صفحات المستقبل

أعياد نيسان المجيدة/ دلير يوسف

 

 

“رمَلًا”، ربما كانت هذه كلمة الفصحى العربيّة الأولى التي تعلمتها خلال حياتي التي عشت معظمها في سورية الأسد. كان ذلك في احتفال أقيم في مدرسة الشهيد صالح عبدي، مدرستي الابتدائيّة الواقعة في الحي الغربي من مدينة القامشلي، بمناسبة عيد الجلاء، جلاء آخر مستعمر فرنسي عن الأراضي السوريّة. كان عمري آنذاك خمس سنوات، وكنت أزور صفي المدرسي الأول. كان مدير المدرسة يصرخ عبر مكبر الصوت بالطلاب المتأخرين عن الاصطفاف في باحة المدرسة: رملًا.. رملًا. كنت حينها أركض في الشارع المحاذي لجدار المدرسة، مرتدياً صدريّتي ذات اللون العسكري، محاولاً الوصول إلى باب المدرسة، قبل أن يبدأ المدير بمعاقبة المتأخرين. لم أعرف معنى هذه الكلمة حتى وقت متأخر، كنت أتجنب البحث عن معناها حتى لا أستخدمها. في صفي الثاني الإعدادي، أي حين بلغت ربيعي الثالث عشر، بحثت في معجم المعاني عن معنى كلمة رملًا، التي كانت ترن في دماغي بين فينة وأخرى، ووجدت الجملة التالية: رمَل الرَّجُلُ أي هرول في مشيه. حينها، عرفت أنّ مدير المدرسة كان يطلب من الطلاب المتأخرين الإسراع حتى يبدأ احتفال الجلاء.

كنّا حينها نصطف اثنين اثنين وراء بعضنا بعضاً حيث يقف طلاب كلّ شعبة مع بعضهم، يفصلهم عن الشعبة الأخرى مكان لمرور الأساتذة الحاملين عصي تختلف أحجامها وأشكالها، هدفها ضرب التلاميذ من أجل تربيتهم تربية حسنة. وكنّا ننشد خلال الاحتفال أناشيد “وطنيّة” تمجد “القائد الخالد” حافظ الأسد، وتفتخر بحزب البعث العربي الاشتراكي، فضلًا عن النشيد الوطني الذي يمجّد الجيش السوري الباسل، صاحب البطولات والصولات والجولات.

قبل ذلك بعشرة أيام، كنّا نحتفل، مثل باقي تلاميذ وطلاب وموظفي ومسؤولي وعساكر وبائعي البطيخ وشاربي العصير في هذه البلاد، بميلاد حزب البعث. كنّا نغني بأصوات عاليّة: “للبعث يا طلائع.. للنصر يا طلائع.. أقدامنا حقول.. طريقنا مصانع..”

كنا ننشد: “سبعة نيسان يا رفاق.. ميلاد الحزب العملاق.. يا طلائع بعثيّة.. غنوا أحلى غنيّة…. الخ”. بفخر. كانت هاماتنا تلامس السماء عزّة. نشيد البعث كان أغنيتنا الحماسيّة التي ترافقنا في كلّ مكان، حتى حين كنّا نلعب كرة القدم في شوارعنا الوسخة كنا نغني: “يا شباب العرب هيّآ وانطلق يا موكبي.. وارفع الصوت قويّا عاش بعث العربِ”.

في دمشق، حين كنت في صفي الخامس الابتدائي وفي ذكرى الجلاء، عمري كان عشر سنوات حينها، قررت آنستنا أن تعلمنا أغنية تمدح انتصاراتنا في مواجهة الاستعمار، كي نكون الشعبة المميزة في مدرستنا التي تحمل اسم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. قدمنا أغنيتنا أمام مئات من طلاب هذه المدرسة ونحن نشعر بسعادة لا حدود لها. كنا نرفع أصواتنا بقوة ونغني : “عار علينا أن ننام ونضيّع مجدًا لن يضام… هذي السيوف تعطشت تعطشت يا حبذا لو انعشت”. هكذا أذكر الأغنية، وأذكر أن أصواتنا كانت ترتفع حين كنّا نعيد كلمة تعطشت.

يا لشهر نيسان المجيد ما أجمله، وما أحلى احتفالاته، يكاد لا ينافسه شهر إلا شهور تشرين الأول والثاني، فاحتفالات ذكرى حركة حافظ الأسد التصحيحيّة، وذكرى حرب تشرين التحريريّة كانت صاخبة في زمن بطل التشرينين، في زمن كنّا فيه أطفالًا صغاراً مجنّدين لدحر الاستعمار والصهيونيّة، ومخطّطاتهم التآمريّة على سيادة دولتنا الواقفة في وجه أي عدوان يضرب أيّ شبر من البلاد العربيّة. كنّا، نحن طلائع البعث، زهوراً تفتحت في نيسان العزّة والكرامة.

لعن الله طفولتنا. لعن الله بلادنا. ويا لحسرتي على أبائنا وأجدادنا الذين سمحوا لهم بأن يذيقونا هذا الذل. يا لحسرتي، ويا لقهري. لعن الله طفولتنا، لعن الله ذاكرتي…. لعن الله ذاكرتي.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى