صفحات سورية

أليس فينا رجل رشيد/ أحمد طعمة

 

 

أصدر مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا مايكل راتني -قبل أيام قليلة- بياناً هاماً حول موقف بلاده من التطورات الأخيرة في إدلب. هذا البيان فيه الكثير من الأفكار الهامة وذات الدلالات الخطيرة، والتي يمكن من خلالها توقع ما سيحصل خلال الأشهر القليلة القادمة.

ومن ذلك كيف ستتعامل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا -وبقية المجتمع الدولي- مع التطورات التي شهدتها إدلب في الآونة الأخيرة، وانتهت بسحق حركة أحرار الشام وسيطرة مطلقة لهيئة تحرير الشام، وما سيتبع ذلك من تبعات محلية وإقليمية ودولية قد لا تُحمد عقباها إذا لم يتم تدارك الوضع قبل فوات الأوان. ولنا فيما حصل في حلب والخروج البائس والمذل لكل القوى العسكرية الثورية منها عبرة وأي عبرة.

يعتقد كثيرون أن المناقشات التي جرت أثناء مباحثات “أستانا 5” -في 4 و5 يوليو/تموز الماضي- حول تخفيض التصعيد في محافظة إدلب وما حولها، كانت أحد أهم الأسباب الحقيقية التي دفعت هيئة تحرير الشامإلى اتخاذ قرارها بإنهاء حركة أحرار الشام في إدلب، وربما يفسر هذا الوضوح التام والصرامة في موقف مايكل راتني في بيانه.

لقد كان التساؤل الرئيسي في المناقشات من قبل الولايات المتحدة وممثلي الدول الضامنة لأطراف أستانا هو قولهم: ماذا عن جبهة النصرة؟ وكانت الإجابات بأنه لا بد من حل هذا الملف الشائك، وبأيدٍ سورية.

هذه الإجابة بالذات ربما تفسر ما أقدمت عليه هيئة تحرير الشام لخوفها من أن يتم دعم أحرار الشام عسكريا لإنهاء وجود الهيئة في إدلب، وسط إدراكها أن الظروف غير ملائمة للروس لاتخاذ قرار عاجل (خلال الأشهر القليلة القادمة) بإخراج جبهة النصرة من إدلب عسكرياً، لأن ذلك سيصب في صالح إيران وهذا ما لا تريده روسيا.

هذا فضلاً عن رغبة الروس في عدم سحق المعارضة السورية المعتدلة وجزء كبير منها في إدلب وما حولها، وفضلاً عن طموحهم لمشاركتها في المجلس العسكري الأعلى المشترك بين النظام والمعارضة، ومن ثم الوصول إلى الحل النهائي في سوريا، مما يكفل شرعية الوجود الروسي في سوريا لسنوات طوال وبموافقة طرفيْ القتال نظاماً ومعارضة.

وكذلك إدراك الهيئة أن الأتراك شديدو الحرص على تخفيض التصعيد في إدلب وتحوّلها إلى منطقة فيها حد أدنى من المخاطر توافقاً مع الروس، ولا يريدون تصعيداً جديداً قد تكون نتائجه أكثر كارثية مما جرى في حلب ويخلف ما لا يقل عن مليونيْ لاجئ جديد في بلادهم، ويفقدها كل حلفائها الحاليين والمحتملين من الجيش الحر.

ولكن الولايات المتحدة لها رأي آخر قد تظهر تفاصيله خلال أشهر قليلة، فيما بدت معالمه الأولى في بيان مايكل راتني الذي كان أول مسؤول دولي أدلى دلوه بوضوح في ما جرى بإدلب، ومن المفيد التدقيق في دلالات كل كلمة قالها؛ فكل منها يعني في السياسة شيئاً.

لقد اعتبر راتني أن هيئة تحرير الشام وعصابة أبو محمد الجولاني (على حد تعبيره) قامت بأحدث عدوان لها على الشعب السوري والفصائل، وأن ما شهده الشمال السوري كان إحدى أكبر مآسيه، وأن سيطرة تنظيم القاعدة (يقصد هيئة تحرير الشام) على الشمال يضع مستقبله في خطر (يقصد تخفيض التصعيد في إدلب وما حولها)، وهذا خطاب سيصل صداه أصقاع العالم ورسالة لا لبس فيها.

ورأى أن ما جرى من وضع الشمال في خطر كبير جاء خدمة لأهداف القاعدة الشخصية والحزبية الضيقة، وأنه يتعين على الجميع أن يعرف أن الجولاني ومن حوله يتحملون مسؤولية العواقب الوخيمة التي ستلحق بإدلب (يعني تدمير إدلب).

كما اعتبر راتني أن حركة أحرار الشام -وإن لم يسمها- من الفصائل المعتدى عليها مع الشعب السوري سواءً بسواء، وهذا تصنيف معتدل للأحرار من قبل الأميركان لم يتبنوْه من قبل. ونظر إلى أن التصريحات المتشددة التي صدرت عن بعض شرعيي الجولاني -حول قتل الأطراف الأخرى واستباحة الدماء والممتلكات- دليل على أن فكر القاعدة ما زال مترسخاً في عقلية التنظيم، وأن تغيير الاسم لا يغير شيئاً.

وأكد أن الولايات المتحدة مستمرة -وبقرار أحادي- في استهداف جبهة النصرة وقياداتها المبايعة للقاعدة، أيا كان الفصيل الذي يعملون تحته. والأخطر في ما قاله أن هيئة تحرير الشام كيان اندماجي، وكل من ينضم تحتها يصنف باعتباره قاعدة.

ولكن التأكيد على هذا الموقف المتشدد قد يتعارض مع استهداف بعض القيادات دون غيرها في جبهة النصرة، وعدم استهداف قيادات سورية بارزة في النصرة انضمت إليها بعد تشكلها في سوريا، ولم تثبت مبايعتها للقاعدة.

قطع راتني الطريق على أية إمكانية للتعامل مع أية إدارة مدنية يمكن أن تنشأ في إدلب لرعاية الأمور المدنية فيها، ويمكن الاستعانة من خلالها بشخصيات إدارية قادرة على تخفيف معاناة الناس وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، بما في ذلك عودة بعض كوادر أحرار الشام الإدارية إلى المعبر أو المجلس المحلي. واعتبر أن ذلك مراوغة مكشوفة وعقيمة هدفها الالتفاف على التصنيف، وأن ذلك خديعة للشعب السوري ومجرد واجهة جديدة للنصرة.

وأشار ضمناً إلى حركة نور الدين زنكي دون أن يسميها، محذراً إياها من الاقتراب من عصابة الجولاني (على حد قوله) مرة أخرى، وهي التي انضمت إلى هيئة تحرير الشام لأسباب تكتيكية وليس لتوافق فكري أو أيديولوجي، ثم خرجت منها الشهر الماضي، وربما سعت للعودة إليها بعد سقوط الأحرار.

أخطر وأهم جملة في البيان هي الجملة الأخيرة، القائلة إنه في حال هيمنة جبهة النصرة على إدلب سيصبح من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية المطلوبة.

ونقرأ في هذا ضمناً عدم اعتراض الأميركيين -وربما تشجيعهم- على استئناف الروس قصف إدلب، وسحق المعارضة خلال الأشهر القادمة (ربما خلال ستة أشهر). وهذا ما سيسبب حرجاً شديداً للأتراك الذين لا يرغبون في أي تصعيد في إدلب من شأنه لجوء مليونيْ شخص إلى الأراضي التركية من جديد.

نعتقد أن خطورة الوضع -كما صوره بيان مايكل راتني- يقتضي التحسب مما يمكن أن يجري، وأن نسعى لإيجاد حلول مناسبة للمشكلة قبل فوات الأوان.

فلا بد من مطالبة عاجلة لكل الشخصيات الإسلامية والاجتماعية الفاعلة في إدلب بأن تتواصل مع هيئة تحرير الشام، وتضغط عليها لإصدار بيانات تلغي مفعول البيانات المتشددة التي أصدرها شرعيو جبهة النصرة خلال المواجهات مع الأحرار، والتي أعطت انطباعاً بأن النصرة لا تزال مرتبطة بالقاعدة رغم تغيير الاسم.

كما ينبغي أن تبادر هيئة تحرير الشام بقطع الصلات نهائياً مع اية ارتباطات سابقة بتنظيم القاعدة، وفك البيعة التي في رقبة بعض أعضائها، وإيجاد تخريج شرعي لحديث النبي (صلى الله عليه وسلم): “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، والاقتناع بأن الظروف السياسية الحالية تقتضي حقاً فك البيعة.

وأن تبدو الهيئة باعتبار أنها “جيش حر”، وتظهر للعالم أجمع موافقتها على الحل السياسي في سوريا. وإذا قررت الهيئة فتح خطوط للتشاور، وتبادل وجهات النظر مع شخصيات سياسية سورية عريقة للبحث عن مخرج؛ فهذا خير على خير.

ومن المقترحات الضرورية مبادرة هيئة تحرير الشام إلى تسهيل تشكيل الإدارة المدنية في إدلب، وعدم التدخل إطلاقاً في شؤونها، والسماح بانتخابات حرة ونزيهة لتشكيل المجلس المحلي، الذي سيناط به تصريف جميع شؤون إدارة المدن والبلدات.

كما نرى -من أجل تهدئة الأجواء دولياً وعربياً- قيام هيئة تحرير الشام بالانسحاب الكامل من المدن والبلدات، والتمركز خارجها وإعلانها مناطق خالية من السلاح، ودعم ذلك بحملات إعلانية تظهر ذلك بوضوح، لإنقاذها وعدم إعطاء حجة للمجتمع الدولي لاستخدام الإجراءات العسكرية.

وهذا يقتضي أيضاً السماح بعودة بعض مكونات الجيش الحر إلى إدلب، والتفاهم مع ما تبقى من أحرار الشام على العودة إلى أماكنهم السابقة خارج المدن، وإصباغ صفة الاعتدال على الهيئة.

لا يعني أبداً أن تأخذ ما يقوله المجتمع الدولي بجدية أنك تنازلت عن مبادئك وثوابت الثورة السورية، ولا بد من الاستفادة من مهلة الأشهر الستة القادمة قبل أن نركب الباصات الخضر مجددا. لقد دقّ راتني ناقوس الخطر وعلى الجميع أن يعي ما قاله فهم لا يمزحون، وفي ظل سياسة دونالد ترمب الجديدة ليس هناك بأس في إبادة البشر والحجر، وإن في الموصل عِظة فاعتبروا يا أولي الأبصار.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى