صفحات الرأي

“أكشاك الفتوى” في مصر.. السيسي تحت الأرض/ مالك أشرف

 

 

السخرية الممزوجة بالمرارة وتوطّن شعور عام بالبلادة وعدم الفهم، باتا الحالة السائدة، لدى قطاع غير قليل من المواطنين؛ ممن أصبحوا يستيقظون كل يوم على فاجعة مثيرة وأخبار فوق التوقّعات، يطلقها الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي لا يكفُّ عن صناعة مشهد عبثي بامتياز، وكافكاوي بدرجة مؤلمة، تنخرط تفاصيله في واقع يومي يعيشه المصريون بمزيد من الوجع.

“طبيب الفلاسفة”، كما وصف السيسي نفسه ذات مرّة، يدشن سلطوية جديدة وفاشية عسكرية، بغير شرعية حقيقية وبدون أي شعارات وأهداف سياسية وقيمية، تنقذ نظامه من أزمته الوجودية وواقعه المأزوم؛ فلم تعد الدولة والنظام قائمين على أساس اجتماعي وطبقي، يقدّم الدعم للمواطنين أو يوفر لهم أية ضمانات حقوقية واقتصادية، يضمن بها تأييدهم وصمتهم عن غياب الطابع الديمقراطي للحكم، وتداول السلطة، كما الحال في ستينات القرن الماضي، وما تلاه من حقب سياسية حملت هذا الميراث الذي كان يكفل لها بقاءها السياسي وتستمدّ منه شرعيتها.

لكن حتى الآن لم تسفر أعوام السيسي الأربعة التي قضاها سوى عن تبعية لنظم إقليمية ودولية، وتفريط سياسي صريح ومصادرة تامّة للحرّيات وتراجع غير مسبوق في الحالة الحقوقية وحريّة الصحافة والتعبير، فضلًا عن تنحية الدور الاجتماعي للدولة، التي تحوّلت إلى مجرّد أداة للتعبير عن مصالح طبقية طاغية وشديدة الانتهازية وفئوية؛ تعمد إلى سياسة الإفقار والتخريب ومنحازة لفئة من الأوليغارشية العسكرية المتحالفة عضويًا مع مجموعة من المستثمرين ورجال الأعمال.

فصل جديد يفتتحه السيسي لا يختلف عن سابقيه في عناصره الأساسية، التي تجتمع فيه اللا معقولية والعدمية السياسية، فيعمد إلى الابتزاز من ناحية، والمزايدة في كل شيء من ناحية أخرى، حيث بدأ العمل بفتح ما يعرف بـ”أكشاك خشبية للفتوى”، لا تزيد مساحته عن الأربعة أمتار، في محطّة مترو الشهداء، يجلس فيه اثنان من الدعاة الإسلاميين التابعين لمجمع البحوث الإسلامية في انتظار من يحتاج لفتوى.

في خطوة غير مسبوقة، تم افتتاح كشك للفتوى تحت الأرض، أوّل أمس، يجلس فيه شيوخ أزهريون للإجابة عن تساؤلات المواطنين، حول المسائل الدينية والحصول على فتوى منهم، مختومة بشعار الأزهر، وذلك بعد الحصول على بيانات الشخص الأساسية، مثل رقم هاتفه وبطاقة الهوية الخاصّة به للتواصل معه بسهولة، في الأمور الدينية التي يرغب في معرفتها والوثوق في أدلّتها الشرعية، بالرغم من وجود موقع رسمي لدار الإفتاء يوفر تلك الخدمة، إلى جانب مكاتب فتاوى، توفرها الدار في القاهرة ومحافظات مصرية أخرى.

ويضمّ الكشك أربعة دعاة أزهريين يتبادلون العمل، حيث يداوم اثنان منهم من التاسعة صباحًا للثانية بعد الظهر، ثم يأتي اثنان آخران من الثانية حتى الثامنة مساءً.

تلك الخطوة التي يزعم النظام أنه بصدد مواجهة التطرّف الديني من خلالها بهذه الطريقة الساذجة والمفرطة في سطحيتها، عبر تقديم صورة الإسلام الصحيح، بدون التأويلات المغلوطة، التي توظفها الجماعات الدينية المتشددة في تشويه صورة الدين، هي في الواقع امتداد جديد لبسط النظام سيطرته، على المجال الديني والقبض على مناطق نفوذ جديدة فيه، وتأميمه والسيطرة عليه. كما تعدّ نقلة مغايرة نحو مصادرة الخطاب الديني في كل مكان “فوق الأرض وتحته”، لحسابه وتوظيفه السياسي بما يخدم مصالحه ويدعم نفوذه، ضدّ خصومه السياسيين بنفس الطريقة التي مارسها الشيخ علي جمعة، المفتي السابق، عندما قال في إحدى خطب الجمعة التي نقلتها وسائل الإعلام: “قتلاهم في الجنة وقتلانا في النار”، يقصد المقتولين في مواجهات مع جهاز الشرطة والجيش من التيارات الدينية بأنهم في النار.

فإن مواجهة ما يزعم السيسي أنه مواجهة التشدّد بفكر ديني متسامح، يكون عبر مراجعة جادة للمناهج والأفكار وآراء شيوخه ومواقعهم من السياسة والسلطة والمقولات الدينية الرائجة وتصفيتها من كل توظيف سياسي، يتحرّى من خلالها طرف ما إلى شرعية سياسية، لها مرجعيتها الدينية، ونقلها من كونها أداة تطويع وتبرير في يد الحاكم بظلمه وطغيانه وعدوانه، فهي دائرة عنف ينبغي أن تنغلق تمامًا.

حصدت هذه الخطوة تعليقات ساخرة، من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت ترافق كل قرارات النظام المصري الحالي، وهي في غالبيتها معارضة وتستهجن هذا الأمر، الذي يبدو من وجهة نظرهم الساخرة، منتهى التجديد، الذي طالب به السيسي لتطوير الخطاب الديني عدّة مرّات دون نتيجة، ومطالبين من ناحية أخرى عمل أكشاك لممارسة العظات وطقوس الاعتراف للمسيحيين.

وإذا كان ثمّة شيء يحتاج لمناقشة داخل أكشاك الفتاوى في المترو، وحريٌّ بهؤلاء الشيوخ وضمائرهم أن ينتبهوا له ويصدروا –ربّما- فتواهم فيه، هو وقف رحلات العذاب التي يتعرّض لها المواطنون الذين يستخدمون هذه الوسيلة في نقلهم ومعاناتهم وتشرّدهم داخله؛ بداية من تضاعف ثمن التذكرة بالرغم من كون مستخدميه ينتمون للطبقات الكادحة وذوي الدخول المحدودة، وإجراء أعمال صيانة ضرورية لتطوير المترو وعرباته التي تعمل دون تكييف ومراوح هوائية، وتنظيف العربات ومراقبة السلع التي تُباع داخله، مثل الأدوية وأدوات التجميل والنظارات الطبية والملابس، وجميعها مخالفة لشروط الاستخدام القانوني والصحّي، بالإضافة إلى توفير مقاعد وممرات سهلة وآمنة لذوي الإعاقة داخل المترو وعلى أرصفته، ووضع أكشاك للإسعاف لحالات الطوارئ.

فإن ذلك التطوير الجاد في مرافق الدولة المهملة والتي يتكدّس داخلها المواطنون، وتكبت في صدورهم النقمة والغضب، بينما يضطر أحدهم للإلقاء بنفسه تحت عجلات المترو للتخلّص من عذاباته، هي وحدها الكفيلة بالقضاء على التشدّد الديني والإرهاب والطائفية، التي يخلقها الفساد والتفاوت الطبقي وترعاه الدولة ومؤسّساتها وتساهم في تضخّمه.

جدل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى