رشا عمرانصفحات الثقافة

أعطني حريتي أولاً/ رشا عمران

 

 

وضعت الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، في يوم 11 فبراير/ شباط من عام 1963، حدا لحياتها بطريقة موتٍ لا تترك لها مجالا للتردّد، إذ دخلت مطبخها وأغلقت الباب، ووضعت مناشف مبللة تحت الباب، كي لا يتسرّب الموت إلى طفليها اللذين كانا يلعبان في الغرفة المجاورة، ثم أوصلت الغاز إلى الفرن، وأدخلت رأسها داخله، واستنشقت الغاز القاتل، وماتت أخيرا بعد أكثر من محاولةٍ سابقةٍ للانتحار.. انتحرت سيلفيا بلاث، وهي في عمر الثلاثين، أم لطفلين، وزوجة لأحد أشهر شعراء بريطانيا، والعالم لاحقا، تيد هيوز، وشاعرة استثنائية تبلورت تجربتها الشعرية في زمنٍ قصير جدا، لكنه يبدو كان كافيا ليجعل منها واحدةً من أشهر شاعرات العالم، ثم أتت طريقة موتها الأسطورية لتزيد في شهرتها، وتسلط المزيد من الضوء على تجربتها الشعرية الفريدة. فجائعية الموت، أو فجائعية الانتحار، بشكل أدقّ، تصبح حاملا مهما لتجربة إبداعية ما، فكيف بالتجربة الفريدة أساسا كتجربة بلاث؟

خلال السنوات الاثنتي عشرة قبل موتها، أي منذ كانت في الثامنة عشرة من عمرها، بدأت سيلفيا بلاث بتسجيل يومياتها على قصاصات ورقية متفرّقة، احتفظت بها كلها تقريبا، حكت في القصاصات عن تفاصيل يومياتها بحساسيةٍ بالغة، وبسردٍ نثريٍّ عميق وبسيط بشكل مذهل. حكت عن كل شيء، علاقتها بالحياة، بعائلتها، بأصدقائها، بتوجهها السياسي، بأفكارها حول الله والعالم والحب والجنس والزواج والأطفال، عن علاقتها بزوجها تيد هيوز، عن مرضها النفسي الاكتئابي الذي رافقها طوال حياتها، ودفعها إلى الانتحار باكرا، عن رأيها بالشعر، بالفنون، بالثقافة، عن علاقتها بجسدها وعن رغبات هذا الجسد، عن زواجها وأمومتها وأطفالها، عن الموت ورغبتها المتواصلة باللحاق به.. ثمّة صفاء مبهر في عينها التي ترى كل ما حولها، وتنقله إلى دماغها، ثم ينتقل من الدماغ إلى الورق بالصفاء والحساسية نفسيهما اللذيْن يميزان أسلوب عظماء الشعراء، شعرا ونثرا.

بعد رحيلها، جمع زوجها تيد هيوز يومياتها، بما فيها التي تتحدث عن التفاصيل الدقيقة لعلاقتها به، ولعلاقاتها العاطفية والغرامية قبل زواجهما، وتلك القصاصات أيضا، والتي كتبت فيها عن غضبها منه، وعن رأيها فيه، حبيبا وزوجا وأبا وشاعرا، ونشر اليوميات في كتاب مدهش بعنوان (اليوميات 1950-1962)، وصدر بالعربية عن دار المدى عام 2017، بترجمة وتحقيق عباس المفرجي.

وبعيدا عن المتعة النفسية والأدبية التي تمنحها قراءة يوميات شاعرةٍ عظيمةٍ، كسيلفيا بلاث، لأي قارئ مهتم، فإن سؤالا محزنا ظل يراودني، بعد أن أنهيت قراءتها: لماذا لا تتاح لنا، نحن الكاتبات العربيات، فرصة التعبير عن ذواتنا وأفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا بالوضوح الذي تعبر به الأخريات غير العربيات عن ذلك؟ ثمّة اتهام يوجّه دائما للكاتبات العربيات، والشاعرات خصوصا، أنه لا توجد حتى الآن شاعرة عربية استطاعت أن تترك علامةً فارقةً في الشعر على مستوى العالم! لا بأس، لن أعترض على هذا الاتهام، ففيه من الحقيقة ما يمنع الاعتراض، ولكن أولا: ما هو عدد الشاعرات في العالم اللواتي تركن هذا الأثر قياسا بعدد الشعراء؟ ثانيا: ما هي الفرص المتاحة للشاعرة العربية للدخول في تجارب حياتية سياسية واجتماعية وجسدية، من دون أن ترجم من أقرب المقربين إليها؟ ولو أتيح لأية شاعرة خوض هذه التجارب، هل يمكنها الكتابة عنها، والتعبير عن آرائها وأفكارها ورغباتها، وعما يدور في خلدها من دون أن توصم بأحط التهم الأخلاقية المجتمعية؟ ثم هل من رجل عربي يعيش في بلاد العرب، حتى لو كان مثقفا كبيرا، يرضى أن يجمع مذكرات زوجته أو شقيقته أو ابنته أو والدته، وينشرها على الملأ كما فعل تيد هيوز؟ تخيلوا معي لو أن رجلا عربيا قرأ مذكرات زوجته ماذا سيحدث؟!

من تجربتي في الكتابة والقراءة، أستطيع القول إن القارئ العربي عموما تلصصي. يحيل النص، أي نصٍ كان، إلى شخص كاتبه، وينسج من خلال النص صفاتٍ للكاتب ويطلق أحكامه الأخلاقية عليه، بناء على الصفات المفترضة. يحدث هذا مع الكتاب الذكور، فما بالكم بالكاتبة الأنثى؟ نحن، يا سادة، نُحاكم بناءً على ما نكتب، على أحلامنا، على لغتنا، نحاكم على خيالاتنا، على انتماءاتنا. نحاكم على كل شيء، لا يصدّق أحد أن ثمة إبداعا يحفر عميقا من دون أن يُحاط بمناخٍ كبير من الحريات، الفردية قبل السياسية.. أعطني حريتي، وخذ مني إبداعا حقيقيا.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى