بكر صدقيصفحات سورية

أفكار في انفصال الكرد في دولتهم المستقلة/ بكر صدقي

 

 

تبدو إيران اليوم هي الدولة الأشد اعتراضاً على انفصال كرد العراق في دولة مستقلة، مقابل مرونة نسبية عربية وتركية. يتعلق الأمر، على ما يبدو في الحالتين الأخيرتين، بانحدار العقيدتين القوميتين الكمالية والبعثية اللتين دخلتا طور الشيخوخة والانحطاط، مقابل صعود عقيدة امبراطورية في إيران يطغى عليها الجانب الديني المتمثل في العصبية الشيعية.

ليس أدل على ذلك من انتقال الحساسية القومية الكردية، بالمقابل، من الشوفينيتين البعثية والكمالية نحو التيارات الإسلامية العربية والتركية. وهذا ما سهل صعود حساسية علمانية كردية بسبب مواجهتها لأنظمة وتيارات إسلامية في إيران وعراق ما بعد صدام حسين وتركيا الأردوغانية، إضافة إلى سوريا ما بعد الأسد (الفصائل الإسلامية المقاتلة في المناطق المحررة).

من زاوية النظر هذه، يصبح ذو دلالة ذلك التزامن بين اجتياح منظمة داعش للموصل واستيلاء بيشمركة بارزاني على مدينة كركوك المتنازع عليها سابقاً. أي كأننا أمام رد فعل كردي مباشر، وربما محسوب مسبقاً، على انفصال الاقليم العربي السني في هيئة «دولة الخلافة الإسلامية». أو كأنه رد فعل كردي «علماني» على قيام دولة عربية دينية بجوارها. في حين كانت حكومة المالكي الطائفية الموالية لإيران قد فعلت كل ما من شأنه نبذ سنة العراق الأوسط وكرد شماله نحو الانفصال السياسي والنفسي عن الدولة المركزية.

ليست «علمانية» الكرد معطىً بديهياً أو أنطولوجياً كما يحلو لتيارات قومية كردية أن تظهر الأمر، بقدر ما هي هوية ولدت في الصراع السياسي ضد تيارات يغلب عليها الوجه الديني، فضلاً عن جذور تمتد في التاريخ إلى تفكك الامبراطورية العثمانية متعددة القوميات، حين خرجت جميع القوميات من إطارها، بما في ذلك الأتراك أنفسهم، بحثاً عن تقرير مصيرها بنفسها، باستثناء الكرد الذين تمسكوا بالرابطة الإسلامية فبقوا تحت جناح «الأخ الأكبر» التركي. وما أن أعلن مصطفى كمال إلغاء الخلافة حتى تمرد عليه الكرد بقيادة الشيخ سعيد الذي ينسب إليه القول: «كان الإسلام هو ما يجمعنا مع الأتراك، وبإزالة الخلافة انقطع آخر خيط يربطنا بهم». منذ تلك اللحظة تطورت ردة فعل كردية ضد الإسلام بوصفه «سبب تخلفنا واستتباعنا للأمم الأخرى» على ما يردد أكراد كثر. كأننا هنا أمام مفارقة تاريخية: إذا كان إلغاء الخلافة، في العام 1924، أدى إلى أول تمرد انفصالي كردي ضد الدولة المركزية التركية، فإعادة الخلافة في الموصل، بعد تسعين عاماً، من المحتمل أن تؤدي إلى انفصال كرد العراق في دولة مستقلة، كما يلوِّح بذلك مسعود بارزاني.

هذا لم يمنع انخراط كرد في حركات إسلامية عربية، بل تأسيس حركات إسلامية كردية خالصة، إضافة إلى تأييد قسم كبير من كرد تركيا لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم. غير أن الحساسية الطاغية لدى النخب الثقافية الكردية في الأحزاب القومية وخارجها، هي حساسية علمانية متشددة ضد كل ما هو إسلامي. وربما هذا ما أتاح إقامة تحالفات غير معلنة، ومتقطعة، بين حزب العمال الكردستاني في تركيا وبين إيران الشيعية من جهة ونظام الأسد المتحدر من الطائفة العلوية في سوريا من جهة ثانية. فحزب أوجالان العلماني الهوى، وإن كان ذلك ببراغماتية بلا حدود، لن يجد ضيراً في التحالف مع أنظمة طائفية تشاركه العداء ضد الإسلام السني العربي والتركي.

في الوقت الذي يسود فيه الجبهة بين الاقليم الفدرالي الكردي في العراق و»دولة الخلافة الإسلامية» هدوءٌ تكتيكي هش اقتضاه صراع داعش الساخن ضد نظام المالكي في بغداد، تدور حرب طاحنة بين الفرع السوري لداعش والفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في بلدة كوباني وما حولها بصورة خاصة. من المحتمل أن حرب داعش لن تتأخر ضد الكيان الكردي الذاهب إلى الانفصال في شمال العراق، من جهة لأن تمدد داعش جنوباً باتجاه بغداد دونه صعوبات كبيرة، ومن جهة ثانية لأن جيش المالكي لا يستطيع ضرب الاقليم الكردستاني من فوق «الدولة الإسلامية» إلا بالطيران، ومن المحتمل أن واشنطن لن تسمح له بقصف جوي لحليفه المقرب بارزاني.

فدولة داعش الوليدة هي مشروع تمدد وفتح وجهاد دائم بالتعريف، على غرار ثورة تروتسكي البروليتارية الدائمة. فإذا عجزت عن الوصول إلى بغداد، لا بد لها من التمدد شمالاً. من جهة أخرى، بعد سقوط البعث القومي في كل من العراق وسوريا، يصبح من المحتم انتقال قيادة النزعة القومية العربية إلى الحركات الإسلامية الفائرة الآن، وهو ما يلاحظ بصورة خاصة في سوريا حيث تحارب داعش النزعة الانفصالية الكردية التي تجسدت في «كانتونات» حزب الاتحاد الديموقراطي – الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. أما الحكومة المركزية في بغداد، فتبعيتها المذهبية لإيران أبعدها بداهةً عن تمثيل أي نزعة قومية عربية حتى على مستوى التمسك بوحدة العراق، ناهيكم عن انفراط عقد جيشها في الموصل وكركوك. وتبدو القطيعة المعلنة بين حكومة المالكي وقيادة الاقليم الكردستاني مجرد صدى لقطيعة إيرانية – كردية أكثر من كونها نزعة وطنية عراقية لدى حكومة المالكي ضد الانفصالية الكردية.

في ظل الرفض الأمريكي المعلن للخطوات الانفصالية الكردية، بما في ذلك الاستفتاء على استقلال الاقليم وتصدير النفط بقرار أحادي وضم كركوك كأمر واقع، لا يبقى لبارزاني من حليف غير تركيا الأردوغانية التي أظهرت علامات على تقبل فكرة انفصال الاقليم في دولة مستقلة تربطها علاقات مميزة مع أنقرة. ولكن إلى أي حد تستطيع تركيا المضي في هذه السياسة على الضد من الإرادة الأمريكية؟ أم أنها تراهن على نزعة الانسحاب الأمريكية في ظل قيادة أوباما التي ظهرت بوضوح في سوريا والعراق؟

إذا كان من شيء مؤكد، في هذه اللوحة المعقدة، فهو أن المنطقة مقبلة على مزيد من الصراعات الدينية والقومية والمذهبية.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى