صفحات المستقبل

أغضب على «علبتك»

زينب ترحيني

خروجك من «العلبة» الصغيرة يتطلّب كثيراً من الغضب. هي انتظرتك منذ ولادتك، بعد أن فُصّلت على مقاس يتناسب وضعك. ساد الانسجام وكبرتما سويةً. نموّ سيكون متناسقاً بينك وبين تلك العلبة. هو نموذج واحد. لا حظّ لك في كثير من التنويع. عندما تولد، سيكون في البال أن الآتي «نسخة» محسومة المعالم. عادةً ما تكون أنت «وفق الطلب». تتجهّز المقاسات والألوان والأفكار لاستقبالك. وهنا تحضر «العلبة». لا مفرّ.

نظام رقابة متكامل. الحلم كبير بأنّ ما يُعمل عليه، سينتج صورة لما هو مرغوب به. تتردّد كلمة معايير. على الأرجح، لن تفقه منها شيئاً في بدايتك. لهذا ستسمع وتلبّي وتقرّر ما يُراد لك. الرفض غير وارد، سوى في حالات اللعب والمزاح. وأنت لا تعدّ لهذا الإطار.

تكبر وكذلك تفعل علبتك. تتسع لتحمل كلّ ما يأتي من حولك. عواصف من الأفكار والخطوات، كلّها منظّمة. وأنت تتقدّم على أساسها، وتتصرّف وفقها. لا داعي لفهم ما يجري، يكفي التنفيذ.

يتقرّر أنه عليك تعلّم العزف على البيانو، وهكذا يحصل.

يتقرّر انضمامك إلى «كشاف» حزبيّ محدّد، وهكذا يحصل.

يتقرّر أن دروس القرآن ملاذ ضروري لإنقاذك من عثرات مقبلة، وهكذا يحصل.

يتقرّر أن خطّاً واحداً يتوجّب لأفكارك السير فيه، وهكذا يحصل.

إلى هنا، كلّ شيء مناسب. تسير الأمور وفق ما تحمله «علبتك».

إن رغبت في تعديل المشهد ستحتاج إلى كثير من.. الغضب. رفض ما ينزل فوق رأسك. قل «لا»، وستسمع رفضاً مقابلاً. لهذا لن يُجدي نفعاً الاكتفاء بالرفض.

لهذا ستكون معركتك طويلة.

لا استعانة لك سوى بالغضب. لغضبك قدرة على استجرار الطاقة. وهذا أول ما تحتاجه. غضب داخليّ يدفعك نحو التمرّد. أن تختار صورتك التي ترغب أن تكون، مهمّتك. انتزاع هذا الحقّ ضروري.

اغضب للخروج من «علبتك»، أقلّه كي تتعرف على علب كثيرة تسير قربك. اغضب لتختار أفكاراً، لك أنت وحدك حقّ اختيارها. اغضب لانتقاء ما يناسبك، وليس ما يتناسب مع الساعين لبناء هيكل يُشبههم.

فجأة يحدث ما يشبه الانسلاخ. كما كنت تكبر، لم يكن في بالك سوى أنك وعلبتك نحو مصير واحد. كبرتما في وتيرة متناسقة، لكن فجأة حطّ الانفصال. الانشقاق. غضب على كلّ التفاصيل، بكبيرها وصغيرها.

جميلٌ تفاعلنا ووصولنا إلى نقطة لإعادة الترتيب. خوض معركة مع الذات لإنتاج معارفك الخاصّة لا تحتاج سوى إلى بعض الغضب. يكفي تحريك اليدين والنظر إلى أعلى ثم أسفل، وبعدها اتخاذ القرار: هذا ما أريد. أن نمارس على علبتنا قليلٌ مما نفعله لتأخر اتصال انتظرناه مطوّلاً، حتماً سيُنقذ الموقف.

فلنغضب لحريّتنا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى