صفحات سورية

ألف يوم في الشتات السوري/ رياض نعسان أغا

لا أحد يدري متى ينتهي الشتات السوري، وكم ألف ليلة وليلة أخرى من ليالي الفواجع ستمر قبل أن تنتهي المأساة السورية الكبرى، ولئن كان العرب شغلوا في القرن العشرين بالقضية الفلسطينية، فإنهم يواجهون في هذا القرن تداعيات القضية السورية التي ستغير خريطة الصراعات في المنطقة وربما في العالم كله.

وقد بدأت تداعيات هذه التغيرات تظهر بانكفاء واضح لحضور الولايات المتحدة وأوربا وظهور لامع لدور روسيا التي وجدت في هذه القضية فرصتها للنهوض من الكبوة المريرة التي واجهتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

كما أن إيران وجدت في القضية السورية فرصة استعراض القوة، وتأكيد الحضور كقوة إقليمية، فأما إسرائيل، وهي التي تلعب دور الغائب الحاضر فهي التي تمكنت من أن تحول كل انتصارات الشعوب العربية إلى انتصار لها وهزيمة ماحقة للعرب جميعاً مستفيدة من شتاتهم الفكري والطائفي ومستغلة أذرعها القوية الخفية داخل الأنظمة العربية، التي واجهت الغضب الشعبي بعنف مريع.

أما الخاسر الأكبر في هذا الصراع، فهو الشعب السوري الذي وجد نفسه في العراء وخسر دولته واستقراره، وكل ما بنى وأنجز على مدى مائة عام منذ أن أعلن ثورته السورية التي سمها الكبرى معلناً استقلاله عن الدولة العثمانية، ومبتدئاً بناء دولة عربية افتقدها نحو أكثر من ألف عام.

وأنا لا أتحدث هنا عن مشروعية الثورة السورية الراهنة أو عدمها، وإنما أستعرض توصيف النتائج، مدركاً أن لكل الثورات التي تفجرها الشعوب أثماناً باهظة، لكن ما يحدث في مجريات الثورة السورية يذكرنا بالطرفة الشهيرة التي تقول (نجحت العملية لكن المريض مات)، والخطر اليوم أن يتحول الصراع في سوريا إلى سلسلة حروب طائفية وإقليمية لانهاية لها، وأن يغيب فيها طرفا الصراع الرئيسيان (النظام والثورة)، وقد بدأ غيابهما على صعيد عملي، فلم يعد الثوار أصحاب حضور أو قرار في الشارع السوري الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وغاب عنه الشباب الثائرون الذين حملوا رايات مسالمة تطالب بالحرية والكرامة، وحل محلهم غرباء يدعون الإسلام ويحملون رايات وملامح متطرفة تنطبق عليها مواصفات المجموعات الإرهابية التي يتفق العالم على محاربتها.

كما أن النظام، وهو الطرف الثاني في الصراع غاب كذلك عن سلطة القرار، وحلت محله قوى الدبلوماسية والأسلحة الروسية والجيوش الإيرانية و«حزب الله» والمجموعات الإرهابية القادمة من العراق بذريعة الدفاع عن المقدسات الشيعية والباحثة عن الثأر التاريخي، ولم يعد الجيش السوري النظامي يمتلك السيطرة الكاملة حتى على مناطق نفوذه، كما أن الجيش الحر المنشق عن النظام لم يجد من يدعمه مالياً وعسكرياً بعد أن حاصره الغرب وطالبه بأن يصوب بندقيته نحو الكتائب الإسلامية.

ولم تكن الانشقاقات الكردية خارج السياق، فقد وقع فريق من الأكراد في الفخاخ المنصوبة لاصطياد الثورة، وتم إغراء بعضهم لتفتيت الوحدة الوطنية، وهكذا وجد الثوار أنفسهم في غمرة صراعات لا شأن لهم بها، ولم يخرجوا من أجلها، وسرقت منهم بوصلة الثورة، وبدأ كثير منهم يتهجم على المعارضة السياسية المقيمة في الخارج ويكن لها عداء أكبر من عدائه للنظام، ويحملها وزر الانحرافات التي تهدد مصير الثورة، وتشتت شمل المعارضة وتشتت مواقف الداعمين لها، ووجد السوريون أنفسهم ضائعين في التيه والشتات، وأصيبوا بخيبة أمل مفجعة حين اكتشفوا أن المجتمع الدولي معني بأمن إسرائيل فقط، وهدفه تدمير الأسلحة الكيماوية السورية (خوفاً من أن تصل ذات يوم إلى يد أعداء إسرائيل الحقيقيين)، وتمت معاقبة السلاح، ولم يعاقب من استخدمه وارتكب الجرائم الكبرى.

وبدأ السوريون يعتقدون أن المجتمع الدولي الصامت حتى اليوم يريد أن يرى سوريا أرضاً خراباً، ولا يجد السوريون تفسيراً لهذه الإرادة الدولية غير تقديم سوريا قرباناً على المذبح الإسرائيلي، فليس من صالح أحد غير إسرائيل أن يرى سوريا دولة فاشلة غير قادرة على النهوض لعقود قادمة، ولئن كان صدام حسين قاد العراق إلى هذا المصير حين أقدم على احتلال الكويت فقدم الذريعة للغزاة، فإن النظام السوري كفاهم مؤونة الغزو ودمر سوريا وشرد شعبها، وهدم كل البنى التحتية فيها، ويبدو من المفارقات التاريخية أن تكون سوريا قد خاضت خمس حروب كبيرة ضد إسرائيل دون أن تخسر فيها جميعاً جزءاً يسيراً مما خسرته من خلال الحل الأمني الذي ارتآه النظام لمواجهة المظاهرات التي بدأت مطالبة بالإصلاح.

لقد فقد الشعب السوري حتى شتائه الدموي الثالث نحو مليون ضحية، بين مقتول وفقيد ومعتقل ومجهول تحت الأنقاض، كما أن المنظمات الدولية تقدر عدد النازحين في الداخل ممن فقدوا مساكنهم بنحو خمسة ملايين، وتقدر عدد اللاجئين والمشردين في بلاد اللجوء والهجرة بخمسة ملايين أخرى، وهكذا يكون نصف الشعب السوري قد تعرض لمآس كبرى، والنصف الباقي يعيش ظروفاً لاإنسانية لم ينج منها إلا عدد قليل ممن احتموا بالنظام واحتمى بهم ولكنه حملهم وزر الدم السوري.

ويبدو أن دول العالم الكبرى قررت أن تترك السوريين يواجهون مصيرهم، وبدا أن المتعاطفين من المجتمع الدولي يهتمون بالأقليات فقط، فأما الأغلبية السُنية المستضعفة، فلا نصير لها حتى من أهلها، وبدأت بعض المجتمعات في الغرب تتعاطف مع النظام خوفاً من أن يصل إلى السلطة الإسلاميون المتطرفون الذين عجزت استخبارات دول العالم كلها عن فهم قدرتهم على التسلح في الخفاء، كأن أسلحتهم وأموالهم وعتادهم تنزل عليهم من السماء فلا أحد يعرف مصدرها وينابيعها المتدفقة، بينما تستطيع هذه الاستخبارات أن تضبط أية مكالمة هاتفية بين زوجين، ولا يجد كثير من السوريين تفسيراً لذلك سوى أن قادة المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه الصهيونية وجدوا الفرصة التاريخية لتحويل بوصلة الصراع في المنطقة من كونه (الصراع العربي الإسرائيلي) إلى (الصراع السُني الشيعي) أو (الصراع العربي الفارسي) وإزاء ما يحدث من جرائم مريعة ومستفزة بات كثير من أهل السُنة يرون عدوهم قادماً من الشرق، وبات كثير من غلاة الشيعة يرون في أهل السُنة قتلة الحسين (كما يعتقدون ) خطراً أشد عليهم من خطر إسرائيل.

وقد بات مثيراً للاستغراب أن يصير الاهتمام بعقد مؤتمر جنيف ثانوياً وأن يتحول الحديث عنه إلى ساحة خطابات وتحليلات وتصريحات بينما الشعب السوري يموت.

والعجب أن يجد السوريون كل هذا العداء من الروس، فلم يكن الشعب السوري عدواً لروسيا ولم يطرح أي شعار يعاديها، بل هو حريص على الصداقة معها ومع كل دول العالم. وكذلك لم يكن الشعب السوري يكن أي عداء لإيران بل كان يجد فيها قوة داعمة لقضيته الفلسطينية، وكان السوريون يعلقون صور حسن نصر الله في بيوتهم، وكانوا يرونه يقاوم ويمانع إسرائيل، ولم يخطر لهم أنه سيقاوم ثورتهم من أجل حقهم في الحرية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى