صفحات سورية

أعوذ بالله من شرور أنفسنا

 


عفراء جلبي

كم أسعدني أن أرى ردة الفعل الكبيرة والاستهجان من قبل السوريين تجاه حادثة قتل رجل مخابرات عندما قام بعض الشبان بإنهاء حياته والتشنيع به وتعليقه على عامود كهرباء. وجدوه يمشي بين المشيعيين يقتل من حوله في يوم بلغت فيه القلوب الحناجر مع تشييع ما يقارب مائة شهيد بعد مجزرة يوم الجمعة فامتدت إلى الثوار يد الشر بعد ان امتدت إليهم يد الغدر والقتل، فصاروا ضحية العنف مرتين.

لقد صدمنا هذا المنظر، لأنه في حين كنا نرى أفعال النظام الإجرامية ونضع الشر في موقع إعرابي مع أفعال النظام وحروف جره، وجدنا أنفسنا أمام ثوار فقدوا أعصابهم وقاموا بعمل يشبه ما يقوم به النظام. القتل العبثي خارج إطار قانوني. صحيح أن النظام قتل أكثر من ألف مواطن سوري، وصحيح أن أخطاء الثوار ضئيلة ولكن لن نستطيع أن نكسر حلقة العنف المجنونة بارتكاسات هائجة. لا يخمد النار بالنار. وهذا التلاعب الرقمي يقوم به فقط من يريد بيع ضميره. ولهذا فالمبدأ القرآني ينكر هذه الحسابات الرياضية ويؤكد أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا. فاللذين يوالون النظام غير مكترثين بدماء الشهداء على أساس أنه إذا صارت فوضى سيُقتل أكثر. هذا يعني أننا نبيع ضمائرنا مقابل معادلات رياضية مجردة. يجب أن ننصدم من مقتل فرد كما لو أنه أمة بأكملها. هكذا تصير دماء الأفراد مقدسة ولا يكونوا مجرد أرقام. هذه ثورة الضمير في وجه الجريمة، ثورة الحرية الإنسانية في وجه اللاشرعية. ولذلك يجب أن تكون محاسبتنا لأنفسنا عظيمة صارمة. ويجب أن نكون أشد المراقبين والمحاسبين لأخطائنا. لأن هدفنا واضح. النجاة بركاب هذا الوطن من قراصنة سرقوا وطنا كاملا قبل واحد وأربعين عاما وأبقوه ضائعا بين أمواج وعواصف القمع والتيه.

قامت مباشرة مجموعات شبابية سورية وثورية بالتنديد بما حصل. وقامت مثلا صفحة “الشعب السوري عارف طريقه” بإعلان بيان وميثاق للتأكيد على إبقاء الثورة سلمية ووقعه المئات وما يزالون في تزايد، وقام الناشط فراس الأتاسي بتوضيح الأذية التي يمكن أن تحدثها مثل هذه الأخطاء بالثورة، حيث كتب الأتاسي: “هذا الفعل وإن كان فعليا لا يعادل أقل من 1 بالألف من إجرام النظام هو جريمة بحق الانتفاضة، لأنها ضد سلمية الثورة.”

كان جلال الدين الرومي يقول إن عيوب الناس هي كلها أخطاءي أنا. هذا الموقف يمثل المسؤولية الأخلاقية في تلاحم مع انتمائنا للجنس البشري بميله للخير والشر، وبانتمائنا لنقاط قوته ونقاط ضعفه. وها نحن نرى ثقافتنا السورية وقد أنتجت مرضا سرطانيا اسمه الدكتاتورية الشمولية، وإن أي تعامل معه يجب أن يكون بحذر بالغ حتى لا ينتشر السرطان لبقية الجسد وخلاياه السليمة. وعلينا أن ندرك تماما أن هذا الجسد السوري هو جسدنا كله، نحافظ عليه كله، ونحرم كل دمائه. علينا أن لا نصبح قراصنة جدد يعيدون الوطن إلى عرض البحر بعد أن كاد يعود إلى شط الأمان والإنسانية. داعية اللاعنف والذي يستفيد الناشطون السلميون من أفكاره، جين شارب، يقول في ثورات عارمة ستحدث أخطاء، ولكن يجب أن تقيد وتظل استثناءا ولا تتوسع. وحتى نقدر على تقليل الأخطاء علينا تسقطها والاعتراف بها والتحديق بها بشجاعة. هذا هو النضج السياسي وهذه هي المسؤولية الأخلاقية الواعية. ولا يعترف بالخطأ ويتراجع عنه إلا الصادقون الشفافون المستعدون على دهس “الأنا” في مقابل إظهار الحق حتى ولو على أنفسنا.

بعض الناس استنكر ما حدث لرجل المخابرات ولكنه شعر أن الدنيا قامت وقعدت بشكل زائد على قتل “جزار مأجور” كما سماه البعض مقابل الكثير من الصمت على المئات بل ما يزيد عن الألف وربما أكثر من المدنيين العزل الذين قّتلوا بأيد رجال المخابرات والشبيحة، وما نقموا منهم إلا أن قالوا نريد حرية!

ولكن يجب أن تقوم الدنيا من طرفنا ولا تقعد، فقد ضحى المئات من الشبان والشابات والأطفال بدمائهم الطاهرة وأسسوا لثورة سلامية سلمية لاعنفية وليس بامكاننا بيع تضحياتهم بأخطاء مثل هذه، لأن هذه ثورة الأخلاق في وجه اللا أخلاق. ثورة السلام في وجه العنف. ثورة القانون في وجه العبثية والفوضى. ثورة القضاء والعدل في وجه أجهزة الأمن (عفوا في وجهة الرعب المنظم والمؤسس). ولذلك يجب أن نكون بحجم مطالبنا. أخطاؤنا هي مسؤوليتنا وهي تدعم النظام بلا وعي منا. بينما أخطاء النظام لسنا مسؤولين عنها، بل تتحول لصالحنا، وتصير المصيدة التي يقعون في حبائلها أكثر وأكثر كلما تخبطوا وزادوا في طغيانهم يعمهون. إن ظلم الآخر لك هو تبرئة أخلاقية لك، وتوضيح لموقفك. وخطأك تجاه الآخر إدانة لمطالبك وتأكيد لاتهاماته. عندما لا نلجأ للسلاح، وتبقى هذه الثورة بيضاء فإنها تصعد مثل الماء النقي الذي يرتفع عن الطين عندما تسكن الماء. هذا هو السلام، هذا هو سكون القلب مع الحق والاستقامة الأخلاقية. انظروا كيف وحدت الجريمة ضد الطفل البريء حمزة صفوفنا أكثر وجعلت الرأي العالمي يتعاطف مع الشعب السوري الأعزل أمام توحش النظام. وانظروا كيف أن حادثة واحدة (وربما تكون هناك أخطاء أخرى وعلينا تحريها) عكرت هذا الماء النقي ورجت كأس الثورة الذي نريد أن نرتشفه حرية صافية عذبة أخلاقية إنسانية.

في أهم لحظة في حياة محمد، في قمة انتصاره، بعد أن عاد إلى مكة، موطن ولادته، فاتحا سلميا، وواقفا ليخطب في الجموع، ابتدأ بالذات. قال نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. بدأ بالشر الذي يأتي من النفس. لم يبدأ باتهامات الأعداء وكل المؤامرات التي دبرت ضده، وكل محاولات الأذى والقتل والتعذيب والإهانة التي تعرض لها هو ومن قبل بدعوته. لم يتحدث عن الأجندات الخارجية والداخلية. بل بدأ بالنقد الذاتي. و”شرور أنفسنا” عبارة تقال دائما في ثقافاتنا وخطب الجمعة، ولكنها صارت ربما من تردادها اللامبالي كليشة صوتية لا تعدو أن تكون أكثر من موسيقى تصويرية في خلفية خطابها الأمامي ليس بأكثر وعيا. نرددها بدون انتباه أنها إنقلاب لمنظومة إنسانية جديدة. أي إدانة النفس ومراقبة أعمالنا بصرامة. فالعالم كله يعيش على المنطومة المعاكسة، المنظومة العتيقة المهترئة في حالة متواصلة من تبرئة النفس وإدانة الآخر. ومديح وتبرير للنفس وذم ونقد للآخر. فتصوروا عمق الانقلاب الأخلاقي عندما نتحول إلى مراقبة النفس والتشديد على أخطائها. هذه هي بداية الطريق نحو الحق. والاستغفار قد يكون مفهوما دينيا قد تقزم أيضا بفعل الحت والتعرية التاريخية، ولكنه يحوي بذور مفاهيم إنسانية كونية عن النقد الذاتي ومراجعة النفس والتصحيح المتواصل لمسارنا. فلا يمكن للإنسان أن يبدأ بتغيير واقعه إلا بمراقبة نفسه وأعماله.

تحمل المسؤولية الأخلاقية من طرف واحد فرضية تكاد تكون جديدة في الوعي الإنساني، ولكنها تتأصل وتتثبت في الحضارة البشرية. والديمقراطية وتحويلها للفكر المعارض الناقد المراقب إلى جزء من المؤسسة الديمقراطية الوطنية هو تجسيد لهذا المفهوم على المستوى السياسي. فلا يمكننا تقييم أعمالنا ومسيرتنا بدون نقد ومراقبة تواجهنا دائما. ونحن أولى أن نقوم بها بأنفسنا ولكن إن فاتنا شيء غفلة وسهوا كما يحدث في النفس الإنسانية التي تميل إلى أن لا ترى أخطاء الذات، فإن وجود ناقدين ومعارضين حولنا يكون بمثابة المرآة التي تعكس لنا بقعة مظلمة قد علقت في وجهنا لم ننتبه لها. ولهذا قال غاندي، كن التغيير الذي تريد أن تراه. كل ما نملك هو التزامنا الأخلاقي، ورأسمالنا هو الحق والشفافية. تحكّمنا هو بأنفسنا فقط، ولا غير. ولذلك إما نلتزم بما نؤمن به أو ننقاد لملة ومبادئ الطرف الآخر، وحينها حتى لو زال فإنه يكون قد ربح المعركة، لأنه وإن رحل سيترك ثقافته القمعية إن وقعنا في استعمال أدواتها. فكما قالت الشاعرة الأمريكية السوداء أودري لورد: لا يمكن للعبد أن يفكك قصر السيد بأدوات السيد. ولهذا قال المسيح، من أخذ بالسيف بالسيف يهلك. أو كما قال لي بعض الشبان الواعين من تنسيقيات حمص، نكون خرجنا من تحت الدلف لتحت المزراب. وأكد لي بعضهم بأنهم يرفضون قطعيا قتل أي مخابرات أو حرق مراكزهم. أحدهم كتب لي: لماذا نعمل هذه الثورة؟ أليس لأننا نريد أن نخرج من القتل والقمع والسجون. ثم أردف بطريقة حمصية فكاهية رائعة بأنهم إن وقعوا في مثل هذه الأخطاء فحتى لو انتصروا سيكون الوضع “تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي.” أي سنكون نسخة عن الذي أردناه أن يرحل.

مراقبة الشر الذي يصدر منا هو مسؤوليتنا، أما مراقبة الشر الذي يصدر من الآخرين فهو قد يصرفنا عن طريقنا ويرينا الباطل حقا وخاصة عندما تكون أعمالنا إرتكاسات للشر. وقد يذهب النظام بكل رموزه وأسماءه ولكن إن لم نكن قد خرجنا من قانون الغاب ولجأنا إلى الأساليب التي أكرهنا عليها النظام يكون الشر قد نجى وبأيدينا. والشر مثل توتر كهربائي عالي لا يمكن الاقتراب منه بدون وقاية واضحة وعازل أخلاقي قوي وإلا لأمسك بك التيار وصعقك بتوتره اللاأخلاقي وحينها لن يستطيع أحد أن يفك أسرك من تيار الشر إن كان هو أيضا ليس لديه عازل أخلاق؟

اعترف النظام بالمطالب المشروعة للثورة، ولكنه ظل يتحجج بمندسين مسلحين حتى لا يتسجيب لهذه المطالب وليقتل المدنيين العزل، وكان أبواق النظام يبدون مضحكين هزيلين في اتهاماتهم وتبريراتهم لجرائم النظام. ولكن هذه الحادثة هي ما كان النظام يبحث عنه بلهفة. وقدمها هؤلاء المخطئون على طبق من فضة. ولذلك كل من يدعم هذه الثورة السلمية عليه أن يعرف أن أي تساهل مع هذه الأخطاء هي في صالح النظام وضد روح هذه الثورة. وبضعة منها كافية لتقضي على طهارتها ونقائها. ولذا نتبرأ من هذا الخطأ، ونطالب أنفسنا بالحيطة والحذر والتشديد على اقتراف أي أعمال عنف وتخريب.

يطمئنني أن أرى الكثير من الشبان ومجموعات عديدة تنادي بالصيام يوم الخميس تكفيرا عن أخطاء الثورة أو دفع الصدقة. فقد كان غاندي أيضا يضع نفسه تحت صيام قاسي عندما كان الثوار يرتكبون الأخطاء. تعالوا نعمل سوية ونتعاون لنشر لقاح مضاد للعنف والعبثية والتنكيل في ثقافتنا. فالثورة السورية مؤهلة لأن تصبح أجمل وأقوى ثورة في التاريخ. نعم إنها قادرة أن تصبح نقطة نور لكل من سيأتي بعدنا، وسيسجل التاريخ بدماء شهداء سوريا الطاهرين كيف انتصر السلام والنور على الظلم والظلام.

ايلاف

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى