صفحات العالم

«أقليات» و«أكثريات»: الكرد من سيفر الى أربيل

كامران قره داغي

البداية كانت مع سقوط الامبراطورية العثمانية، كما كتب حديثاً صحافي بريطاني مخضرم مهتم منذ عقود بقضية الكرد. ففي 1916 وعدتهم بريطانيا وفرنسا، في اتفاق سايكس-بيكو، بدولتهم الوطنية ثم تراجعتا، وانتهى الأمر بهم «أقليات» مضطهدة بدرجات متفاوتة توزعت بين أربع دول: ايران والعراق وتركيا وسورية. لكنهم منذ ذلك الحين لم يتوقفوا عن شن انتفاضات وتمردات وثورات من أجل حقوقهم المشروعة. وإذ اتاحت مغامرة احتلال الكويت في 1990 فرصة تاريخية أمام كرد العراق لتحقيق اختراق في كفاحهم، فإن «الربيع العربي» منذ سنتين ونيف فتح آفاقاً جديدة أمام أشقائهم في تركيا وسورية. فوق ذلك فـ «الربيع» لم يفتح ملف الكرد وحدهم في تركيا وسورية، بل ملف «الأقليات» عموماً، عرقية ودينية ومذهبية، في هاتين الدولتين وفي المنطقة، أي «الأقليات» العلوية والقبطية والدرزية والآشورية والتركمانية والإزدية وغيرها، مع اقرار بأن الملف الكردي هو الأكثر سخونة في اطار «صحوة» أقليات الشرق الأوسط.

المؤتمر الوطني (القومي وفق التسمية المعتمدة) الكردي المفترض عقده في أربيل عاصمة إقليم كردستان أواخر الشهر الجاري، مكرس وفق أجندته للاتفاق على تنسيق المواقف والتعاون بين الأحزاب والكتل والجماعات الكردية في العراق وسورية وتركيا وإيران، وبمشاركة ممثلي إتنيات كردية في عدد من دول الاتحاد السوفياتي السابق. بعبارة أخرى هو مؤتمر شعبي بحت خارج اطار الدول التي تتقاسم كردستان الكبرى، إذ ان الكرد لا يملكون دولة في اي جزء من وطنهم المجزأ باستثناء جنوب كردستان كإقليم معترف به دستورياً منذ 2005 في اطار الجمهورية الاتحادية العراقية. يقال هذا مع ملاحظة ان الحركة الكردية ممثلة بأحزاب وجماعات في غرب كردستان (سورية) وشمالها (تركيا) تنشط الآن علناً، منفردة أو مع جماعات تمثل «الأكثريات» في دولها، وتتفاوض معها ومع حكوماتها أيضاً. ولكن، في الشرق (ايران) ما زالت الحركة الكردية تُقمع في ظل نظام الجمهورية الإسلامية ولا تعترف بها سوى شقيقاتها في بقية أجزاء كردستان.

أما مؤتمر سيفر الذي أسفر عن معاهدة حملت التسمية ذاتها في 10 آب (أغسطس) 1920، فكان دولياً بحتاً عقد بين الدول الكبرى والحكومة الانتقالية التي شكلت في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية نتيجة للحرب العالمية الأولى، وكُرِّسَ المؤتمر للبحث في تقسيم ارث الامبراطورية وتقرير مصير أجزائها الواسعة وشعوبها، وبينها الشعب الكردي الذي خصّته المعاهدة بما يلي في البنود 62 -64 (النص نقلاً عن ويكيبيديا): «إذا حدث، خلال سنة من تصديق هذه الاتفاقية أن تقدم الأكراد قائلين إن غالبية السكان القاطنين في المنطقة التي حددتها المادة 62 ينشدون الاستقلال عن تركيا، وفي حال اعتراف عصبة الأمم بأن هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلة وتوصيتها بمنح هذا الاستقلال، فإن تــــركيا تتعهد قبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المنطقة. وستكون الإجراءات التفصيلية لتخلي تركـــيا عــــن هــــذه الحقوق، موضوعاً لاتفاقية منفصلة تُبرَم بين كبار الحلفــــاء وتركيا. وإذا تخلّت تركيا عن هذه الحقوق، لن يثيـــر الحلفـــاء أي اعتــــراض ضد قيام أكراد ولاية الموصــل بالانضمام الاختياري إلى هذه الدولة الكردية». وكانت ولاية الموصل تشمل آنذاك كردستان العراق.

ما سلف من معاهدة سيفر جاء تجسيداً للمبدأ 12 من المبادئ الأربعة عشر المشهورة التي أعلنها الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة وودرو ويلسن (1913-1921) في 8 آب 1918، ونص على «ضمان سيادة الأجزاء التركية وإعطاء الشعوب الأخرى غير التركية التي تخضع لها حق تقرير المصير».

معاهدة سيفر نُقِضت لاحقاً لتحل مكانها معاهدة لوزان في 24 تموز (يوليو) 1923 في اعقاب انتصار القوات التركية بزعامة مصطفى كمال اتاتورك وتأسيسه الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1923 والتي رفضت الاعتراف بالبنود المتعلقة بالكرد كما وردت في معاهدة سيفر، لتضع بذلك خاتمة للحلم الكردي بدولة. أما البقية فتاريخ معروف.

ان وضع «سيفر» و»أربيل» في عنوان واحد لهذا المقال ليس للإيحاء بأن مؤتمر أربيل هدفه السعي الى احياء مشــــروع معاهدة سيفر بإقامة الدولة الكردية، مع الإقرار بأن لا دلـــيل ملموساً على أن التفسير الكردي لمضمون المواد المتعلقة بالكرد في المعاهدة كان مطابقاً لتفسير الدول الكبرى الموقعة عليها. الجمع بين سيفر 1920 وأربيل 2013 فـــي العنوان هو للإشارة الى أن «الأكثريات» فــــي الشرق الأوسط، وليس فيه فقط، لا تستطيع أن تعوّل عــلى قدرتها على محو هوية «الأقليات» وعلى أنها ستتلاشى تدريجياً حتى تزول نهائياً بالتقادم. هذا الواقع يتجلى بوضوح في مآل الــــوضـــع الكردي، ليس في العراق فحسب، بل في تركيا وإيران، وفي سورية خصوصاً، منذ مؤتمر سيفر في آب 1920 الى مؤتمر أربيل المرتقب في آب 2013.

قصــارى الكلام ان المنطقة لعلها تشهد تطورات جذرية مــــن شأنها ان تؤدي الى تغيير شامل لمفهوم «الأكثرية» و«الأقليـــة» الذي استخـــدم منذ مطالع القرن العشرين لتكريس الأمر الواقع المتمثل في هيمنة الأكثريات العرقية، العربية والفارسية والتركية، أو الدينية، على الدول وعلى الحكم فيها، مبدية بين حين وآخر وفقاً لمتطلبات مصالحها بعض «الكرم» ازاء الأقليات، عبر خفض مستوى قمعها واضطهادها لا أكثر. كل ذلك في مسعى لتهدئة الأقليات عند الحاجة، أما في معظم الأحيان فتعمل لشق صفوفها عن طريق ترضية أطراف منها، بشراء ذممها أو بتقريبها الى السلطة. يقال هذا مع الإشارة الى وجود حالات سيطرت فيها أقليات على السلطة لتحكم باسم الأكثرية، وأوضح مثال الحكم العائلي الأسدي العلوي الذي حكم باسم الأكثرية العربية، أو نيابة عنها، مع ان العلويين أقلية أصغر من الكرد في سورية.

كل هذا تغيّر الآن، ويصح القول ان المؤتمر الوطني الكردي في أربيل يجسد الواقع الجديد المتمثل في صحوة «أقليات» المنطقة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى