صفحات الرأي

أطوار طرابلس – لبنان: من زمن الدولة إلى زمن السيبة… أصول السلفيّين وأسباب صعودهم ودور الزعامات والقيم التقليديّة

 

القسم الأول

حازم صاغيّة وبيسان الشيخ

في أحد أيّام 1984 تقدّم شبّان مسلّحون من تمثال عبد الحميد كرامي في المدخل الجنوبيّ لطرابلس في شمال لبنان فأزاحوه. وفي المكان الذي حلّ فيه نُصب رئيس حكومة سابق، وُضع آخر عليه اسم الله الذي يعلو قرابة مترين، كما كُتب تحته: «طرابلس قلعة المسلمين». وبعدما عُرفت الساحة المحيطة بالتمثال بـ«ساحة عبد الحميد كرامي»، صار اسمها «ساحة النور»، فيما جعلتها التسمية الشعبيّة الشائعة «ساحة الله». كان ذاك الفعل الغريب الذي أقدم عليه شبّان «حركة التوحيد الإسلاميّ» إيذاناً بأنّ طرابلس المعهودة اكتمل تغييرها وتمّ. فمن يعرف «عاصمة الشمال» في الستينات والنصف الأوّل من السبعينات، يذكر كيف كانت دور السينما الحديثة، من كولورادو إلى بالاس ومتروبول وسواها، تصطفّ في بولفار عزمي، عارضةً آخر الأفلام التي ظهرت في نيويورك وباريس. يومها كان نظام القيم مختلفاً، وكان سكّان طرابلس يُقبلون على التعليم والوظائف، إذ الطبيب والمهندس والمحامي و»ابن الدولة» هم المرغوبون. كذلك كانت «شركة نفط العراق»، شمال المدينة، تغري الطرابلسيّين بحياة بدت في المتناول.

وكان للمدينة في تلك الغضون قوام المدن: ساحة التلّ مركزها الموروث عن الزمن العثمانيّ، غير بعيدة عن الأسواق الداخليّة التي تحضن الميراث المملوكيّ. وباب التبّانة، في شمالها، الأهراء الذي تصبّ فيه الحبوب والخضار والفاكهة الوافدة من عكّار والضنيّة، والزاهريّة حيث مدارس الإرساليّات الأجنبيّة وبيوت الطبقة الوسطى، والميناء إلى الغرب يفتحها على البحر الأبيض المتوسّط. يومذاك لم يكن السنّة والمسيحيّون والعلويّون يهيمون ببعضهم بعضاً، إلاّ أنّهم، مع هذا، لم يكونوا يتقاتلون ولم يكن أحدهم يهجّر الآخر، بل درجوا على تبادل الزيارات والمعايدات وباقي «اللياقات» المعهودة.

هذا كان زمن الدولة والتفاؤل باحتمالات مفتوحة. لكنّ طرابلس اعتنقت، قبل سواها، دين اللادولة. ففي 1974، وقبل أن تنفجر «حرب السنتين»، نشأت فيها «دولة المطلوبين» التي استقرّت في أسواقها الداخليّة، بزعامة الطافر العكّاري أحمد القدّور. وكانت تلك الحركة التي دعمتها وسلّحتها منظّمة «فتح»، الإشارة المبكرة إلى أسبقيّة طرابلسيّة دفع سكّان المدينة أكلافها الباهظة.

أصول السلفيّة الطرابلسيّة

لكنّ اللادولة قطعت شوطاً طويلاً مذّاك ربّما كان السلفيّون الحاليّون تتويجه المنطقيّ. والسلفيّون يتّفقون، في رصد نشأتهم، على أنّ إمامهم الأوّل ابن بلدة القلمون الملاصقة لطرابلس جنوباً، الشيخ محمّد رشيد رضا الذي تتلمذ على الشيخ محمّد عبده وعُرف بصحيفته الشهيرة التي أصدرها في مصر «المنار». وقد تأثّرا بالأخيرة، من دون أن يعرفا رضا، المحدّث محمّد ناصر الألباني الذي أقام في دمشق، والشيخ سالم حسن الشهّال الذي باشر الدعوة السلفيّة في طرابلس أواسط القرن الماضي، وهكذا ظلّ إلى أن توفّي قبل سنوات ثلاث.

لكنّ الدعوة، كما يلخّصها الشيخ حسن الشهّال، ابن شقيق الشيخ سالم، تنهض على تجاوز عصور الخلاف بين المسلمين، من بداية العصر الأمويّ حتّى يومنا هذا، والرجوع إلى صدر الإسلام الأوّل الذي هو عصر النبوّة والخلفاء الراشدين. لكنْ لئن فات الشيخ حسن أنّ ذاك العصر شهد «حرب ردّة» فيما قضى قتلاً ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، بقي الهدف عنده وعند باقي السلفيّين الأخذ عن النبيّ وأصحابه وأتباعه من بعده. فالدعوة السلفيّة، إذاً، هي العودة إلى الإسلام ببساطته الأولى التي تُرسم حقبةً مثلى.

والشهّال إذ يستعرض يستدرك، مبرّراً المكوث الطويل في الماضي: «الدين ليس كالعلم لأنّ حركته تعاكس التطوّر العلميّ الماديّ. العلم يتغيّر فيما الدين ثابت في أصوله مثلما علّمه الرسول. أمّا باب الاجتهاد فمفتوح لتطبيق الدين على واقع جديد».

استقبلنا الشيخ حسن في مكتب متواضع تابع لـ «جمعيّة الدعوة والإرشاد» في أبي سمرا، تزيّنه شعارات ورموز إسلاميّة، ووراءه علم «لا إله إلا الله» باللون الأخضر. فهناك يشرف الشهّال على مسجد ومدرسة يعلّمان، بين أشياء أخرى، الرواية السلفيّة للتاريخ.

ولا يخفى أنّ وطأة التاريخ ثقيلة على تلك الرواية، تحتلّ فيها بدايات الدول الإسلاميّة ونهاياتها، لا سيّما انهيار السلطنة العثمانيّة، أمكنة فسيحة. مع ذلك ليس هناك كبير خلاف بين السلفيّين في أصلهم العقيديّ ومراجعه، وإنّما الخلاف يكمن، وفق الشيخ حسن، في السياسة والانتخابات. وبما يذكّر بنقاشات يساريّة شهيرة في الموقف من العمل البرلمانيّ، يشير الشيخ إلى سلفيّين يختارون العزوف عن الانتخابات لأنّ رأي الأكثريّة من عامّة الشعب يغلب فيها رأي العلماء، فضلاً عن أنّ هناك بين المقترعين من يُشترى بالمال. لكنْ إلى جانب هؤلاء النقّاد النخبويّين، ثمّة سلفيّون أكثر راديكاليّة يعترضون انطلاقاً من رفضهم الخضوع لنظام وضعيّ والانضواء في برلمان يعمل بموجب فكر سياسيّ غربيّ.

هكذا تتنوّع الآراء في السياسة وفي الإقبال عليها بين السلفيّين، وصولاً إلى رأي بالغ التطرّف يبديه الشيخ عمر بكري فستق الذي يرفض البرلمان «لأنّ الله وحده هو المشرّع».

حدود القوّة

لكنْ ما حدود قوّة السلفيّين الفعليّة في طرابلس؟ فالشيخ بلال الدقماق الذي قصدناه في مكتبه الذي تزيّنه كتب دينيّة طُبعت أغلفتها بحروف ذهبيّة، وصُفّت بعناية لا ارتجال فيها، يرى أنّ الحركة السلفيّة هي الأقوى، ليس في طرابلس فحسب، بل في مناطق الشمال السنّيّة عموماً، لكنّه ينعى فقدانها القائد وتعدّد قادتها. وفعلاً فالباحث عن قياديّ كاريزميّ للسلفيّين يجتمعون حوله لا يلبث أن يعود بخفّي حنين، إذ يتبدّى أنّ كلّ شيخ من شيوخها لديه «تنظيمه» انطلاقاً من الجامع الذي يصلّي فيه أو الحارة التي ينشر ظلّه فيها. والواقع هذا الذي ينمّ عن التركيب الأحيائيّ والحاراتيّ للمدينة، سبق أن استعرض نفسه في «حركة التوحيد». فآنذاك، في الثمانينات، سريعاً ما تفسّخت الأخيرة إلى عدد من «الأمراء» الذين استقلّ كلّ واحد منهم بالسلطة على شطر من طرابلس.

مع هذا تبقى ثمّة أسماء أبرز من غيرها. هكذا مثلاً يظهر اسم الشيخ سالم الرافعي الذي أعلنه مهرجان يوم الجمعة الماضي أميراً. لكنّ ما يقال عن الرافعي يقتصر على إقامته سابقاً في ألمانيا، وعلى أنّه «يأكل السندويش مع الشباب» تدليلاً على بساطته وشعبويّته. أمّا النجم الصاعد الآخر فالشيخ حسام الصبّاغ، الأصغر سنّاً، والذي يوصف بـ «الأستراليّ» لهجرته إلى أستراليا التي يهاجر إليها الكثيرون من فقراء الشمال حتّى عُدّ مهاجروها مصدراً من مصادر الدعم الماليّ لسلفيّي طرابلس.

ويضيف الدقماق أنّ «السلفيّين متشرذمون، وكلّ واحد يريد أن يتقرّب من بلد ما». وقد كان للتشرذم هذا، معطوفاً على «ضعف الماديّات»، أن تسبّب بإغلاق بعض المعاهد السلفيّة في المدينة. لكنّ الشيخ السلفيّ رائد حليحل، الذي يرى أنّ السلفيّين أقوى أطراف الحالة الإسلاميّة، ينبّه إلى سبب آخر وراء التشرذم، هو أنّ السلفيّة تاريخيّاً حركة دعويّة وليست تنظيميّة، فهي بالتالي لا تملك التقليد التنظيميّ الذي يترجم فعاليّتها على أحسن وجه. والسلفيّون في معظمهم جاؤوا إمّا من «حركة التوحيد» التي أسّسها الشيخ الراحل سعيد شعبان أو من «الجماعة الإسلاميّة» الإخوانيّة. لكنْ في 1989، وكانت أربع سنوات قد انقضت على تصفية «التوحيد»، تعزّزت الحركة السلفيّة بوصول جيل جديد درس في الخليج، كان أبرزه الشيخ أسامة القصّاص الذي قتل في أواخر الثمانينات ويتهم أنصاره الأحباش، أو «جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة» المدعومة سوريّاً بالتورط.

مع هذا ففي 1998، سنة رحيل سعيد شعبان، اتّفق جميع الإسلاميّين، وفي عدادهم السلفيّون، على تشكيل لائحة غير مكتملة تقتصر على تسعة مرشّحين من أصل 24 لخوض المعركة البلديّة، فيما شكّل الرئيسان رفيق الحريري وعمر كرامي لائحتين كاملتين متنافستين. وعلى رغم الوجود العسكريّ السوريّ، فاز ثمانية من أصل المرشّحين التسعة، علماً بوجود أصوات مسيحيّة وعلويّة يستحيل أن تنتخب أيّاً منهم. وهي تجربة يستنتج منها الشهّال أنّ الإسلاميّين «حين يتّفقون ويتعاونون يكونون القوّة الأولى، وهذا قبل الربيع العربيّ، فكيف الآن؟».

ومُحدّثنا يبدو معنيّاً بقيام اتّفاق كهذا، جازماً بأنّ الإسلاميّين سيطالبون بحصّتهم في الانتخابات العامّة المقرّرة الصيف المقبل. فطرابلس يُرجّح أن تشهد قائمتين على الأقلّ، واحدة لكرامي والأخرى لـ «تيّار المستقبل»، أمّا الحالة الإسلاميّة فستكون «بمثابة العروس» التي يخطب ودّها الطرفان.

ولا شكّ في أنّ المعنويّات ارتفعت مع رحيل القوّات السوريّة، في 2005، فأعيد فتح المعاهد السلفيّة التي سبق أن أُغلقت وكانت تضمّ ألف طالب وطالبة يدرسون العلم الشرعيّ. وقد حاول السلفيّون مبكراً تقليد «الجماعة الإسلاميّة» في إنشائها المدارس والمؤسّسات الخيريّة، فأقاموا مؤسّسات من ضمن المساجد، معظمها مدارس للتعليم الدينيّ وتحفيظ القرآن، فضلاً عن ملعب لكرة القدم. وهو ما يراه الأستاذ الجامعيّ سامر أنّوس محاكاة لـ «النموذج الإسلاميّ الجزائريّ» في إقامة مجتمع مضادّ.

بيد أنّ تعريف القوّة يبقى على شيء من الغموض. فالشباب السلفيّ يعدّ بالمئات، كما يقدّر الشيخ بلال. إلاّ أنّ عدد السلفيّين ليس مهمّاً في نظر الناشط والمدرّس غابي سرور. فهم «ربّما كانوا قلائل، غير أنّ الجوّ العامّ في طرابلس يذكّر بمناخ احتضان الثورة الفلسطينيّة في الستينات والسبعينات». فالأمر في النهاية أمر مناخ، لا أمر عدد.

أيّة سياسة، وأيّة جذريّة؟

ليس الشيخ حسن الشهّال من الذين يدعون إلى مقاطعة السياسة. فهو، على العكس، من دعاة الانخراط فيها، يستشهد بتجربة السلفيّين المصريّين البرلمانيّة، ويجزم بأنّ السلفيّين لو اتّفقوا استطاعوا، بالتفاهم مع إسلاميّين آخرين، أن يحصدوا نصف المقاعد البرلمانيّة في طرابلس. غير أنّه لا يلبث أن يضيف بأسى: «لكنّ بعضهم اليوم عند الرئيس عمر كرامي، وبعضهم عند الرئيس نجيب ميقاتي، وهكذا دواليك…».

وبالفعل فالشيخ حسن الستينيّ، الذي نال شهادة دكتوراه في الأدب العربيّ من الجامعة اليسوعيّة، أقلّ السلفيّين راديكاليّة. فهو فخور بعائلته وبـ «أبناء العائلات» عموماً، كما أنّه فخور بمدينته طرابلس، بحيث أنّ تقديره للشيخ الصيداويّ أحمد الأسير لا يمنعه من القول «إنّ طرابلس لا تكون إلاّ مركزاً قياديّاً». وإلى ذلك تراه لا ينسى الاعتزاز بلبنانيّة صريحة.

والشهّال الذي يجيد عرض آرائه وشرحها، على غرار الكوادر المتقدّمة في الأحزاب اللينينيّة، يرطن بكلام ميثاقيّ كان يمكن لميشال شيحا أن يكتبه. فعنده أنّ العلاقات المسلمة – المسيحيّة، وكذلك السنّيّة – الشيعيّة، لا تقوم إلاّ على الحوار لنشر ثقافة السلام، ذاك أنّ لبنان «ينبغي أن يكون مثالاً يُحتذى». أمّا مأخذه الأوّل على حزب الله فأنّه إيرانيّ أكثر منه لبنانيّاً، بدلالة أخذه بـ «ولاية الفقيه (…) فيما أنا لبنانيّ أوّلاً». لكنّه يأخذ أيضاً على الحزب أنّه اتّخذ قرار الحرب من دون مراجعة باقي اللبنانيّين ومشاورتهم، علماً أنّهم دفعوا ويدفعون الأكلاف الباهظة لحربه. ولا يلبث الشهّال أن يضيف: «النبيّ نفسه في معركة بدر استشار المسلمين (…) قرار الحرب مع إسرائيل ليس بسيطاً وتلزمه شروط كثيرة لا يستطيع لبنان كلّه أن يؤمّنها».

وهو يميل إلى كلام مباشر في السياسة أكثر من ميله إلى القضايا النظريّة والمجرّدة. هكذا يتحدّث بمرارة عن شعور لدى الطرابلسيّين بأنّهم مُستَهدَفون من ميشال عون الذي يصفه بأنّه «أسوأ من حزب الله»، ويعتبر، وهو السلفيّ الضارب في الزمن، أنّ «القانون الأرثوذكسيّ يعيدنا 200 سنة إلى الوراء». لكنّه، في غمرة الكلام اليوميّ، يسجّل لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي انتماءه إلى عائلة متديّنة ظهر فيها مُفتون، فيما يسجّل عليه، بلغة مُعاتبةٍ، تحالفاته وقيام حكومته على دعم حزب الله وعون.

وبمعنى مشابه يرى بلال الدقماق أنّ ميقاتي «بلا تاريخ أسود، ولم يؤذ أحداً»، إلاّ أنّه «ارتكب خطأ بتشكيله هذه الحكومة وتحالفه مع السوريّين وحزب الله». وحين يأتي الشيخ بلال على ذكر اللواء أشرف ريفي واللواء الراحل وسام الحسن يُرفق ذكر كلّ منهما بكلمة «صديقي». وحين يأخذ الشيخ رائد حليحل، الآتي من صفوف «الجماعة الإسلاميّة»، على ميقاتي سياسته السوريّة، يحرص على تلقيبه «دولة الرئيس»، وعندما يشير إلى مفتي الجمهوريّة يسمّيه «سماحة المفتي». أمّا حسن الشهّال فيصف العلاقة بدار الإفتاء في طرابلس بأنّها «جيّدة»، وإن كانت «طبيعيّة» فحسب بمفتي الجمهوريّة، مضيفاً: «إنّنا لا نريد لدار الفتوى أن توضع في جيب أيّ سياسيّ، بل أن تُصلح ذات البيّن بين السياسيّين السنّة في حال خلافهم».

والحال أنّ الوحيد الذي يشذّ عن اللغة التسوويّة هذه هو الشيخ عمر بكري فستق متحفّظاً عن «جميع» مشايخ لبنان. فهو يقول إنّه «جرّبهم كلّهم»، ورأى أنّهم يستشهدون بأقوال لسياسيّين وقادة عسكريّين وأمنيّين، فيما الإسلاميّ الصحيح لا يقول إلاّ «قال الله وقال الرسول».

أي قطع؟

واقع الأمر أنّ السلفيّين ليسوا ثوّاراً راديكاليّين، بل يقدّمون أنفسهم، لفظيّاً على الأقلّ، بوصفهم متصالحين مع جميع القوى والمؤسّسات السائدة، وأحياناً طامحين إلى رضاها. ولا يملك متأمّل المشايخ السلفيّين إلاّ أن يلاحظ ذاك الميل الموارب إلى التعويل على ما هو غير سلفيّ البتّة، عملاً بوجهة كونيّة بات يُنعت بها الإسلاميّون. فالشهّال الفخور بدراسته في اليسوعيّة يتعاطى الـ «إي ميل» وإن كلّف به مساعداً له، فيما البكري يقول إنّه يدرّس طلاّبه في بريطانيا عبر الإنترنت. وحين يسخر الدقماق من سلفيّين أقلّ «علماً» يقول إنّهم «يستفتون الشيخ غوغل والشيخ ياهو». أمّا الشيخ رائد حليحل فأمامه كومبيوتر يعاود النظر إليه والتحديق فيه. وهو يحدّثنا عن «فايسبوك» والـ «واتس أب» كأدوات تواصل يستخدمها السلفيّون في الدعوة إلى تظاهراتهم ومناسباتهم الكبرى، وهذا بالطبع فضلاً عن المساجد بوصفها «البيئات الحاضنة». وإذ يودّعنا الشيخ رائد لا ينسى إبداء اهتمام أبويّ بأهميّة الإعلام، كما لا يفوته تعليمنا كيف نكون إعلاميّين جيّدين. وكمثل الباحث عن شهادة حسن سلوك من بيئة متّهمة بسوء سلوكها، يتشارك فستق والدقماق في التباهي بأنّهما شاركا في جلسات «توك شو» تلفزيونيّة، وأنّ محاورهما الصحافيّ قال لهما إنّهما غيّرا رأيه في السلفيّة.

غير أنّ هذا الامتثال، وكما تقول تجارب لا حصر لها، لا يعني أنّ الممتثل سيبقى هكذا إلى ما لا نهاية. فحين يستكمل الضعيف، المدجّج بالأفكار الحاسمة، تحوّله إلى قويّ، لا يظهر منه إلاّ تلك الأفكار الحاسمة التي توجّه شفرتها إلى أقوياء الزمن الماضي.

وهذا لا يعني أصلاً أنّ السلفيّة تنمو من دون قطع، لكنّ ما تباشر القطع معه هو العدوّ الضعيف، أي في التأريخ الطرابلسيّ، العهد الفلسطينيّ – اليساريّ. فأبناء ذاك العهد لا يتحسّسون فقط الغربة عن السياسة كما يمارسها السلفيّون، بل شيئاً من فقدان المعنى الذي يوقع صاحبه في الاكتئاب. هكذا حدّثنا شابّ متفرّع عن تلك الحقبة النضاليّة أنّ أهل الحيّ الذين كانوا يحيّونه ويتقاطرون للسلام عليه قبل سنوات قليلة، فقد لديهم ذاك الامتياز في ظلّ الصعود السلفيّ، خصوصاً منذ اندلاع الثورة السوريّة، فصار يمرّ بينهم كمثل أيّ عابر سبيل.

وقد يكون الشيخ إبراهيم الصالح عيّنة أخرى، ولو اختلفت قليلاً، عن الفئة هذه. فابن شقيق الشيخ صبحي الصالح الذي انتقل من «منظّمة العمل الشيوعيّ» إلى المشيخة، على جناح الانتساب إلى «حركة التوحيد»، يقول إنّ المرحلة «صعبة كثيراً»، مشكّكاً بصلاح تعبير «حالة إسلاميّة» في طرابلس. ففي رأيه أنّ الثمانينات شهدت مثل هذه الحالة التي جسّدتها «مدارس فكريّة» كالإخوان وحزب التحرير وحزب الدعوة وأجواء الثورة الإيرانيّة. أمّا اليوم فلا شيء من هذا. ذاك أنّه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، سيطر على الشارع الإسلاميّ «خطاب متوتّر وشديد العاطفيّة». وإذ غاب العقل، صارت السياسة تقتصر على اتّهام سوريّة بكلّ شيء، علماً أنّ سوريّة، في نظر الشيخ، لم تقصّر في الإساءة إلى طرابلس.

والصالح الذي يتحدّث بمصطلحات حديثة، ويدخّن الغليون ويظهر في زيٍّ «مودرن» لابساً سترة جلديّة أنيقة، يُقحم تعابير أجنبيّة في كلامه، ويستعرض أفكاره بدماثة، إنّما بصلابة ضمنيّة تميّز طرق المجادلات اليساريّة القديمة. وهو لئن اتّهمه خصومه بـ «علاقات مع حزب الله»، ردّ بتأكيد تمسّكه بـ «المقاومة»، وإعلان تحفّظاته عمّا تبقّى من نظريّات حزب الله. لكنّ الصالح يملك، في مواجهة السلفيّين، حججاً أخرى، منها نسيانهم موضوع فلسطين، وعدم طرحهم مسألة العدالة، بل اقتصار دعواهم على الخلاف السنّيّ – العلويّ. وهو إذ يُلمح إلى «أوامر مصدرها الأجهزة الأمنيّة» يتقيّد بها السلفيّون، يغازل التفسير التآمريّ بنفيه كلّ عنصر داخليّ عن نشأتهم وإحالتها إلى تحريك خليجيّ، وإلى «قرار بتعطيل دور الأزهر ومرجعيّته». ولأجل أغراض كهذه، تعرّضت طرابلس وتتعرّض لدفق ماليّ «خياليّ» تجاوز المال الذي كان عرفات يبذره في المدينة.

لكنّ الصالح، الذي يرعى «منتدى طرابلس»، كان وحده من مضيفينا مَن حضّر لنا القهوة والشاي بنفسه، من دون أن يزعم النطق بلسان قوى جماهيريّة معلنة أو مخبّأة.

الطبقة السياسيّة

لا يعمل سلوك الطبقة السياسيّة الطرابلسيّة إلاّ كرافد يعزّز الوجهة المقلقة. فالزعامات التقليديّة، وفق الشيخ بلال الدقماق، تقلّصت وتحوّل بعضها زعامات ماليّة. ذاك أنّ أُسَر المقدّم وحمزة والأحدب إمّا اندثرت سياسيّاً أو انكمش نفوذها، فيما تراجع آل كرامي تراجعاً يجعل البعض يعيّر الوزير فيصل كرامي بأنّه «ممثّل الشيعة في الحكومة».

والحال أنّ الضمور في شعبيّة «تيّار المستقبل» والرئيس سعد الحريري، التي لا تزال تُعدّ الشعبيّة الأولى في الوسط التقليديّ، بات واضحاً. فقد دلّ إليه هزال الحفل التأبينيّ الذي أقيم للّواء وسام الحسن، الأمر الذي يردّه البعض إلى توقّف خدمات «المستقبل» في المناطق الشعبيّة قبل ثلاث سنوات. فإذا أضفنا تبخّر الوعود بالمشاريع التي أطلقها الرئيس سعد الحريري قبيل الانتخابات العامّة، فهمنا سرّ الانكماش ذاك.

ليس هذا فحسب، فالسياسيّون التقليديّون يسترضون السلفيّين، لا بالمواقف وحدها، بل بالأعطيات الماليّة أيضاً. والشائع أنّ ميقاتي «أكثر من يدفع»، فيما «يدفع» مصباح الأحدب لغويّاً برفعه الجرعة السنّيّة والدفاع عن المساجين الإسلاميّين في كلامه. لكنّ النائب المستقبليّ محمد كبّارة أنشأ أيضاً «اللقاء الإسلاميّ» لجمع التيّارات الإسلاميّة فيه والاحتفاظ به جسراً يربطه ويربط «المستقبل» بها. وبين الصفات القليلة التي يوصف بها الشيخ السلفيّ سالم الرافعي أنّ «المستقبل» يغازله لأنّه يهدّد بسحب بعض شبابه إليه.

 ونزعة الالتحاق هذه ليست جديدة في طبقة يصفها غابي سرور بأنّها رضخت، في ما مضى، لكل الموجات المشابهة، من الناصريّة إلى المقاومة الفلسطينيّة إلى التوحيد، واحتمل التوحيد الذي أقام «إمارة» لا تُحتمل. فحتّى لو كانت التذمّرات تشمل 90 في المئة من السكّان المحبّين للأمن والاستقرار، تبقى الطبقة السياسيّة أسيرة صمتها المقدّس. ولئن اعتصم أمام سراي طرابلس مئات الشبّان المطالبين بمدينة منزوعة السلاح، فإنّ جهودهم ظلّت أضعف كثيراً ممّا يتطلّبه إنقاذ مئات آلاف الطرابلسيّين.

والحال أنّ الزعامة الطرابلسيّة عرفت في العهد الاستقلاليّ طورين لم ينطو أيّ منهما على علاقة فعليّة بين السياسيّ والمسوس. فمع الرئيس الراحل رشيد كرامي، بدت السياسة، أقلّه حتّى صعود المقاومة الفلسطينيّة، أشبه باحتكار مغلق تجرّأ قليلون، كالمحامي قبولي الذوق والطبيب البعثيّ عبد المجيد الرافعي، على تحدّيه. والزعامة الوطيدة والواثقة هذه لم تنهض فحسب على التفويض الكامل للعهد الشهابيّ الذي أبقى كرامي رئيس حكومة لسنوات متتالية، ولا على التماهي الذي أقيم بين الناصريّة والكراميّة، فضلاً عن بنوّة رشيد لعبد الحميد كرامي، أحد زعماء الحقبة الاستقلاليّة. فإلى ذلك كلّه ارتكزت الكراميّة إلى حقيقة أنّ الإفتاء في طرابلس بقي في بيتها طوال أربعة قرون مديدة.

أمّا في الطور الثاني الذي سادته الحركات العاميّة والجماهيريّة، فصار السياسيّ تابعاً وملحقاً لا يطلب إلاّ الاحترام اللفظيّ والبقاء على قيد الحياة إلى أن «تتغيّر الظروف»، فيما الظروف لا يغيّرها إلاّ الله الذي هو على كلّ شيء قدير.

وبالطبع لعبت مسألة الهويّة دوراً بارزاً في هذا التبادل الذي أحلّ، مرّة بعد مرّة، أولويّة القضايا على أولويّات المدينة ومصالحها. فالتشنّج المتوارث حيال لبنان والوطنيّة اللبنانيّة كان يخلق تباعاً للعروبة الناصريّة والمقاومة الفلسطينيّة والإسلام النضاليّ سحراً لا يُقاوَم، وإن كان التفتّت الطرابلسيّ نفسه هو ما كان يبدّد هذا السحر بأن يترجمه حارات متقاتلة وزعامات متناحرة.

ولأنّ التجارب المتكرّرة لم تعلّم الطرابلسيّين شيئاً، نشأ للمدينة سياق آخر مستقلّ عن باقي لبنان، فيما نشأت لها لغة قائمة بذاتها، وغدت المسافة التي تفصلها عن بيروت أكثر كثيراً من 80 كيلومتراً. فإذا جاز النقاش في ما إذا كان لبنان دولة فاشلة أم لا، فالأمر المؤكّد أنّ طرابلس مدينة فاشلة.

الديموغرافيا والثقافة

لم تصل طرابلس بين ليلة وضحاها إلى الحالة التي هي فيها اليوم. وهي ما كانت لتبلغ هذا الدرك لولا جملة من التحوّلات التي تتصدّرها الديموغرافيا. فتاريخ المدينة ربّما كان تاريخ انتقال مديد، إنّما متّصل، من دواخلها إلى ظاهرها.

ويبدو أنّ العمليّة هذه بدأت في النصف الثاني من الخمسينات، حين أقيمت منطقة «المنكوبين» بسبب فيضان نهر أبو علي. هكذا توالت حركات هجرة من الأسواق الداخليّة وجوارها وساحة الأميركان التي غادرتها «عليّة القوم»، المتعدّدة الطوائف.

وهناك، إلى يومنا هذا، عديد البيوت الشرقيّة البديعة المبنيّة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي غدت، بجدرانها المقشّرة وشرفاتها المتصدّعة ونوافذها المتهالكة، أقرب إلى أطلال تنمّ عن ماضٍ يزداد ابتعاداً. والأمر نفسه حصل، على نطاق أوسع، في السبعينات والثمانينات، فانتقلت عائلات أخرى من منطقة الزاهريّة إلى شوارع المئتين وعزمي الجديدة والحديثة، ثمّ هجرت عائلات مسلمة ومسيحيّة الزاهريّة لتقيم في قضاء الكورة. ودائماً كانت الأحياء المتروكة تجد في سكّان المناطق الشماليّة السنّيّة الوافدين إلى طرابلس من يملأها.

وهذا ما يفسّر أنّ قسماً كبيراً من السلفيّين غير طرابلسيّين، يعودون في أصولهم إلى عكّار والضنيّة وإن سكنوا في مناطق طرابلس، لا سيّما منها باب التبّانة. لكنّه يفسّر أيضاً ترييف القيم بحيث يقول أحد الطرابلسيّين «القدامى» المتذمّرين ممّا آلت إليه الأحوال أنّ ثلثي النساء في المدينة محجّبات اليوم، أمّا الثلث غير المحجّب فنسبة مرتفعة منه تعود إلى الأرياف المسيحيّة المجاورة لطرابلس. وتندرج في قلب الترييف هذا أسلمة شعبيّة وجدت طريقها إلى رئاسة البلديّة التي حلّ فيها السيّد نادر غزال، الموصوف بالتعاطف مع «المستقبل» و»الجماعة الإسلاميّة» في الآن ذاته. فاليوم تنفتح أجهزة الكومبيوتر التابعة للبلديّة على «الله أكبر»، وترنّ التليفونات مصحوبة بالصلاة.

وفي هذا الاختلاط الديموغرافيّ والقيميّ تتحوّل طرابلس، وفق وصف سامر أنّوس، مكاناً شبيهاً بالغرب الأميركيّ كما تنقله أفلام الوسترن. فالسلاح والأمن فالتان فيما يمتدّ انكفاء الدولة عن «عاصمة الشمال» من غياب الأدوات الأمنيّة إلى ضمور الخدمات بما فيها إصلاح الطرق. وقد باتت هذه الصورة القاتمة أشدّ انقشاعاً مع توسّع رقعة شبّان الأحياء العاطلين من العمل وانتشارهم في المزيد من شوارع المدينة ومناطقها.

لكنّ الوجهة هذه لم تجد في مقابلها ما يحدّ منها. ففي التسعينات بدأ البناء في منطقة «الضمّ والفرز» التي راحت تقيم فيها، منذ سبع سنوات تقريباً، عائلات بورجوازيّة متوسّطة وحديثة النشأة، بعضها جنى أمواله في الخليج. إلاّ أنّ المنطقة الجديدة هذه تبدو شديدة المراعاة للقيم التي لا تبتعد كثيراً عن قيم الوافدين الريفيّين إلى طرابلس. وكما يحصل عادة في مناطق حديثة النشأة، أتى قاطنوها من أمكنة شتّى، يناط بالدعوات الإيديولوجيّة الكبرى أن تشكّل اللحمة التي تعوّض الافتقار إلى حياة وتجربة جامعتين. هكذا تخلو «الضمّ والفرز» من المشروبات الكحوليّة، لكنّها أيضاً تخلو من كلّ وجود ثقافيّ، فلا دور سينما هناك ولا مسرح أو مكتبات. فالفتيات هناك يفضّلن حجاب الموضة وتدخين النراجيل، فيما الشباب يسرّحون شعورهم بـ «الجلّ» ويقودون سيّارات الدفع الرباعيّ. وحينما أقدم شبّان قليلون على إحياء أمسيات ثقافيّة محدودة النطاق في مقهى صغير أسماه أصحابه «طافش»، صوّر أهل الحيّ روّاده بأنّهم «غريبو الأطوار ومثليّون».

صحيح أنّ طرابلس شهدت، في مطالع التسعينات، وفي توازٍ مع الحركة الحريريّة في بيروت، إنشاء مجمّعات تجاريّة قليلة تضمّ دور سينما حديثة. غير أنّ تلك المجمّعات ودُورها تبدو فارغة اليوم، فلا يَبثّ فيها شيئاً من الحياة إلاّ عاملات المنازل الفيليبينيّات أيّام الآحاد.

أمّا الطرابلسيّون الذين يريدون لأوقات فراغهم أن تمتلئ بشيء من الفرح فما عليهم إلاّ السهر في قضاء البترون المسيحيّ.

بطبيعة الحال هناك الإسلام التقليديّ في طرابلس الذي تترجّح رموزه التمثيليّة بين «تيّار المستقبل» ونجيب ميقاتي ومصباح الأحدب. لكنّ الطرابلسيّين هؤلاء يجمعون بين استئناف حياة عاديّة لا سياسة فيها، ولا تستثني السباحة المختلطة خارج مدينتهم، وبين العيش المحافظ والمندمج، بما في ذلك أداء الفروض الدينيّة، في طرابلس ذاتها.

وهذا الفصام الثقافيّ سمة طرابلسيّة مميّزة. ذاك أنّ الحرّيّة تحصل «هناك»، في المكان البعيد وغير المرئيّ، فيما الامتثال والإجماع يحصلان «هنا». لكنْ لمّا كانت الحرّيّة لا تجد من يدافع عنها ويتصدّى لطلبها «هنا»، نمّ ذلك عن خجل بالحرّيّة كما لو أنّها، في قرارة النفس، شيء مرذول.

هكذا يكسب السلفيّون المعركة الثقافيّة في طرابلس قبل أن تبدأ. هكذا تجني على نفسها براقش.

القسم الثاني

أطوار طرابلس: من زمن الدولة الى زمن السيبة… المظلوميّة… وأدبيّات السلفيّين ما بين «القاعدة» والثورة السوريّة

إذا كانت «عاصمة الشمال» ظالمة نفسها، فهذا لا يلغي وجود ظالمين آخرين لها. والحال أنّ المظلوميّة واحد من مصطلحات الأدب السياسيّ الطرابلسيّ الجامع.

فعند السلفيّين، هو ظلم مركّب يطاولهم كطرابلسيّين وكسنّة وكسلفيّين. وهم يبدون كمن استجلب هذا المفهوم من الأدبيّات الشيعيّة بغرض استخدامه ضدّ شيعة حزب الله. إلاّ أنّ غيرهم قد يستخدمه كراسب من رواسب الرطانة اليساريّة التي لم تُراجَع.

فعلى مكتب الشيخ حسن الشهّال جريدة محلّيّة اسمها «الرقيب» يقول مانشيتها العريض: «المدينة المظلومة». وبدوره، يستعيد الشيخ ابراهيم الصالح، المناوئ للسلفيّة، هذه المظلوميّة ويردّ بداياتها إلى 1932، حين «عوقبت» المدينة لتأييدها الوحدة السوريّة، كما دُمّر مرفأ طرابلس الذي كان مرفأ لأجزاء واسعة من الداخل السوريّ، وذلك لمصلحة مرفأ بيروت.

على أنّ الثمانينات تبقى مفصلاً أساسيّاً من مفاصل هذا الوعي. ففي مطالعها نشأت «حركة التوحيد» في طرابلس، فيما نشأ «حزب الله» في بيروت والجنوب. غير أنّ المقارنة بين مصائر الحزبين كفيلة بإقناع الإسلاميّ الطرابلسيّ بواقع المظلوميّة الذي كان النظام السوريّ مهندسه الأوّل. ذاك أنّ السوريّين الذين عزّزوا الحزب الشيعيّ، ومدّوه بأسباب القوّة كلّها، دمّروا الحركة السنّيّة ودمّروا معها أجزاء من المدينة قبل أن يُحكموا إخضاع الاثنتين.

والرموز الطرابلسيّة التي اتُّهم النظام السوريّ بقتلها أو بتهجيرها كثيرة. فلقد انتهى الأمر بفاروق المقدّم، أحد وجوه المدينة في السبعينات، «لاجئاً» في جونية، حيث كانت تسيطر «القوّات اللبنانيّة»، فيما استقرّ النائب البعثيّ عبدالمجيد الرافعي في بغداد. أمّا الشيخ صبحي الصالح والصحافيّ سليم اللوزي فكانت حظوظهما أسوأ إذ قضيا اغتيالاً. وعلى الصعيد السنّيّ الأوسع، قُتل باليد ذاتها مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد.

وفي هذه الغضون رعى السوريّون إنشاء «جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة»، أو «الأحباش»، ودعموها. وبما لا يخفى من استفزاز خطّطوا لإيصال أحد شيوخها، نزار الحلبي، إلى منصب مفتي الجمهوريّة. ولم تكن الجمعيّة هذه غير مخلب قطّ للقوّات السوريّة في طرابلس وفي سواها.

ويروي الشيخ بلال الدقماق الذي تحوّل إلى السلفيّة في 1986 وكان له من العمر 16 سنة، أنّ «جمعيّة الهداية والإحسان الإسلاميّة» إنّما «تمّ ضربها في 1995 بسبب حقد النظام السوريّ، وكان ذلك من خلال الأحباش. حصل هذا لدى العثور على كتاب في الجمعيّة يتحدّث عن النصيريّة وعن حافظ الأسد. هكذا تمّ توقيفي، أنا والشيخ رائد كبّارة والشيخ راضي الإسلام الشهّال وإسماعيل اسماعيل، وحُوّلنا إلى التحقيق في عنجر حيث كان التعذيب شرساً. لقد حُلّت الجمعيّة وأُقفلت بالشمع الأحمر».

ثمّ كانت أحداث الضنّيّة في 2000، حيث حاول السلفيّ أبو عائشة، الذي قاتل في أفغانستان، إقامة إمارة إسلاميّة هناك. وكان لتلك الأحداث أن أدّت إلى مقتل أكثر من 35 سلفيّاً واعتقال نحو ستين.

وجاءت أحداث 11 أيلول وكانت طرابلس، كما يقول الدقماق، ممسوكة بقوّة من السوريّين، فعوملوا «بوصفهم سنّة». هكذا أُخضعوا لموجبات التنسيق الأمنيّ بين السوريّين والأميركيّين. بعد ذاك طرأت المواجهة الشرسة، والغامضة، في 2007، في مخيّم نهر البارد شمال طرابلس. وهذه خلّفت، بدورها، تدمير المخيّم وسقوط أعداد من القتلى، سلفيّين وغير سلفيّين، فضلاً عن قتلى الجيش اللبنانيّ. وهنا أيضاً أضيف معتقلون آخرون إلى معتقلي الضنّيّة ليتحوّل «مساجين سجن رومية» إلى أبرز علامات المظلوميّة السلفيّة، وربّما رافعتهم إلى مزيد من القوّة والتمكين. ولئن شكّل الموقع الذي احتلّه رفيق الحريري في «دولة بشّار وحزب الله» تسكيناً نسبيّاً للجرح السنّيّ، فإنّ اغتياله في 2005، أضفى على تلك المظلوميّة طابعاً إطلاقيّاً. ثمّ أتى احتلال بيروت في 2008 مِلحاً على الجرح، الأمر الذي أثار، وفق الدقماق، ندماً واسعاً على ضرب «فتح الإسلام» في نهر البارد و «عصبة الأنصار» في صيدا ممّن كان في وسعهم أن يدافعوا عن السنّة المظلومين.

وفي عمومها كانت تلك وجهة ملتوية يختطّها النظام السوريّ. فهو قمع هذه البيئة بقسوة، مباشرة أو مداورة، بيد أنّه باليد الأخرى سهّل انتقال كثيرين من أبنائها للقتال في العراق ضمن صفوف المقاومات السنّيّة.

ولدى سؤاله عمّن هو عدوّه الرقم 1، لا يتردّد الشيخ بلال الدقماق في الإجابة القاطعة: الفرس. والتعبير الأخير يغطّي، عنده، رقعة تمتدّ من إيران إلى حزب الله ممّن يصفهم بالمذهبيّة والوقوف مع النظام السوريّ.

والحال أنّ سلاح حزب الله يبقى الذريعة الأولى لدى من يدافعون عن السلاح في طرابلس، إذ لماذا يحقّ لهم التسلّح في العاصمة الأولى ولا يحقّ لنا التسلّح في العاصمة الثانية؟

أكثر من هذا، يقول حسن الشهّال إنّ لدى حزب الله مجموعات في طرابلس نفسها، وإنّ لديه حلفاء يموّلهم. لكنّ هؤلاء، على رغم التمويل والسلاح، لا يستطيعون الوقوف ضدّ جوّ المدينة العامّ. ويشير آخرون إلى أنّ حزب الله يخترق «حركة التوحيد» والشيخ بلال شعبان، لكنّ الشيخ حليحل يرى أنّ ذلك لم يمنع شعبان من تقديم مساعدات إنسانيّة للنازحين السوريّين بسبب ذاك الإجماع العريض حول الموضوع السوريّ في المدينة.

وهو بالفعل إجماع يحمل المتَّهمين بعلاقة ما مع حزب الله على التنصّل. فعمر بكري فستق ينفي ما يتردّد عن دعم الحزب له: صحيح أنّه «أخرجني بكفالة من السجن»، لكنّ النائب والمحامي نوّار الساحلي الذي كلّفه الحزب الدفاع عنه، لم يحضر، وفق فستق، سوى جلسة واحدة في المحاكم من أصل عشر جلسات. ومع الخلاف في الموقف من الثورة السوريّة «لم تبق هناك أيّة علاقة بيننا».

القاعدة؟

ويرفض الشيخ رائد حليحل المبالغة التي تصف طرابلس بتورا بورا، مؤكّداً أنّها مدينة متديّنة أصلاً. وهو محقّ على الأرجح، إذ لم تقم في «عاصمة الشمال» إمارة سلفيّة بعد، كما أنّ المسيحيّين والمسلمين غير السلفيّين لا يزال في وسعهم أن يتمتّعوا بحياة يتعاظم الحصار المضروب عليها. لكنّ حليحل، القندهاريّ اللحية والعمامة، اختار لنفسه مظهراً لا يطابق أقواله كثيراً. وبدوره يعترف الشيخ حسن الشهّال بـ «تأثّرات بالقاعدة»، إلاّ أنّه يصفها بأنّها غير منظّمة ولا مؤطّرة، مضيفاً أنّ القاعدة أعطت صورة سيّئة عن الإسلام ساهم فيها «الإعلام الغربيّ واليهوديّ».

ويبقى الصوت الأعلى في إعلان قاعديّته الشيخ عمر بكري فستق، غير الطرابلسيّ والضعيف التأثير في طرابلس. ففستق الذي عاش في بريطانيا وأُبعد عنها، تحوم حول شخصه وحول تمويله علامات استفهام كثيرة تُمعن في إضعافه. وهو إذ يردّ قائلاً إنّ لديه في بريطانيا أربعة آلاف طالب مسلم يشترون شرائطه، لا يفعل إلاّ توسيع جيب الشكّ به. لكنّ ما لا ينتبه إليه الكثيرون من نقّاده أنّ عدم الصدق الذي ينسبونه إليه أقلّ أذى وضرراً من الصدق الذي ينسبه إلى نفسه. فهو، وفق وصفه، «قاعديّ الهوى، قندهاريّ المدرسة»، وعنده أنّ «نسور التوحيد» هم من نفّذوا 11 أيلول، الذي لولاه لما كان «الربيع الإسلاميّ».

والحقّ أنّ الشيخ عمر أكثر من تشعر في حضوره بحضور القرون الوسطى وبانطواء العقل المعتم على ألاعيب بهلوانيّة. فهو الكاريكاتور السلفيّ في ذروة تألّقه، ولكنْ أيضاً في انفلاتٍ لـ «الأنا» المتورّمة عزّ مثيله. فهو يتحدّث عن نفسه في صيغة «عمر فعل» و «عمر قال»، كما ينسّب ذاته إلى تاريخ نضاليّ مديد توّجه طرده من بريطانيا «لأنّني كنت أدعو للخلافة» هناك.

لقد استقبلنا الشيخ عمر في منزله في أبو سمرا، حيث يتراءى أنّ الرطوبة تقيم في جدران المنزل الذي أغلق أبوابه ونوافذه طويلاً في وجه الشمس. لكنّ المنزل يضجّ في داخله بكيتش خشبيّ ينبئ عن ذوق صاحبه.

وهو حين يطلق العنان للسانه، لا ينسى الافتخار بـ «أقارب» له هم من الذوات الذين لا يربطهم رابط بإسلامه. لكنّه، في المقابل، يضع الإسلام في مواجهة الديموقراطيّة التي «ظنّ الغرب أنّها ستنتصر في انتخابات بلدان الربيع الإسلاميّ، فإذا بالناس ينتخبون الإسلام». وهنا يُستثنى من الإسلام كثيرون في طليعتهم «الإخوان» الذين «دعمتهم أميركا كي يكونوا الحاجز دون الإسلام الفعليّ». ومستخدماً بعض لوازم الأدبيّات الإرهابيّة، يحدّثنا عن «حواضن جهاديّة» باتت متوافرة في مصر وتونس وليبيا، وعن «مغانم» على شكل ذهب غنمته «القاعدة» من بيوت ليبيّي النظام السابق. وهو بالطبع لا ينسى التفاخر بدعم «الجهاد» في أفغانستان والشيشان والبوسنة وسواها.

بيد أنّ الشيخ بلال الدقماق يرى أيضاً في أسامة بن لادن مثاله، ويقول إنّ القليل النادر من السلفيّين هم من لا يحبّون زعيم القاعدة. فحين تسأله عن صدّام حسين يجيب: «صدّام كان طاغية، لكنّ أفعاله في أواخر حياته كانت جيّدة، وطريقة قتله والتمثيل بالجثّة أجّجا الخلافات بين السنّة والشيعة».

وفي ذلك كلّه شيء مقلق.

علويّون ومسيحيّون

يشكّل التأزّم السنّيّ – العلويّ وما ينجرّ عنه من اشتباكات بين منطقتي باب التبّانة السنّيّة وبعل محسن العلويّة، نقطة الانفجار المباشرة التي زادها الصراع في سوريّة احتقاناً وخطورة. فالنظام السوريّ رعى طويلاً هذه البؤرة الملتهبة، حتّى إذا اهتزّ زادت حاجته إلى الرعاية والتوظيف بحيث حصدت آخر جولة من الاشتباكات 23 قتيلاً و128 جريحاً.

والحرب الأهليّة المصغّرة والمتقطّعة تلك مرشّحة للتجدّد في أيّة لحظة، خصوصاً أنّها أقلّ الحروب الأهليّة اللبنانيّة تعرّضاً للمراجعة والدرس، وأكثرها اتّصالاً بمجريات الأوضاع في سوريّة وبمصالح نظامها المترنّح.

وبلغة لا تسمّي ولا تعيّن، رأى الشيخ حليحل أنّ كلّ الأطراف مستفيدون من النزاع، رافضاً استخدام الدم لتغيير المعادلات السياسيّة، ونافياً، بالسذاجة المعهودة أو بالخبث المعهود، وجود مشكلة بين السنّة والعلويّين. ذاك أنّ المشكلة عنده هي قيادة رفعت عيد التي ينبغي أن تُطاح، أمّا أهل بعل محسن فمغلوبون على أمرهم، لكنّهم قد يطيحون عيد بعد إطاحة الأسد في سوريّة.

ولا يشذّ حسن الشهّال عن لغة إنكار المشاكل أو التخفيف منها: «فالعلويّون والمسيحيّون من أهل المدينة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، نحن نحترم أحوالهم الشخصيّة ولا نريد تحويلهم عن دينهم، كلّ ما نبغيه أن تُحترم حقوقنا وديننا». وفي محاولة لتعزيز كلامه بالتاريخ، يضيف أنّ الطرابلسيّين لم «يحسّوا بشيء اسمه علويّ» قبل النظام السوريّ الحاليّ، فيما المشكلة مع رفعت عيد وحزبه «العربيّ الديموقراطيّ»، لا مع العلويّين. لكنّ الأمثلة التي قدّمها على التعايش السابق هي أنّهم «كانوا يشتغلون عندنا في الزيتون والليمون»، وقد «تسنّن بعضهم». أمّا بالنسبة إلى حقوقهم وحقوق المسيحيّين في أن يمارسوا شعائر أو عادات لا يقرّها الإسلام، فهذه كلّها مضمونة لهم في بيوتهم وفي أحيائهم. لكنْ أن تكون هناك أحياء مختلطة ومتداخلة، فهذا ما لا يقع أصلاً في المخيّلة السلفيّة.

يعزّز تلك المخاوف أنّه خلال الأعياد الأخيرة للميلاد ورأس السنة، قامت حملة مناهضة لتزيين الأسواق بشجرة العيد شكّلت سابقة في تاريخ المدينة. وهذا واقع يرادف أفكاراً كأفكار عمر بكري فستق الذي يرى أنّ المسلم وغير المسلم يعيشان في كنف النظام الإسلاميّ ويكونان من رعايا الدولة. وهو يضيّق نطاق حرّيّة غير المسلمين وغير السنّة فيحصرها في «بيوتهم»، جازماً بأنّ القانون في الدولة الإسلاميّة هو الإسلام، وفي ظلّه لن يوجد المكان الذي يقدّم الخمور بتاتاً. أمّا الدقماق فيسمّي العلويّ نصيريّاً، تاركاً لابراهيم الصالح أنّ يركّز على أنّ المستفيد الوحيد من «ذبح» العلويّين في طرابلس هو بشّار الأسد، مشيراً إلى «صورة العلويّين كفقراء وإلى التحرّر الاجتماعيّ لنسائهم، وإلى أنّهم ظلّوا، إلى ما قبل 15 سنة، يتزوّجون في المحاكم السنّيّة».

لقد سمّى الكثيرون من المعلّقين حرب التبّانة وبعل محسن «حرب الفقراء»، وهي فعلاً كذلك ولو كانت حروبُ هؤلاء الفقراء السبب الأبرز لفقرهم.

فطرابلس، التي دمّرتها المواجهات الدمويّة المتوالية منذ 1975، لا سيّما تلك التي شنّتها القوّات السوريّة على ياسر عرفات و«التوحيد» في الثمانينات، لم تعرف أيّ مشروع جدّيّ يبني ما تهدّم، ولم تتعرّض لتجربة حريريّة كالتي تعرّضت لها بيروت وصيدا. صحيح أنّ نجيب ميقاتي رمّم بعض المباني ودهنها في ساحة التلّ، فيما أقام الوزير محمّد الصفدي، بالتعاون مع مؤسّسات أميركيّة وأوروبيّة، مركزاً ثقافيّاً لمحو الأمّيّة وتعليم الكومبيوتر، لكنّ ذلك لا يزن شيئاً بقياس الحاجات الطرابلسيّة الملحّة.

ولمن اعتاد بصره على مرأى البنايات الشاهقة في المدن الأخرى، تبدو مباني طرابلس القديمة كأنّها قصُرت وزمّت، تماماً كما يبدو كلّ شيء آخر كأنّه توقّف في 1975 حين كفّ زمن الدولة وبدأ زمن الحرب.

ومؤخّراً، عقد آل الحلاّب، أباطرة الحلويات العربيّة في المدينة، مؤتمراً صحافيّاً قالوا فيه إنّ 40 في المئة من مداخيلهم تقلّصت، وإنّ هناك 600 مؤسّسة كبيرة وصغيرة في طور الإفلاس.

لقد دُمّر سوق الخضار في التبّانة بسبب الاشتباكات السنّيّة العلويّة وسوف يُنقل إلى مكان آخر، وثمّة محالّ تُغلق بالعشرات في شارع عزمي وشارع نديم الجسر وحتّى في مناطق الضمّ والفرز الجديدة نسبيّاً. وهذا كلّه معطوف على انهيارات أكثر بنيويّة، كمثل تدمير المصانع والمؤسّسات الخدميّة وغير الخدميّة على امتداد الحروب الاهليّة، أو زحف كتل الباطون العشوائيّ ممّا أحلّه المقاولون محلّ بساتين الليمون التي سُمّيت طرابلس «فيحاء» بسبب رائحتها.

وعلى العموم، فعاصمة الشمال مدينة لا تعمل ولا تلهو. إنّها تصلّي وتقاتل.

الثورة السوريّة

لا يدعم السلفيّون الثورة السوريّة كلبنانيّين متضامنين معها، مؤمنين بحقّها، بل يفعلون ذلك كسوريّين منخرطين فيها. فالثورة أظهرت الواقع السلفيّ ولم تنتجه، أو بلغة فستق: «لم يعد أحد، منذ ثمانية أشهر، يجرؤ على مدّ يده إلى واحد من أهل السنّة في لبنان. الشبّان يتجوّلون بأسلحتهم في طرابلس».

وعند حسن الشهّال ترقى الثورة إلى معيار تقاس عليه التحالفات والعداوات الداخليّة في طرابلس. ذاك أنّ عاطفة الإسلاميّين الأقوى «مع الشعب السوريّ ضدّ النظام الظالم». وإذا كان نجيب ميقاتي «يمون على جزء من الحالة الإسلاميّة بسبب مساعداته للجمعيّات الإسلاميّة»، فهذا لا يلغي أنّ المحكّ هو الموقف من النظام السوريّ ومن الثورة عليه.

أمّا الذين يدعمون النازحين السوريّين فليسوا السياسيّين، بل «الطرابلسيّ الشهم الذي يضع السوريّ في قلبه»، وميقاتي لا يستطيع إلاّ أن يأخذ هذا الواقع في اعتباره.

ويرفض الشهّال أن يصبح التأييد تدخّلاً. فحتّى الذين هم في داخل سوريّة يريدون لبنان ملاذاً آمناً لا منطقة صراع. أمّا الشبّان الذين توجّهوا إلى تلكلخ وقُتلوا في كمين نُصب لهم، فهم، في رأيه، شبّان غُرّر بهم واستُدرجوا، «وهناك علامات استفهام كبيرة حول من أخذهم ومن خطّط لهم ومن رتّب ذلك مع النظام السوريّ. لقد سمعنا، ولا نستطيع أن نؤكّد، بوجود دور لحزب الله في ذلك».

ويرى الشيخ رائد حليحل أنّ توجّه الشبّان إلى تلكلخ كان خطأ، لكنّ هناك «من تدفعهم عواطفهم إلى الذهاب».

وحين يحضر الكلام على السلاح في طرابلس، يخفّف الشهّال الأمر، معتبراً أنّ السلاح في طرابلس فرديّ، وأنّه ربّما هُرّب منه شيء إلى سوريّة، لكنّ الجيش اللبنانيّ المنتشر على الحدود يستطيع ضبط ذلك. فالكلام عن تهريب السلاح مبالغ فيه كثيراً، في نظره، خصوصاً أنّ الأسلحة غدت مرتفعة الأثمان فيما الخوف من المعارك مع بعل محسن يحضّ الطرابلسيّين السنّة على ادّخاره.

وبدوره، يجزم حليحل بوجود تجّار سلاح كثيرين من كلّ الأطراف، نافياً أن يكون السوريّون «في حاجة إلى سلاحنا». فهذه الحاجة ربّما وُجدت في بدايات الثورة، أمّا الآن فالأمور تغيّرت كلّيّاً. لكنّ الشيخ متفاجئ، هو أيضاً، بهذا الكمّ الضخم من السلاح في المدينة، لا سيّما في جبل محسن وباب التبّانة!

وإذ يسجّل الشيخ بلال الدقماق أنّ الجمعيّات السلفيّة الخيريّة تساعد النازحين السوريّين، تُسمع تذمّرات خارج البيئة السلفيّة من هذا «الجموح» وهذا «الميل الأعمى» إلى تبرير كلّ شيء بذريعة «صدّ المؤامرة الإيرانيّة والأسديّة». ويتردّد بصمت في هذه البيئة المعترضة أنّ الدعم الراهن للثورة معطوفاً على الوجود السوريّ الطارئ جعل الأموال والمساعدات الخليجيّة تتدفّق على الجمعيّات السلفيّة.

ويبدو الشيخ رائد حليحل، الذي يرعى «معهد الأمين» التابع لوقف إسلاميّ خيريّ، وتتفرّع عنه «دار أُبيّ بن كعب لتحفيظ القرآن»، مهموماً بالمأساة الإنسانيّة في سوريّة. وهو إذ يسجّل أنّ «مدارس الإيمان» ومدارس وزارة التربية استوعبت بعض الطلاّب السوريّين، لا تفوته الإشارة إلى أنّ المطلوب أكثر كثيراً. ويخبرنا الشيخ رائد بأنّ بعض سكّان طرابلس قدّموا بيوتهم للنازحين، وبعضهم قدّموا لهم الغرف التي لا يستخدمونها في بيوتهم، وأنّ الكثيرين، على رغم فقرهم، يتبرّعون لهم. وفي ما خصّ تدامج هذين الجسمين، يسجّل أنّ جامعه وحده تفد إليه قرابة 250 سيّدة سوريّة كلّ خميس وأحد لتلقّي دروس دينيّة وتسلّم مساعدات.

وإذ يرفع أحد الناشطين غير المتعاطفين عدد السوريّين اليوم في طرابلس إلى 200 ألف، يقول الشيخ رائد إنّهم لا يتجاوزون السبعين ألفاً في منطقة الشمال كلّها. فإذا ظهرت إشارات متفرّقة وطفيفة إلى انزعاج الدهّانين والطرّاشين وبعض أبناء المهن الحِرَفيّة من «منافسة السوريّين الذين يقبلون بأجور أقلّ»، فإنّ هذا، في عرف الشيخ، لا يُحسب له حساب قياساً بموجة التأييد الشعبيّ العارم.

نودّع الشيخ حليحل، اللطيف والودود، ونقفل عائدين إلى بيروت. لكنّ شيئاً في طرابلس يُمسك القلب بقبضة من حديد.

مذكّرات طرابلسيّ يقارن التسعينات باليوم

«هناك عند التقاطع المؤدي الى ساحة التل وقف رجال ينادون على المارة لركوب سيارات الأجرة المتوجهة الى بيروت. «بيروووو» «يالله ع بيروووو»، يصيحون مخترقين الزحام ومبتلعين آخر حرف من اسم المدينة مع دخان سجائرهم. يعمل هؤلاء الرجال في استدراج الزبائن لمكاتب السيارات فيما يقوم احدهم بتسجيل دور السائقين لئلا يقتنص واحدهم ركاب الآخر وينطلق مسرعاً بهم. المارة يتجاهلون الرجال وأصواتهم إلا في حال قــــصدوا الذهاب الى بيروت أصلاً، فيتوجهون الى الكاراجات المحـــاذية لحـــديقة «المنشية» خلف ساعة التل ونزولاً منها باتجاه «البولفار». وهم إذ ذاك لا يحــتاجون لمن ينادي عليهم ويقنعهم باجتياز تلك المسافة الفاصلة بين طرابلس وبيروت، والتي تبدو معنوياً على الاقل أطول بكثير مما هي عليه كيلومتراتها الثمانون. لكن الرجال يتسابقون في الصياح وينادون على بضاعتهم من دون هوادة كمن يعرض سمكاً طازجاً اصطاده للتو.

والبضاعة هنا سيارة أجرة يتشارك فيها خمسة ركاب، يجلسون متلاصقين بحميمية يفرضها ضيق المكان والوجهة المشتركة، مع أفضلية تلقائية تمنح للسيدات بعدم اجلاسهن في المقعد الامامي الى جانب الرجال.

مكاتب سيارات الأجرة الى بيروت ومركز انطلاق حافلات الاحدب التي تعود ملكيتها إلى أحد وجوه طرابلس الذين طبعوا المدينة باسمهم، عوني الأحدب، تحتل المدخل الجنوبي مباشرة بعد ساحة عبدالحميد كرامي، كأنها بتموضعها هناك تسارع في تذكير الوافد بطريق العودة قبل أن يطأ عمق المدينة. والأحدب الأب، «فتوّة» زمانه، عرف بمشاكسته العائلات التقليدية جامعاً بين شعبية ابن الحي وبحبوحة اقتصادية بنى عليها زعامة محلية قامت من ضمن ما قامت عليه، على ادخاله أول وسيلة نقل مشترك تجاور فيها أبناء المدينة وأبناء الارياف المجاورة في حافلات تقلّهم الى بيروت. وكان للأحدب شيء من فضل تقريب العاصمة ومذاقاتها وبعض أنماطها من الشماليين في زمن مضى.

«بيروووو» يصرخ الرجال عند نواصي ساحة التل والشوارع المتفرعة عنها، ويمجّون سجائرهم بأسنانهم كأنهم يمضغون تبغها ثم يرتشفون القهوة تلو الاخرى بحركات عصبية، قهوة يبتاعونها بفناجين زجاجية بيضاء مخططة من بائعي قهوة يفترض أنهم جوالون، لكن ركنوا عرباتهم في زوايا لم يبرحوها حتى علق أحدهم لافتة كتب عليها «ليس لدينا فرع آخر». ويتقاسم هؤلاء الأرصفة وجزءاً غير بسيط من الشوارع مع المارة وبسطات تعرض ساعات ونظارات شمسية مقلدة، وأسياخ الشاورما الناتئة عن محالها، والصرافين الذين يعرضون عملات اجنبية في علب زجاجية كأنها واجهات محال منمنمة…

هنا تختلط الاصوات بروائح البن ودخان السجائر والدجاج المشوي وأقراص الفلافل المقلية التي تتطاير شظايا زيتها على العابرين فتلتصق بهم كمزيج دبق. وفي المساء، يتقلص عدد المارة المتسوقين والمهرولين الى بيروت لمصلحة رواد المقاهي من الرجال الموزعين وفق توجهاتهم السياسية بين «النيغريسكو» و «البينكي» و «الاندلس». وبين هذا وذاك، يظهر مساء مرتادو دور السينما مثل الكولورادو وشهرزاد اللتين قرر ذات يوم طلاب الثانويات الخاصة تحويلهما الى نواد اسبوعية للقاءاتهم ونقاشاتهم، فيما بقيت «الكابيتول» المواجهة لهما مرتع الطبقات الدنيا تروج لأفلام مصرية بأفيشات ضخمة ذات ألوان زاهية.

ويختلف زبائن سيارات الأجرة باختلاف الايام وأوقات النهار. ذاك ان مساءات الجمعة والأحد غالباً ما تكون مخصصة للطلاب في رحلات ذهاب وإياب اسبوعية بين سكنهم الجامعي ومنزل الاسرة. فالانتقال الى مرحلة الدراسة الجامعية لا يقطع مع الطفولة قطعاً كاملاً، ولا يؤسس لحياة وصداقات جديدة. بل على العكس تتعزز الاواصر العائلية عبر حقائب يحملها الطلاب في ذهابهم الى بيروت يكدسون فيها ثيابهم النظيفة والمكوية، ووجبات من الطعام المنزلي، محافظين على نكهات مطبخ الأم، ليعودوا بها فارغة في نهاية الاسبوع، مع ثيابهم المتسخة. فتمضي نهاية اسبوعهم بين استقبال ووداع على مدار سنوات تعيدهم في كل مرة الى طرابلس.

وفي أوقات الفجر الاولى، يطغى على المشهد الجنود وعناصر قوى الامن متوجهين الى مراكز خدمتهم العسكرية، والوافدون بدورهم عبر سيارات أجرة من قراهم في عكار والضنية. لكن هؤلاء يقطعون سيراً على الأقدام مسافة تفصل بين مواقف سيارات الارياف التي تبعد شارعاً او اثنين عن مركز السيارات المتجهة الى بيروت. فالأخيرة تحتل الواجهة، أما مواقف الجومة وعكار والكورة والضنية فتبقى في المشهد الخلفي.

تلك طرابلس مطلع التسعينات وأواسطها. مدينة تحاول التقاط الروح بما تيسر بعد عشرية صعبة تأرجحت فيها من حركات اليسار والمنظمات الفلسطينية، فحركة التوحيد الاسلامي بزعامة سعيد شعبان والتدخل السوري الذي ضرب النسيج الاجتماعي بقدر ما فكك الأطر السياسية التقليدية والوافدة. بعد ذاك لم يحل التزمّت دون أن تنشأ مقاهٍ وتُنصب خيام رمضانية في مواسم الصيام تختلط فيها العائلات بالشباب وتصدح فيها موسيقى الفرق الطربية.

لم يأت ذلك التحول بفعل ممنهج أو فرض بالقوة، جاء بطيئاً هادئاً كأنه نعاس انتاب الطرابلسيين فلم يقاوموه. بات حي التبانة المنسي لعقود يختزل المدينة برمّتها، حتى ما عادت تذكر طرابلس في نشرات الأخبار والأحاديث إلا لكونها بؤرة توتر سنّي- علوي. ونجّمت أسماء فتية هاجروا للقتال في العراق، ويرون في سورية اليوم ثورتهم، ويزعمون بين فينة وأخرى إقامة إمارتهم في عاصمة الشمال.

صالات السينما في بولفار عزمي التي أغلقت أبوابها منذ عقد تقريباً لم تتحول لأي شيء يذكر، فلم تتخل عن دور لتقوم بسواه، وإنما تحولت مجرد مداخل أبنية بالية يتسكع فيها بعض الشباب ويقضون حاجتهم احياناً. اليوم ما عاد عابر البولفار لجهة تقاطع التل يسمع ذلك النداء الذي يستبسل في إغرائه للنزول الى العاصمة. مواقف حافلات الاحدب التي صار اسمها «كونيكس» وحافلات «الاكسبرس» الأخرى تركت مكانها لـ «فانات» (ميكروباص) عكار والضنية في ذروة ترييف المدينة. وعوضاً عن «بيرووووو» التي تخرج اليوم أقرب الى حشرجة من حجرة عجوز فاته عمر التقاعد منذ زمن، باتت الوجهة نحو الريف الشمالي».

الجياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى