صفحات الثقافة

ألعوبة الكلمات


علي كنعان

حاولت الكتابة مرارا خلال الأسابيع الماضية، وفي كل مرة كنت أرى الكلمات تقطر دما.. فأغلق الحاسوب وأكتفي بتصفح كتابات الأصدقاء ورسائلهم فأراها منقوعة بالدم كذلك، ولا أمل بالخلاص قريبا من فظاعة هذا الكابوس الجهنمي.

أتامل الشاشات العربية، وكل منها حريص على انتهاج خط سياسي صارم لا يحيد عنه.. وكم أشعر بعتاب شديد يقارب اللوم لتلك الفضائيات، فليس فيها غير مشاهد الدم والجثث أيضا.. وأيضا، وكأن المشرفين عليها لا يشاهدون الفضائية السورية وأفراحها اليومية الزاهية.. ولا يتأملون المسيرات المليونية التي يهتف أصحابها ‘بالروح بالدم’ فداء لسيدهم القابع في قصره، مكتفيا بمشاهدة فضائية ‘الدنيا’، أي ‘جيهان’ بالفارسية! وهذه الترجمة ضرورية تمهيدا لافتتاح ألعوبة الكلمات.

ولأن الناس على دين ملوكها، الدين السياسي طبعا وليس أي نسخة أخرى، سواء كانت صناعة شبه وطنية أو مستوردة، فالواجب والمطلوب أن تجري الألاعيب تحت سقف الوطن، كما يقولون. ولا أدري أي نوع من السقوف يقصدون: من قش أو خشب؟ من إسمنت مسلح؟ من دم ورصاص؟.. أم لعله صفحة السماء التي تحتضن كل البشر، ومنهم أبناء سورية المنكوبة بسلطة القمع والفساد منذ عشرات السنين. وانطلاقا من أن اللعب بالكلمات ارتقى إلى أعلى المناصب، فليس أمام الكاتب إلا أن يواصل التفكر في مشاهد وفصول من هذه الألعوبة، وهذه لا علاقة لها بلعبة الكلمات المتقاطعة، وإن قاربتها.

وفي هذا السياق الطريف، يسوق الجاحظ في بخلائه حكاية عن شيخ من خراسان، نعم خراسان ذاتها، أوجزها بما يلي: كان الشيخ يتناول طعامه بجوار جدول ماء، فمر به عابر سبيل وألقى عليه السلام. رد الرجل السلام وأردف: ‘هلم عافاك الله!’. فلما رأى الخرساني أن العابر يهم باجتياز الجدول، صاح به: ‘مكانك، إن العجلة من عمل الشيطان!’ أجاب العابر: ‘ألم تدعني إلى الطعام؟’. قال البخيل: ‘قلنا لك: هلم.. فتقول: هنيئا، فيكون كلام بكلام.. فأما كلام بفعال، وقول بأكل، فهذا ليس من الإنصاف’!

ويبدو أن جنرال عملية الإصلاح في دمشق يقتدي بشيخ خراسان. وكلمة إصلاح مطاطة وملتبسة، وهي مشحونة بضروب من الخوف والتمويه والارتياب، والمطلوب أن نستعيض عنها بكلمة: تغيير. لكن عملية التغيير تتحول في بلادنا إلى خطة للترقيع، خمسية أو عشرية، لذلك لا بد من التأكيد على التغيير الشامل الذي ينبغي أن يؤدي إلى إنهاء هيمنة عصابات القمع والفساد.. والانطلاق في بناء الحريات الديمقراطية، ولا مجال لأي شيء آخر.

وهكذا.. طارت كلمة إصلاح ولا جدوى من تكرارها إلا إذا أزلنا زخارف القشرة عنها حتى تبدو على حقيقتها، أي ‘انسلاخ’! وهذا يعني أن يخرج المسؤولون من جلودهم الحزبية وسطوتهم القيصرية وينسلخوا عن ماضيهم جملة وتفصيلا، فهل بالإمكان الانسلاخ عن الأفكار والعادات والامتيازات، قلبا وقالبا، واقعا وتاريخا ومستقبلا؟ هذا ما يعيدنا إلى ضرورة التأمل في ألعوبة الكلمات. إن عملية الإصلاح، لو جرت فعلا، ستؤدي بأصحابها إلى الانسلاخ الأكيد، لذلك لن يتحقق منها أي شيء، ولن يسيروا خطوة واحدة في طريق التغيير، فليس في ذاكرة التاريخ من حكم على نفسه بالإعدام، والانتحار حالة فردية يائسة تظل خارج السياق.

إن السلطة الغاشمة لم تفهم من بيان اجتماع دمشق الاستشاري إلا أنه ألعوبة كلمات، لا أكثر! لذلك جيَّشت المسيرة المليونية طمعا في كسب مزيد من الوقت، وأملا بأن تنجح كتائب القنص والاغتيال بإنهاء عملياتها وتنجز مهامها الإجرامية باستكمال تصفية الموج الشعبي الهادر في الشوارع وإطفاء زخمه المتصاعد. لكن الأدهى أن الشعب الثائر في نظر الأساتذة المحللين ليس أكثر من ‘حثالة.. ورعاع’.

هناك فائدة إضافية لهذا النهج الدموي، وهي لجوء بعض المفجوعين بأعزائهم إلى انتقامات فردية أو عائلية أو حتى عشائرية.. وبذلك يرى العالم نماذج من ‘المندسين والمتآمرين’ جهارا وبالعين المجردة. إن سلطة الاستبداد، بدءا من تونس ومصر.. وليس انتهاء باليمن وليبيا وسورية، لم تفهم.. ولن تفهم بالكلام المنطقي المعروف بين البشر، ولا يعنيها من عبارة ‘الحوار الوطني’ إلا اغتنام الفرصة لمزيد من الألاعيب اللفظية وكسب الوقت.. وسوف تستمر في هذه اللعبة عسى أن يداهمنا زمهرير الشتاء باكرا ويضع حدا لمظاهرات الاحتجاج.

ومن يعرف العقلية البعثية، وإن صار البعث مجرد قناع مسرحي، يدرك أصول اللعبة ودهاليزها ومآلها. إن المسؤولين يعيشون على التقارير الحزبية والأمنية منذ عشرات السنين، وهم معزولون في مكاتبهم المغلقة، وكثير منهم يقوم بإعداد القهوة بنفسه مخافة أن يكون الحاجب مندسا.. أو أن يكون أحد المندسين قد اشتراه أو لعب بعقله وتسلل إلى جيوبه.

أذكر أني قمت في أوائل الثمانينات، وقبيل أحداث حماة، بزيارة وزير الإعلام. رن الهاتف فرفع السماعة وأجاب: ‘أهلا، أبو جمال’! أدركت أنه يتحدث مع السيد عبد الحليم خدام، وزير الخارجية يومئذ، لكني استغربت كيف تابع الحديث أمامي بصوت مرتفع، وكان يردد كلمات زميله البعثي العتيق وكأنه يريد عامدا أن أسمع القصة، قال: كنت واثقا أنهم سيخرجون من عندك مسرورين، أبو جمال له رصيد كبير بين أشقائنا في لبنان، نعم يريدون أن يعرفوا رأينا بخلافاتهم، ماذا قلت لهم؟.. نعم مشكلتهم سياسية بالتأكيد وليست أمنية، هذا هو الجواب الشافي: نعم، نعم، روحوا حلوا خلافاتكم السياسية أولا واتفقوا جميعا.. لكي تريحونا ونخرج بقواتنا المجمدة… ثم قال ضاحكا: نعم، ليتفقوا أولا.. ولو بعد مئة سنة!

هاتان النقطتان لا يمكن أن أنساهما: الأولى أن المشكلة سياسية وليست أمنية، والنقطة الثانية أنهم لن يتفقوا قبل مئة سنة، وهذا يعني أن وصاية الباب العالي لن تزول قبل مئة سنة!

.. هذه مسطرة من العقلية البعثية، إنها ترى أن مشكلة الآخرين سياسية، أما مشكلتها مع شعب سورية فهي أمنية ولا علاقة لها بالسياسة، وإلا ما معنى أن يستمر سفك الدم في الشوارع وتستمر الاعتقالات، رغم الادعاء بإلغاء قانون الطوارئ؟ هل يمكن أن نفهم ذلك إلا في ضوء الاستمرار بألعوبة الكلمات؟

إن ما يصدر على الورق أو تذيعه الفضائيات المدجنة هو مجرد كلام بكلام. أما كلام بفعال، فهذا ما أنزل الله به من سلطان! ولعل المشهد الأخير في هذه الألاعيب أن نتأمل المعارك الكلامية الدائرة عبر الفضائيات، على اختلاف ميولها وأغراضها. والسؤال الذي يخطر في البال: هل يستطيع المال السعودي إنهاء الصراع في اليمن، دون أن يلتف على ثورة الشباب ويسعى إلى إحباطها؟ وبالمقابل، هل تستطيع الحنكة التركيية أن تسهم في وضع حد لسفك الدم السوري، بعيدا عن تدخل حلف الأطلسي؟ وهو تدخل مرفوض بكل الذرائع والمعايير. إن غدا لناظره غير قريب.. ولكن واشنطن تمسك بجميع الخيوط الرسمية، وهي ضد كل ثورة شعبية/ ديمقراطية. وربما ترى في كل ما يجري جزءا من الفوضى الخلاقة! وفي الختام لا نملك إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفا على ثورة مصر، نعم ثورة مصر- قدوتنا الرائدة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى