صفحات العالم

أكبر عملية سطو في التاريخ/ محمد صابر عبيد

 

 

يحفل التاريخ البشريّ بأشكال لا حصر لها من فنون الرغبة في الاستحواذ على أموال الغير بطرق غير مشروعة منذ أن اخترع الإنسان فكرة السطو واللصوصية، سواءً بفعل ضغط الحاجة والضرورة، أو استجابة للشراهة والعنف ومحو الآخر. غير أنّ ما يحصل الآن في العراق، على سبيل المثال، يفوق التصوّرَ ويتجاوز حكمة التاريخ في هذا المجال، ويقترب كثيراً مما يحصل في الأساطير والحكايات الخرافية، ولربّما يتجاوز ذلك ويخترقه لفرط حجم الكوارث اللصوصية، وقد بلغ فيها الفساد ذروته القصوى.

تُقدَّر عائدات العراق من النفط بحسب البيانات الرسميّة الحكومية منذ الاحتلال الأميركيّ في العام 2003 حتى الآن في حدود ألف مليار دولار أميركيّ. ومعلوم أنّ كلّ مليار دولار يساوي ألف مليون دولار. قرأتُ مرّة مقالاً لخبير أميركيّ في مجال إعمار المدن يشير فيه إلى أنّ عشرة مليارات دولار كافية لبناء مدينة حديثة الطراز بكلّ مشتملاتها وحاجاتها، من أبرة الخيّاط إلى ناطحة السحاب كما يقولون. وبحساب بسيط كان يمكن الحكومات العراقية الرشيدة (!) المتعاقبة أن تبني مئة مدينة حديثة من هذا الطراز، لنقلْ خمسين مدينة، لنقلْ ثلاثين مدينة، لنقلْ عشرين مدينة، لنقلْ عشر مدن؟

وحين لم تنتبه هذه الحكومات (التكنوقراط!) إلى مقال الخبير الأميركيّ هذا، فإنّ المدن العراقية القديمة كان ينبغي أن تحظى – في الأقلّ – بتطورات مذهلة، ولا سيّما أنها مدن ليست قليلة على مستوى المدن العربية المعروفة. فبغداد العاصمة، والموصل والبصرة وبابل وكركوك وبقية مدن العراق، هي مدنٌ لا بأس بها من حيث حداثة العمران، وربما لم تكن في حاجة إلّا إلى ما يقرب من خمسة أو عشرة في المئة من هذه الأموال الخرافية الهائلة لكي تتطوّر التطوّر المطلوب وتكون في عداد المدن المتحضّرة الكبرى في العالم. غير أنّ سياحةً سريعة في كلّ المدن العراقية من كركوك إلى البصرة، تكشف عن حقيقة مريعة يستحيل تصديقها، وسأنتخبُ هنا مدينتين مركزيتين هما بغداد العاصمة والموصل ثانية كبرى مدن العراق، بحكم أنني كنتُ أعيش في الموصل، وزرتُ بغداد بعد الاحتلال ما يقرب من عشر مرّات تقريباً كان آخرها قبل سنة فقط. وسأصف لكم بصدق وأمانة ما حصل من تقدّم وتطوّر عمرانيّ وثقافيّ منذ 2003 حتى الآن، والله على ما أقول شهيد.

مدينة الخلود

بغداد، “مدينة الخلود”، تراجعت على المستويات كافة عشرات السنين. بغداد ليست عاصمةً وليست مدينةً مطلقاً. لم يبلَّط فيها شارع، ولم يشيَّد فيها جسر، ولم يُبنَ فيها برج، ولم تُنشأ حديقة عامة، فضلاً على أنّ ما كان يعتدّ فيها معمارياً وحضارياً وثقافياً من قبل، غاب ولا أحد يعرف كيف. تحوّلت بغداد إلى شيء يشبه الريف المهمل: خراب، وشوارع قذرة، ومظاهر متخلّفة، لا شيء البتة يمكن أن يوحي للناظر أنّ هذه هي بغداد عاصمة الرشيد. مدينة أرملة، منكوبة، لم يبق على جسدها الرهيف سوى أسمال بالية، لا توجد فسحة ولو بقدر خُرم أبرة لفرح محتمل في أيّة زاوية من زواياها. الكآبة والعتمة والخوف والحزن هو كلّ ما يمكن أن يتاح لعين هذا الناظر المسكين كي ترى. ما هذا أيّها الربّ الرحيم؟

الأشجار التي كانت عامرة بثمارها وزهوها وطلعتها البهية المشرقة المكتظّة بالعافية، ليست سوى عجائز تبكي عقمها. أوراقها مشعثة مغبرّة، سيقانها عجفاء لا ماء فيها ولا حياة، تترصدّها المفخخات مثلما تترصّد الشيوخَ والأطفال والنساء والكتاب والمعنى والقيمة والكرامة والوعي والثقافة والحلم والذاكرة والحبّ والحديقة والسينما. بغدادُ شفرة الحضارة، وعنوان الأمل، وبهاء الماضي العريق، ذهب الزمان وضوعُهُ العطر، انحسرت في ثيابها المقطّعة والمنخورة والمشقّقة حتى أضحت بلا شمس ولا قمر ولا نور. تضاءلت صورتها في شاشة الكون ولم يتبقّ منها سوى أطلال لا تصلح للرثاء والنحيب والشكوى والحسرة. مدينة غافية على ظلال المجهول، لخّصها الساسةُ الأفذاذ واختصروها بما اصطلحوا عليه بـ”المنطقة الخضراء”، ولم يفسّر لنا أحدٌ منهم حتى الآن معنى هذه الخضرة، وهل هو مصطلح أميركيّ أيضاً أم من ابتكارات ساستنا وقد جمعوا الفكرَ والفلسفةَ والتقوى والأمانة وبراعة القيادة وعدالة الحُكم في سلّة واحدة؟!

أمّ الربيعين

أمّا مدينة الموصل، مدينتي، أم الربيعين، فلها شأنٌ لا أعجب منه ولا أغرب. مدينة مفككة، مشتّتة، مبعثرة، مقهورة، تتراجع سنوياً منذ عام الاحتلال الأميركيّ، بل شهرياً، وأخشى أن أقع في فخّ المبالغة إن قلتُ يومياً. إنّها مريضٌ بمرض عضال من دون طبيب أو دواء. لكم أن تتخيّلوا النتيجة حتى في أحسن أحوالها لدى أكثر المتفائلين في الكون. مدينة في حاجة إلى أكثر من معجزة لتستردّ جزءاً من عافيتها. ألوف المحلات المدمرّة التي كانت في يوماً ما تعجّ بالحياة والحركة والبشر حتى الصباح. الحُفَرُ تملأ الشوارع المحتشدة أصلاً بكلّ ما لا يسرّ الناظر. نهرُ دجلة الساحر الجميل وهو يفصل المدينة على جانبين، أيمن وأيسر، فقدَ سحره وجماله تماماً، ساقيةُ ماء كبيرة تنتشر عليها الجزْرات وقد استغلّ البعضُ يابسَها فجعلها “بارك” للسيارات، ماؤها مليءٌ بالأوساخ والقاذورات والنفايات برائحة كريهة تمنع عنك متعة القرب من النهر كي تشحن روحكَ بالتأمّل والرحابة والوداعة. نهرٌ صار طارداً ومكاناً معادياً كما يقول السرديون. الموصل مدينة مهملة، محاصرة، ليس فيها بناية واحدة جديدة منذ عشرة أعوام، ولا شارع، ولا حديقة، ولا ابتسامة. عليكَ أن تصلّي بورع أسطوريّ وتدعو الله والرسل والأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم كي لا تصاب أو أحد أفراد عائلتك بوعكة صحية، حتى لا تصطدم بالسوء العميم في المستشفيات الحكومية، أو على نحو أدقّ ما تبقّى منها. المولّدات الكهربائية الأهلية استعمرتْ فضاء المدينة وحوّلتْ أحياءها إلى بيئة ملوّثة، الله وحده يعلم ما تحمله من أمراض ستظهر على أهل المدينة بعد أعوام قليلة.

مدينةُ الفستق والمرمر صارت تستورد الفستق من مدينة عينتاب التركية، ونسيت المرمر إذ لم يعد له مكان في بلد تتهدّم الأشياء فيه. شارع الدوّاسة كان من أجمل شوارع المدينة تنتشر على طوله الممتدّ من شارع حلب إلى منطقة الدندان عشرات السينمات والمحلات التجارية المتنوعة والمطاعم الفاخرة، كانت متعتنا الكبيرة أيام كنّا طلبة في جامعة الموصل العريقة نهاية سبعينات القرن الماضي. وعلى الرغم من أننا كنّا نعيش حياةً جامعيةً مرفّهة نسبياً في الأقسام الداخلية للطلبة داخل الحرم الجامعيّ، غير أننا لم نكن نصبر على عدم زيارة الدوّاسة كلّ يوم مطلقاً، حتى ولو جلسنا ساعة في “مقهى أم كلثوم” ونحن نصغي بقدسية إلى أغانيها المفتوحة على عوالم شبابنا العاشق ونحتسي الشاي السيلاني الزنكين بلذّة فائقة، ونقفل راجعين قبل منتصف الليل إلى الجامعة. شارع الدوّاسة الحلم، تحوّل إلى ثكنة عسكرية لا تسير فيه سوى سيارات الشرطة المدجّجة بالأسلحة والشتائم والوجوه المخيفة المكفهرّة. وإذا ما اضطر أحد للمرور فيه فهو يحمد الله ألفَ مرة حين يجتازه من غير أن يفقد شيئاً من جسده أو وعيه أو إحساسه القديم بالجمال. لا سينمات، ولا بارات، ولا مكتبات، ولا متعة، ولا لقاءات رائعة للأصدقاء والأحباب. كلّ ما هو أصيل وجميل وخلّاب، تبخّر في شارع الدوّاسة وصار أثراً بعد عين.

لو!!!

لو وزّعنا موازنة العراق هذه على مدنه، بحسب كثافتها السكانيّة، لحصلت الموصل مثلاً على مئة مليار، لنقلْ خمسين ملياراً، لنقلْ ثلاثين ملياراً، لنقل عشر مليارات، ولكانت هذا العشر مليارات كافية على ذمّة الخبير الأميركيّ لتشييد موصل أخرى حديثة بكلّ ما تعنية الكلمة من معنى وقيمة ودلالة، ولبقيت أمّ الربيعين القديمة على حالها وكانت حالاً لا أجمل منها ولا أحلى، ولكُنّا ربحنا مدينتين في وقت واحد، ولكانت كلّ مدينة في العراق قد صارت مدينتين، ولأصبح العراق أيضاً عراقَين.

لعلّ السؤال الذي لا أبسط منه ولا أسهل هو: أين ذهبتْ هذه المليارات الخرافية ولا شيء منها على الأرض؟ أتذّكر أنني كنت ربّما في الصف الثالث الابتدائيّ وتورطتُ في سرقة درهم من والدي، والدرهم هو خمسون فلساً، والدينار العراقيّ (ياه كم كان عزيزاً في ذلك الوقت) يساوي ألف فلس، اشتريتُ ما يحلو لي ووزّعت قسماً من مشترياتي على أصدقائيّ وبقي نصف الدرهم احترتُ أين أضعه. كلّ عالمي الذي أتحرّك فيه، لم يسعفني لإخفاء نصف درهم، حتى أعيتني الحيلة فقصدتُ والدتي واعترفتُ لها مضطراً بسرقتي ورجوتها أن تنقذني من ورطتي.

لا تلبث وسائل الإعلام أن تتحدّث يومياً عن سرقات بالمليارات يقوم بها وزراء ومسؤولون كبار، ثم تؤلف الحكومةُ لجاناً تحقيقية، وتموت هذه اللجان في غياهب النسيان، ويتنعّم اللصوص المسؤولون بهذه الأموال في أرجاء العالم الفسيح بلا حسيب ولا رقيب ولا ذمّة ولا ضمير، لا بل ثمّة حمايةٌ غامضة لهم تحفظهم وترعاهم من كيد الكائدين وحسد الحاسدين. صارتْ سرقة أموال الشعب العراقيّ قنطرةً يستحيل على مسؤول حكوميّ أن لا يمرّ من فوقها على نحو أو آخر، وهذا ما يمكن أن يجيب عن سؤال السرقات الكبرى. إذ إنّ عشرات الآلاف من المسؤولين يتناهبون المليارات تحت ستار المثل الشعبيّ “اسكتْ عنّي وأسكتُ عنك” في تبادل قذر للمظلات المشبوهة. وصار العراق بحسب بيانات دولية متخصصة بهذا الشأن أنّه من أكثر بلدان العالم فساداً. الفساد ينخر في جسد المؤسسات العراقية الحكومية من أصغر مؤسسة إلى أكبرها، ومن أدناها إلى أعلاها، ومن شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. مالٌ تائهٌ لا حاميَ له ولا راع ولا مشفق، ومليونا نازح في بحر أشهر قليلة يتركون بيوتهم ويهربون يميناً وشمالاً في الجبال والسهول والوديان بحثاً عن وهم أمان. مشرّدون يفرشون الأرض ويلتحفون السماء، لا الأرض ترحم ولا السماء. أيّ شرف وطنيّ يمكن أنْ يُقنع أيّ مسؤول حكومي أو نيابيّ عراقيّ بأنّه يعمل للوطن؟ وهل تبقّى من هذا الوطن المنكوب شيء؟ لا والله لم يبق منه شيء سوى أخبار السرقات والنهب واللصوصية والفساد العظيم، وتبادل التهم بينهم، وعلى رأي المثل المصريّ الشهير “ماشافوهومش وهمّ بيسرأو شافوهم وهمّ بيتحاسبو”، فيعيش الأشراف عيشةً ضنكةً مرّةً، ويعيش اللصوص متنعمين بلحم العراق الميّت، يسكرون بدمه الملوّث بالخطايا، ويتبادلون المناصب الكبرى كما يتبادلون أحذيتهم، والراعي الأميركيّ يرعى كلّ شيء ببسالة دولية منقطعة النظير.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى