حسام الدين درويشصفحات الرأي

أفكار عن الثورات أو الانتفاضات الاحتجاجية السائدة حالياً في العالم العربي

 


حسام الدين درويش

رغم أنَّ النقاش المختلف ومتعدّد التوجهات في أمور السياسة الداخلية في سورية هو، منذ عقود طويلة، أحد المحرّمات الثابتة في معظم بلادنا العربية، إلا أنه ليس من النادر أن يتمّ التطرّق في الكثير من المناسبات والأحيان إلى هذه المسائل، وإلى نظام الحكم، في هذا البلد العربي أو ذاك، من حيث طبيعته وآلياته ونتائجه وما إلى ذلك. ويهدف هذا المقال إلى إخراج بعض أفكار هذه النقاشات من العتمة إلى النور. وقد تساعد محاولة نقل هذه الأفكار من مستوى الثقافة الشفاهية إلى مستوى الثقافة المكتوبة على تخفيف حدة هذا التابو من جهة أولى، وعلى إغناء هذه الأفكار والاغتناء بها في وقت واحد، من جهة ثانية. وهناك أملٌ في أن يساهم ذلك في زيادة الحراك السياسي الذي تشهده بلادنا العربية حالياً. والمنهج الذي سأتبعه خلال عرض كل فكرة من هذه الأفكار يقوم على طرح الفكرة وبيان معقوليتها النسبية والجزئية أولاً، قبل محاولة تبيان أوجه قصورها عن التعبير الكامل عن الواقع الذي يُفترض أنها تسعى لتمثيله نظرياً. وسيتم السعي بعد ذلك لطرح ما يناقض هذه الأفكار ويكملها في الوقت نفسه. ولا يخفى على المنشغلين بالفلسفة أنُّ هذا المنهج يُحاكي بدرجة ما المنهج النقدي لكانط، والذي تبناه لاحقاً الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في الكثير من بحوثه. ويتألف هذا المنهج النقدي باختصار من لحظتين متكاملتين : تقوم الأولى على إبراز مشروعية ومعقولية شيء أو فكرة ما، في حين تختص اللحظة الثانية بالتشديد على إبراز حدود هذه المشروعية أو المعقولية.

يشيع الحديث عن المركزية الأوربية أو الغربية أو ما شابه. ويتضمن هذا الحديث القول بدونية بعض الشعوب غير الأوربية : فالعرب أو الأفارقة أو “الشرقيون” هم، في نظر بعض أقطاب هذه المركزية، أشخاص عاطفيون ويميلون لتقديس الفرد الحاكم، وهم بمعنى ما غير قادرين على الاتصاف بالعقلانية أو التمتع بالحرية أو إنشاء أنظمة سياسية ديمقراطية. والتاريخ، قديمه وحديثه، يوفِّر الكثير من القرائن التي تدعم هذه الفكرة التي ترقى إلى مستوى النظرية أحياناً، بحيث يتم هذا الحديث أو التوصيف بطريقة ماهوية أنطولوجية، وليس فقط بطريقة تاريخانية. والحديث بطريقة ماهوية يعني هنا القول بأنَّ طبيعة هذه الشعوب لا تنسجم كثيراً مع قيم العقلانية والحرية والديمقراطية بالمعنى العام لهذه المصطلحات. ورغم لاتاريخانية هذه النظرية، فإنها لا تجد حرجاً في البرهنة على طرحها من خلال إيراد الأمثلة أو الوقائع التاريخية المؤيدة لهذا الطرح بمعنى ما، والمشيرة إلى هذا العصر أو ذاك، أو هذه الحادثة أو تلك.

رغم وجود رفض مبدئي أيديولوجي وأخلاقي عام لهذه الفكرة أو النظرية، واتهامها بالشوفينية والعنصرية وما شابه، إلا أنَّنا كثيراً ما نجد تبنياً لها، بوعي وبقصد أو بدونهما، في أفكار الكثيرين من العرب، مثقفين وغير مثقفين، عن أنفسهم. ويظهر هذا التبني مثلاً في قول المدافعين عن الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، أو المبرّرين لوجودها، إنَّ شعبنا لا يستحق الحرية وهو غير قادر على ممارستها في الميدان السياسي على الأقل. ولتبرير هذه النظرة أو النظرية يتم الإشارة إلى عدم نضج وعي معظم أفراد الشعب وطائفيتهم أو عشائريتهم أو قبليتهم أو حتى لاأخلاقيتهم في كثير من المواقف أو الأحيان. وهم لا يعدمون الكثير من أقوال أو أفعال الكثير من الأفراد والمسؤولين التي تؤيد جزئياً ما يذهبون إليه بطريقة ما، مقنعة نسبياً. وبعض المتبنين لهذه الفكرة لا يحاولون زعم ديمقراطية هذه الأنظمة الاستبدادية أو عدم ديكتاتوريتها، ولا يجدون حرجاً في القول بأنّه “كما تكونوا يُولَّى عليكم”، وبأن شعباً غير واعٍ ولا يفهم حقاً معنى الحرية ولا كيفية ممارستها، لا بدّ أن يحكمه نظام سياسي ديكتاتوري واستبدادي يعبِّر عن طبيعته اللاعقلانية والمضادة للحرية بمعنى ما. ويذهب مؤيدو هذه النظرية للقول أن واقع المجتمع برمته لا يسمح بإعطاء الشعب حريته أو ممارسته لها بسبب فساد معظم وربما كل المؤسسات في الدولة ومعظم المسؤولين عنها.

بعيداً عن مناقشة النظرية المركزية بأبعادها العرقية أو الشوفينية، أجد في هذا القول بعضاً من الصواب أو الحقيقة، على المستوى السياسي والاجتماعي، هذا إذا أمكن بالفعل تقسيم الحقيقة. فعلى صعيد السياسي، تتطلب ممارسة الحرية، بطريقة رشيدة وعقلانية الكثير من الأمور التي نفتقدها كشعب عربي بدرجة أو بأخرى. فممارسة الحرية في العمل السياسي، بشكل سليم نسبياً أو جزئياً، تتطلب الكثير من الخبرات والتراكمات التاريخية في هذا المجال. والحرية بدون ضوابط داخلية لدى البشر وخارجية في المؤسسات يمكن بسهولة أن تتحول لفوضى غير خلّاقة. ونحن نفتقد للكثير من هذه الضوابط والمؤسسات. ومن الصعب في الكثير من البلدان الاعتماد على المؤسسات القائمة لضبط ممارسة الحرية. ومن الصعب أيضاً الاعتقاد بإمكانية خلق مؤسسات جديدة بالسرعة الكافية. كما أنَّ ثقافة التعايش مع الاختلاف، سواء على الصعيد الفردي أو الجمعي غير سائدة في دولة ومجتمع اعتدنا فيهما غالباً على سيادة رأي واحد وحزب واحد ورئيسٍ أبدي واحد … الخ. وهكذا فهناك هناك مخاوف محقة من أن تؤدي ممارسة بعض الشعوب والأفراد أو المجتمعات للحرية السياسية إلى اضطرابات ونزاعات وانقسامات دينية أو طائفية أو عرقية وما شابه، بما يؤدي في النهاية إلى تقسيم البلد أو الوطن وتبديد مقدراته وإفقار وتقتيل شعبه.

إن المعقولية النسبية والجزئية التي يمكن تبينها في النظرية القائلة بأن واقع دولنا أو مجتمعاتنا عموماً وواقع شعبنا خصوصاً لا يسمحان بممارسة هذا الشعب لحريته، وببناء ديمقراطيته في المستقبل المنظور على الأقل، يجب ألا تحجب حدود هذه المشروعية وجزئيتها ونسبيتها. إذ يجب التأكيد بدايةً انه ومن حيث المبدأ وبمعنى أخلاقي وإنساني لا يوجد شعب لا يستحق الحرية. وإذا كانت هناك أسباب تدفعنا للقول بأنَّ الشعب غير قادر على ممارسة الحرية بشكل سليم وكامل، وبأنه بالتالي غير جدير بها، فهل يمكن أن يدفعنا هذا للقول إنَّ هذا الشعب يستحق أن يُحكم من قبل نظام ديكتاتوري يدوس شعبه ببوطِ عسكري، بالمعنيين الحرفي والمجازي لهذا التعبير؟

أرى أنَّ الخطأ النسبي، الذي تقع فيه النظرية القائلة بأنَّ شعبنا غير جدير بالحرية، يكمن في أنها تنطلق في حكمها من صفات معينة ترى أن شعبنا وواقعنا عموماً يتصفان بها، بدلاً من الانطلاق من لامقبولية ورفض الاستبداد وقمع الحرية وامتهان الكرامات والإفقار والزج في السجون والتقتيل والتشريد أو التهجير وغير ذلك مما تعرضت وتتعرض له شرائح واسعة من شعوب البلاد العربية. إنّ الانطلاق من الرفض المبدئي لهذه الأمور يعني ضرورة البحث، نظرياً وعملياً، عن طرق وآليات التخلص منها وبناء بديل سياسي مناسب لها. ولا يوجد في كثير من الأحيان، وربما دائماً، بديلٌ أنسب من الديمقراطية. والديمقراطية هنا ليست نموذجاً جاهزاً نستورده من هنا أو من هناك، دون أن ينفي هذا طبعاً إمكانية، بل وضرورة، الاستفادة من تجارب الدول والشعوب الأخرى في هذا المجال. الديمقراطية هنا تعني، فيما تعنيه، الاعتراف بطبيعية التعددية والاختلاف على كافة الصعد والمستويات، وتقنين الصراع السلمي بين مختلف التيارات والآراء بطريقة مؤسساتية وقانونية، منظمة وعادلة وشفافة. الديمقراطية تعني حكم الشعب لنفسه عن طريق اختياره لممثليه، بانتخابات تجري بطريقة نزيهة وشفافة، في ظل قوانين تحفظ الحريات الأساسية والثانوية للمواطنين، وتسمح بالتعددية السياسية وتتأسس عليها، وتؤكد على مبدأ التداول السلمي للسلطة. الديمقراطية تعني أيضاً الاستقلال النسبي والفعلي للسلطات عن بعضها البعض مع التأكيد خصوصاً على استقلال وفعالية القضاء.

للديمقراطية، حتى في أعلى درجات تطبيقها رقياً أو تطورا،ً مساوئ كثيرة وكبيرة ولا شك. وهناك أسئلة عميقة تم طرح بعضها سابقا،ً ويتم طرح الكثير منها حالياً تتعلق بمدى ديمقراطية الديمقراطيات الحالية، إذا صحَّ التعبير. لكن جُّل هذه السلبيات والمساوئ والتساؤلات يتعلق بآلية تطبيق المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية وكيفياته، أكثر من تعلقها بهذه المبادئ بالذات. وهذه السلبيات والمساوئ قد تزداد كثيراً في الديمقراطيات الوليدة أو التي يمكن أن تُولد في بلدان يفتقر واقعها للكثير من متطلبات النظام الديمقراطي. وكما أسلفت، هذا هو واقع الحال في معظم وربما كل بلادنا العربية، وبدرجات متفاوتة. للديمقراطية مساوئ ولاشك، لكن لا سبيل واقعي وايجابي للتخلص من أكبر قدر ممكن من هذه المساوئ والسلبيات إلا بمزيد من التطبيق الفعلي والمناسب لمبادئ أو أسس الديمقراطية. وهذا يتطلب مراجعة دورية ودائمة لآلية تطبيقها، ولمدى تحقيقها أو تجسيدها لهذه الأسس والمبادئ. وباختصار لا حلّ أو مواجهة ايجابية لمشاكل أو سلبيات الديمقراطية إلا بمزيد من الديمقراطية.

وبالنسبة لفكرة “كما تكونوا يُولَّى عليكم” يمكن التعقيب بالتأكيد أولاً على الفكرة المضادة والمكملة لها في نفس الوقت، وأقصد بذلك فكرة “كما يولى عليكم تكونوا أيضاً”. صحيح أن المسؤولين بمختلف مراتبهم ومسؤولياتهم هم غالبا،ً بل ودائما،ً من الشعب. وهم لذلك يعبرون، بدرجة أو بأخرى، عن طبيعة تكوينه الثقافي والاجتماعي والسياسي … الخ، لكن من الصحيح أيضاً أن تمثيل الرئيس للمرؤوس في حالة النظم الديكتاتورية يكون بعيداً عن رغبة معظم المرؤوسين وتطلعهم إلى حياة حرة كريمة.

فالاختلاف الرئيس بين النظامين الديمقراطي والديكتاتوري يكمن في أنّ مصدر السلطة وشرعيتها في النظام الأول ينبع من القاعدة أي من الجماهير، والدور المفترض لقمة الهرم يكمن في العمل على تحقيق تطلعات الشعب وتمثيلها بأفكار وإجراءات مناسبة. وبدون ذلك يفقد الرئيس شرعيته ويمكن إسقاطه بوسائل متعددة (حجب الثقة في البرلمانات أو المجالس النيابية، خسارة الانتخابات في صناديق الاقتراع، القيام بمظاهرات ضخمة تبين وجود عدم رضا كبير عن أداء الرئيس، الخ.) يجب أن يوفرها دائماً النظام الديمقراطي. بالمقابل نجد أنَّ مصدر السلطة في النظام الديكتاتوري يأتي أساساً من امتلاك النظام والقائمين عليه للقوة العسكرية والأمنية وما شابه. وبدلاً من أن يعمل النظام على تمثيل شعبه بتحقيق تطلعاته والسعي لتحسين أحواله بحيث يعش هذا الشعب بحرية وكرامة، نجده يتعامل مع أفراد هذا الشعب كرعايا لا كمواطنين، ويصبح همه الأول في هذا الإطار هو الترويج لإيديولوجية مشرعنة لوجوده ولأهمية استمرار هذا الوجود. ويتم رهن وجود الدولة أو ما يُسمى بالوطن ووحدته بشخص الحاكم الديكتاتور. ويتم من أجل ذلك تطبيق مبدأ “فرق تسد”، واللعب على وتر الاختلافات العرقية والدينية والطائفية والقبلية وما شابه. وينتج عن ذلك غالباً ضعف نسبي وكبير في الشعور الوطني والتعاضد أو التلاحم بين معظم فئات أو أفراد البلد الواحد. وبسبب ذلك يتراوح شعور الكثيرين من أبناء الدولة أو الوطن الواحد، تجاه بعضهم البعض، بين اللامبالاة والريبة والخوف والعدائية أو حتى الحقد. ولهذا السبب ولغيره من الأسباب يجب التأكيد على القول بأنَّه “كما يُوَّلى عليكم تكونوا” بالقدر نفسه وربما أكثر من التأكيد على القول بأنَّه “كما تكونوا يُولَّى عليكم”. لا بل يمكن القول إنّ القول الثاني ينطبق على النظم الديمقراطية أكثر من انطباقه على النظم الديكتاتورية التي ينطبق بالمقابل القول الثاني بدرجة أكبر عليها.

وإنّ الضعف النسبي للشعور أو الانتماء الوطني، والسيادة النسبية للانتماءات العرقية والدينية والطائفية والمناطقية والقبلية وما شابه، يجعل من خطر تفتت الوطن ونشوب حرب أهلية بصبغة دينية أو عرقية أو قبلية أو ما شابه أمراً ممكنا وواقعيا دائماً. ولهذا يقبل البعض أو الكثيرون، على مضض أو بدونه، بربط الوطن بشخص الزعيم القائد الرئيس أو الأمير أو الملك الأبدي. وعند الحديث عن أي مطالبة بتغيير الرئيس ونظام حكمه الديكتاتوري، يلجأ البعض للتلويح بفزاعة البديل المحتمل. ويعلنون عدم رغبته بالانتقال من السيّئ لما هو أسوأ ويتجسد هذا الأسوأ غالباً في حربٍ أهلية أو دولةٍ دينية أو طائفية متطرفة تضيق على الحريات. ولعل تجربة العراق بعد سقوط الديكتاتور صدام تبين المعقولية النسبية لهذا القول، دون أن ينفي ذلك طبعاً الخصوصية النسبية للتجربة العراقية في الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وايجابيات هذه التجربة، والآفاق المستقبلية الايجابية الكبيرة التي أفسحت هذه التجربة لإمكانية لوجودها.

في الرد على التخويف مما يُعتبر بديلا أسوأ من واقع أو نظام اجتماعي سياسي سيّئ، أرى أنّه يمكن، بل ويجب، التركيز على عدة نقاط أساسية:

أولاً- يزداد غالباً حال البديل أو البدائل سوءاً مع استمرار وجود النظام الديكتاتوري صاحب المصلحة المباشرة في تخويف الناس أفراداً وجماعات من بعضهم البعض. ولا مجال لتحقيق الوحدة الوطنية الحقيقية والأمن والأمان الفعليين إلا بالتخلص من النظام الديكتاتوري الذي يقوم بتحويل الاختلافات بين أفراد الشعب وفئاته إلى خلافات وانقسامات تكون أشبه بقنابل موقوتة يهدد النظام بتفجرها، أو بالأحرى بتفجيرها، حين يتم طرح فكرة استبداله أو حتى إصلاحه أو قيام أي معارضة له أو ضده. ولهذا لا معنى حقيقي لربط فكرتي الوحدة الوطنية والأمان ببقاء نظام اتُفق على ديكتاتوريته، ولا يمكن منطقياً وواقعياً اللجوء إلى منطق الثالث المرفوع في الحديث عن العلاقة بين الوحدة الوطنية والأمان من جهة، والحرية والديمقراطية، من جهة أخرى. فوفقاً لهذا المنطق، إما أن نقبل بالنظام الديكتاتوري، إذا أردنا الوحدة الوطنية والأمان، وإما أن نضحي بهما، في سعينا للحرية والديمقراطية. وعلى الرغم من كل الدعايات الوطنية الإيديولوجية التي يسوِّقها النظام من خلال إعلامه ومؤسساته المختلفة، إلا أن هذه الوطنيات هي غالباً زائفة لأنه يتم اختزال الوطن بشخص يتم التأكيد على ضرورة وجوده واستمراره حماية خدمة للوطن والشعب ووحدته المزعومة. وهكذا فإن بقاء الديكتاتور في منصبه يكون غالباً نتيجةً لعاملين أساسين مهمين : أولهما استخدام الديكتاتور لقوى الأمن أو الجيش أو كليهما لقمع وإضعاف أو حتى إنهاء كل معارضة وكل إمكانية لقيام بديل حقيقي ومناسب له، والثاني هو خوف الشعب من البدائل المتوفرة، والتي تظهر غالباً على شكل حرب أهلية محتملة، بل ومرجحة. ولهذا السبب ولأسباب أخرى يجب التأكيد على التلازم والترابط المنطقي والواقعي بين الأمان والوحدة الوطنية، من جهة مع نظام الديمقراطية والحريات، وليس مع نظام الديكتاتورية والاستبداد، من جهة أخرى. وفي العودة للتجربة العراقية يمكن المحاججة بالقول إن الحرب الأهلية التي سادت في العراق بعيد وبعد سقوط صدام حسين هي نتاج دكتاتورية النظام الديكتاتوري لصدام حسين بقدر كونها نتاجاً لطبيعة المجتمع العراقي ولديمقراطيته الوليدة المشوهة نتيجةً لخضوعه للاحتلال وتحوله لفريسة تتجاذبها قوى وتوجهات محلية وإقليمية ودولية متعددة، بعيدة كل البعد غالباً عن المصالح الحقيقية للشعب العراقي نفسه.

ثانياً- إن بديل النظام الديكتاتوري ليس ناجزاً أو جاهزاً كما يفترض الكثيرون. فالنضال من أجل إسقاط النظام يتضمن، أو يجب أن يتضمن، هو نفسه، نضالاً من أجل خلق البديل المناسب. والنظام الديكتاتوري، ونتيجةً لقمعه معظم معارضيه من أحزاب أو أفراد ذوي شعبية وشخصية كارزمية أو غيرهم، لا يفسح أصلاً مجالاً لظهور أي بدائل حقيقية له. لذا لا توجد بدائل أكيدة وناجزة لهذا النظام، وبديل النظام الديكتاتوري مرهون بعوامل كثيرة، ولاشك أن نضال الشعب هو أحد أهم هذه العوامل، بل ربما كان هو أهم هذه العوامل على الإطلاق. وهذا برأيي هو أحد أهم الدروس المستقاة أو المستفادة من الثورة المصرية العظيمة، التي يمكن اعتبارها وبدون مبالغة إحدى أرقى الثورات التي حصلت في العالم الحديث.

ثالثاً- إنَّ التأكيد على أنَّ البديل غير ناجز يجب أن يترافق مع التأكيد على أنَّ طبيعة المجتمع وطبيعة العلاقات والأفراد المكونين له غير ناجزة أيضاً. فهذه الطبيعة هي في صيرورة دائماً، وهي ليست أحادية بحيث يمكن القول عن شعب أو مجتمع أو فرد ما بأنه مؤهل او غير مؤهل للحرية. فمن ناحية أولى مبدئية، يجب التأكيد أولاً على الحكم بأنَّ الشعب، كل شعب، يستحق، بالمعنى القيمي الأخلاقي والإنساني، أن يكون حراً. وهذا الحكم ينطلق من مسلمة أخلاقية تنص على أن الحرية هي جزء لا يتجزأ من كرامة الشعب، ويجب لذلك يجب السعي إليها والحفاظ عليها بشكل دائم. ومن ناحية أخرى، يجب التأكيد على أن طبيعة هذا الشعب بأفراده وجماعاته هي في حالة صيرورة، وهي حافلة أو حبلى بالكثير من الإمكانيات المختلفة بل والمتناقضة. وحتى في حال وجود نعرات عنصرية عرقية أو دينية أو قبلية أو ما شابه، إلا أنَّ هذه النعرات أو الانقسامات يمكن أن تتجاور في نفسية الشعب وثقافته ووجدانه مع توجهات أو أفكار راقية إنسانياً وأخلاقيا وحتى سياسياً. وكل هذه الانقسامات والتوجهات ليست إلا موجودات بالقوة. ومن المبرر بالتأكيد التخوف من تحقق وظهور ما هو سلبي أو سيء منها بمعنى ما، لكن تحول ما هو موجود بالقوة إلى وجود بالفعل مشروط بعوامل كثيرة يأتي في طليعتها مدى وكيفية نضال الشعب ووعيه وفاعلية شرائحه وفئاته. وبالعودة للتجربة المصرية نجد انه على الرغم من وجود انقسامات وتوترات كبيرة بين مسلمي مصر وأقباطها، وعلى الرغم من تخوف معظم هؤلاء الأقباط وغيرهم من ظهور دولة دينية إسلامية متطرفة، كانت تَعتبر كبديل وحيد وشبه مؤكد للنظام الديكتاتوري السابق، إلا أن النضال الذي قاده الجيل الشاب في مصر خلق، أو ساهم في خلق، بدايات بديل جديد، لم يكن معظمنا يتصور، أو حتى يحلم، بإمكانية وجوده بهذه السرعة وهذه الطريقة. وكلامي هذا لا ينفي طبعاً أنَّ الثورة المصرية لم تكتمل حتى الآن، وأنَّه من المبكر الحكم النهائي عليها. فعلى الرغم من إسقاطها للرئيس مبارك وللكثير من أعوانه وأركان حكمه، إلا أنً بقايا النظام السابق مازالت موجودة وبقوة نسبية، كما أنَّ بناء النظام الديمقراطي البديل مازال غير واضح المعالم، وهو في مراحله الأولية. لكن مقاربتنا للثورة المصرية أو غيرها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما هو ممكن واقعياً. ويمكنني القول، بمعنى تقريبي ما : لا أظن أنه كان فعلياً بالإمكان أفضل مما كان.

وأختم مقالي هذا بنقطة تبدو لي بالغة الأهمية. أظهرت الثورات أو الانتفاضات العربية عموماً مدى تخلف الفكر العربي السياسي وعجزه عن ملامسة الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد العربية ولشعوبها . فقد أدمن الكثير منا على جلد الذات، متأثرين بمشاعر اليأس والإحباط الناتجة عن وجودنا في بلاد تحكمها أنظمة استبدادية. وكان هذا في رأيي هو أحد أهم العوامل التي جعلتنا ننظر نظرة دونية إلى هذا الشعب وإلى مستوى وعيه وممكناته. لكن هذا الشعب تجاوز بممارسته الفعلية كل نظريات وتنظيرات المثقفين والمفكرين ومنظري الأحزاب المتهالكة. وصار علينا جميعاً الارتقاء لمستوى وعي شعبنا، بعد أن كان معظمنا يعتقد أَّنه يقوم بمهمة تنويرية، ويساهم في محاولة الارتقاء بمستوى وعي هذا الشعب، ليصل إلى مستوى وعيه المظنون. لقد سعى الكثير من المفكرين العرب إلى التأثير في الوعي السياسي وغير السياسي للشعب العربي، لكنَّ الثورات والانتفاضات المستمرة في عدد كبير من البلاد العربية جعلت من المعقول القول أنَّ قدرة الممارسة والوعي السياسيين لعامة الشعب العربي على التأثير في نظريات وأفكار مفكريه و مثقفيه هي اكبر بكثير من قدرة نظريات وأفكار هؤلاء المفكرين والمثقفين على التأثير في وعي وممارسة هذا الشعب. وبذلك فقد ردَّ هذا الشعب اعتباره عملياً، وفاجأ نفسه وفاجأ الجميع بتحقيقٍ لممكنات لم يستطع أن يلحظها أغلب، وربما كل، المتابعين. ومن المهم والضروري محاولة التأطير النظري لعملية رد الاعتبار هذه. وهذه الضرورة ليست ضرورة أخلاقية فقط وإنَّما هي، قبل ذلك وأهم منه، ضرورة أيديولوجية ومعرفية أيضا. سأكتفي بهذا القدر، وأترك باقي الأفكار والشروحات لمقالات أخرى، أو لمناقشة الردود أو التعقيبات إن وجدت.

موقع الآوان

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى