، هو الثورة.

-4-

خضتُ تجربة التدريس بشكل مؤقت، في ثانويات عامة عديدة قبل اندلاع الثورة، وقبل فصليَ لاحقاً، من التدريس المؤقت هذا، بسببٍ من مواقفي الحرّة، غير الممالئة للسلطة البعثية الأسدية وأتباعها ومرتزقتها؛(فُصِلتُ على الرغم من «معدني النظيف»! وهذا كان وصف مدير الثانوية العامة لي. المدير الذي قدّم لي أيضاً كتابَ شكرٍ وتقدير موقَّع ومختوم من إدارة المدرسة ومن مديرية التربية في السويداء، على إثرِ مساهمتي في نشاطٍ كان الأول من نوعه في مدارس البعث، حيث شجعتُ الطلبة على القيام بمشروعٍ قدّمنا خلاله حلقات بحث تضمّنت مواضيع فلسفية واجتماعية مهمّة، احتفظت بها إدارةُ المدرسة، في أرشيفها، لكي تكون مرجعاً)، لكن لا أهمية لأي شيء قبالة أن تكون موالياً منافقاً فاسداً حراميّاً ولصاً وقوّاداً في بلاد البعث الأسديّة. طلبَ منّي مرّة مدير إحدى الثانويات العامة: «ألاّ أعطي الطالب حقاً حتى لو كان مُحقّاً». طلبٌ أخذَني مباشرة حينذاك، إلى سنوات القهر التي طالما عانيتُها وغيري، في المدرسة. كانت تفاصيل السنوات تلك وكلّياتها، وراء حرصي على أن أكون إلى جانب الطلبة المقهورين (وهل ثمة غير مقهورين في بلاد البعث؟)، حين صرتُ مدرّسة في مدارس البعث المهينة نفسها. ناداني المدير وغيري من المدرّسين والمدرّسات مرّة لغاية الوقوف وقفة «وطنية». بالفعل، وقفنا أمام الطلبة في باحة المدرسة، بينما راح المدير يخطب بالجميع. يبدو أنه كانت هناك تعليمات آنذاك في خصوص «الإمعان» في تأييد حركة «حماس» في سنة 2008. بعدما أنهى المدير الخطابَ، طلبَ من الطلاب أن يدفع كلٌّ منهم مبلغ 25 ليرة سورية، وأن يعملوا على تشجيع ذويهم على التبرّع من أجل غزّة. على سبيل المداعبة، ابتسمَ أحد الطلاب؛ فهبَّ المدير قائلاً: عبتضحكْ! إلّي بعمرَك بفلسطين عبيلبس حزام ناسف ويفجّر حالو»!. المهم، انتهى الاجتماع، ودخلنا غرفة الإدارة، ثم سَرَت أجواءٌ ساخرة مفادها: «هنّي (أي الطلاب) يِدفعوا الـ25ليرة وما بدنا شي ثاني».

كالكثيرين، لم يجرِ تعييني في مسابقة التدريس التي أُجريَت عام2010، على الرغم من نجاحي بتفوق في الاختبارات كافة التي طًلبَتْ في شأنها. طفحَ كيلي حينذاك؛ فكسرتُ كمبيوتري الذي طالما اشتريتُه بشقّ الأنفس. مرّت أيام معدودة، على واقعة كسرِ الكمبيوتر تلك، قبل أن يتناهى إلى سمعي من الراديو قرب سريري، بينما كنتُ شبه غافية؛ خبرٌ يقول إن شاباً تونسياً أحرق نفسه، جرّاء يأسه وقهره من عدم الحصول على عمل. تغلغلَ الخبر إلى أعماقي. بدا كأنه استقرّ في قاع القاع، قبل أن ينتفض مجدَّداً، على إثر توارد أخبار ذات صلة، تقول إن الشاب الذي أحرق نفسه، اسمه محمد البوعزيزي، وأن شوارع تونس قد غصّت بالثائرين بعدما ألهمهم هذا الشاب المحتجّ على الإهانة والذل، وأن الطاغية في تونس قد ولّى هارباً. راحت أمواج الثورة تتلاطم في داخلي: «ونحنا كمان من حقنا نثور. نحنا كمان بدنا حرية. نحنا كمان شباب مظلومين مثل البوعزيزي، ما عنّا عمل وضاعت أحلامنا. سوريا كمان من حقّا تخلَص من الطغيان والظلم».

لكن المثير للدهشة حقاً، كان «سهولة «عرْضِ «وظيفة حكومية» عليّ! من قبَلِ رئيس فرع «الأمن العسكري» في السويداء، حين جرى استدعائي إلى الفرع نفسه، بتاريخ1نيسان2014، بقصد منعي من مواصلة الكتابة للثورة السورية وعنها. دامَ الاستدعاء نحو تسع ساعات متواصلة. لم يكن في الإمكان مغادرة المكان، من دون التوقيع على «تصريح» بعدم العودة إلى الكتابة، وكان الضغط «النفسيّ» القاسي «الممنهج والمدروس» الذي طالما تعرّضتُ له بعد ذلك التاريخ، واحداً من بين أسبابٍ كثيرة، دفعَني أخيراً مُكرَهة إلى مغادرة سوريا في أيار الماضي. (لم يكن ثمة تعليق آنئذ، في ما يخصّ الوظيفة الحكومية «المعروضة». الآن أيضاً: لا تعليق).

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى