صفحات الحوار

أماني أبو رحمة:لا بدّ من فوكو حتى بعصر الجينوم

 

 

عمار أحمد الشقيري

من بين أبحاث التكنولوجيا الحيويّة، والجينوم وتعديلاته، وإنتاج الهيدروجين من البكتيريا للطاقة، حيث تعمل، ثمّة جانب آخر للمعرفة عند الباحثة والمترجمة الفلسطينيّة المقيمة في غزّة أماني أبو رحمة (1968)، سيتمثّل في الفلسفة والفكر والنقد.

منذ ترجمة “جماليات ما وراء القصّ: دراسات في رواية ما بعد الحداثة”، لمجموعة مؤلفين في 2010، وليس انتهاءً بمشاركتها في تأليف موسوعة: “الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزيّة الحداثة إلى التشفير المزدوج”، 2013، وما بينهما عشرات الأبحاث والترجمات، ستصل أبو رحمة بعمل جديد لتطل به على القارئ العربيّ عن مفهوم “السياسات الحياتيّة” عند فوكو.

هنا حوار معها:

* لماذا من بين كل ما طرحه فوكو قررت أبو رحمة تناول السياسات الحياتيّة؟

حين حدثت انعطافة السياسات الحياتيّة في مطلع الألفية الثالثة، ويقصد بها التضخم الهائل في الدراسات والأبحاث والمؤتمرات التي تتناول العلاقة بين (الحياة) و(السياسة)، بُعثَ فوكو حيّاً من جديد، واشتعلت النار في أقل مصطلحاته استهلاكا؛ السلطة الحياتيّة، والسياسات الحياتيّة.

لا يمكن لأحد أن يكتب أو يُنظّر أو يبحث أو يبتكر أو يحلل تداخل السياسة بالحياة دون أن يعود إلى الفصل الأخير من المجلد الأول من كتاب الجنسانيّة (إرادة العرفان) الذي كتبه فوكو بالفرنسية عام 1976.

كانت الشرارة الأولى في العام 1998 عندما ظهرت الترجمة الإنكليزيّة لكتاب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، الذي يحلّل عبارة فوكو التي غدت بؤرة اهتمام الدراسات السياسية الحياتيّة المعاصرة “حق الموت والسلطة على الحياة”، في أول إصدار من سلسلته الإنسان المستباح، والتي تحمل عنوان (الإنسان المستباح: السلطة السياديّة والحياة العارية). وبعد تعليقات أغامبين المثيرة للجدل على عمل فوكو، تبعها في العام 2000 تعديل استفزازي لنظرية فوكو قام به كل من أنطونيو نيغري ومايكل هارت في الجزء الأول من ثلاثيتهما (الإمبرطورية). بعدها حدث الانفجار وهاجر مصطلح السياسات الحياتية من الفلسفة إلى شواطئ ليست أبعد كثيرا: الأنثروبولوجيا، والجغرافيا، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسيّة، واللاهوت، والدراسات القانونيّة، والبيوطيقا، والميديا الرقميّة، والتاريخ، وليس أخيراً، العمارة، وكل مُنظرٍ يدّعي وصلاً بفوكو، فلا بدَّ إذاً أن نبدأ بفوكو وننتهي به حتى في عصر الجينوم.

لم تكن علوم الجينوم حاضرة حين قدّم فوكو مفهوم السياسات الحياتيّة في الربع الأول من القرن العشرين، ولكن فكرته أن مركب السلطة/ المعرفة سيركّز بشكل متصاعد على مادة الحياة ذاتها كانت دقيقة جداً. صمّم فوكو السلطة الحياتيّة من حيث إنها “ما يجلب الحياة وآلياتها إلى عالم الحسابات الصريحة، ويجعل المعرفة/ السلطة عاملاً فاعلاً في تحويل حياة البشر”. تلفت هذه الصياغة العبقرية أنظارنا إلى الممارسات العادية والمألوفة ذات العلاقة بالجسد، كما تفتح بوابات تحليل المعرفة حول الجسد ـــ خصوصا العلوم البيولوجيّة التي تركّز على المسائل الجوهرية للحياة ـــ على مصراعيها أمام رسم السياسات وتدخل الاستراتيجيات.

السلطة لا تنشأ ببساطة من خلال المؤسسات الاجتماعيّة والسياسيّة، يقول فوكو، كما أنها لا تعمل عن طريق الإكراه فقط. إنها تعمل من خلال الجسد وتحيط به، الجسد الذي يكون في الوقت نفسه متورطا في المجال السياسيّ بشكل مباشر حيث لعلاقات السلطة قبضة مباشرة عليه، بمعنى أنها “تستثمر فيه أو تستثمره وتُعلم عليه وتدربه وتعذبه وتجبره على تنفيذ المهام وأداء المراسم وإطلاق العلامات”.

حوّل فوكو السلطة إلى جسد. ولأنه لا يرى السلطة سياديّة أو وحدويّة أو مركزيّة، أصبح من السهل إدراك أنها تمارس ببراعة من قبل وكلاء واضحين. لقد أصبحت السلطة راسخة في كل مكان من الجسد الصحي والاجتماعي الذي شكل ـــ منذ القرن الثامن عشر ـــ جسدنا الاجتماعي أو ثقافتنا المرتكزة على الجسد، وما زال. ومن هنا جاء توظيف فوكو للسلطة الحياتية (مصاحبا للسياسات الحياتية) للإشارة إلى عمليات إنتاج المعرفة التي من خلالها تقوم الممارسات المؤسسية بتحديد وقياس وتصنيف وبناء وتشكيل كل تجربة ومعنى وفكر، جسديا.

ولهذا كان فوكو حاضرا في عصر ما قبل السياسات الحياتية، ثم عصر السياسات الحياتية، حتى “عتبة الحداثة”، وما بعدها، وصولا إلى عصر الجينوم والابيجينوم أو ما فوق الجينوم، بفضل مركب (المعرفة/ السلطة) الشهير. وسواء كنا ننظر أو لا ننظر إلى الرجل في ضوء ما تقدم، فالمؤكد أنه لا عودة عن الرؤى التي طرحها بخصوص إعادة التفكير في الماضي من الحاضر وفي الحاضر من الماضي على السواء. وهو ما يحاول هذا الكتاب أن يقدمه.

* يدعيّ باحث علم الاجتماع في جامعة بروكسل الحرة، دنيال زامورا، أنّ التأويلات التقليديّة لأعمال فوكو تتجنب جزءاً من الإشكال؛ حيث أصبح فوكو ضرباً من قامة لا تُمسّ داخل جزءٍ من اليسار الراديكاليّ، والانتقادات المقدّمة له جبانةٌ على أقلّ تقدير. ما رأيك؟

بالطبع يمكننا انتقاد فوكو. إن انتقادات فوكو بالذات أكثر من أن تجمع أو حتى تُلخّص، والحقيقة أنني أيضاً دُهشت من عنوان زامورا ـــ هل يُمكننا نقد فوكو؟ ـــ فكل من كتب في السياسات الحياتيّة بعد فوكو وجّه له نقداً بطريقة أو بأُخرى ليس أقله أنه لم يأت بجديد (وهو رأي دريدا، الذي يقول إن فوكو أخطأ فهم أرسطو ولم يقرأ هايدغر جيداً قبل أن يكتب في السياسات الحيوية ويدعي جدّة عمله بل ويقيّمه على أسس خاطئة)، أو أن عمله كان ناقصاً وبحاجة إلى المزيد من العمل والجهد. هذا الانتقاد الأخير يكاد يكون مشتركا بين كثير ممن نظّروا في السياسات الحياتية بعد فوكو والذين استعرض كتابي أعمالهم. ولكني أيضاً على سبيل المثال لا الحصر سأذكر لك بعض الانتقادات الأخرى التي وجهت للرجل. خذ مثلاً: أجمع خوسيه ميركيور ومايكل والزر وتشارلز تايلور ويورغن هابرماس على أن فوكو يعترف ببعض الجوانب الإيجابية للعقل التنويري، إلا أنه يفشل في فعل ذلك حيال المؤسسات والتقنيات الحداثية. يأخذ نقده للحداثة جانباً واحداً في تركيزه على الأشكال القمعيّة للعقلانيّة ويفشل في تحديد أي جوانب تقدمية للحداثة. ولعل وصف هابرماس لفوكو بأنه “شاب محافظ مناهض للحداثة”، إشكالي وذو بعد واحد أيضاً كما ترى نانسي فريزر، إلّا أن هابرماس أيضا لاحظ بشكل صحيح جداً أن فوكو يصف جميع جوانب الحداثة بوصفها تأديباً وانضباطاً ويتجاهل الجوانب التقدميّة من الأشكال الاجتماعيّة والسياسيّة الحداثيّة من حيث التقدم في الحريّة، والقانون، والمساواة.

لكن، وبشكل عام، تميل كتابات فوكو إلى أن تكون أحادية الجانب تنظيراً وتطبيقا. ودعني أوضح لك هذه النقطة بالذات: في عمله الأركيولوجي ميّز فوكو الخطابات عن المؤسسات والممارسات، ثم في عمله الجينيالوجي أكد فوكو على الهيمنة مقابل المقاومة وتكوين الذات، ثم في أعماله الأخيرة حلّل فوكو التكوين الذاتي للذات بعيداً عن اعتبارات السلطة الاجتماعيّة والهيمنة. كما أنَّ تحولّه من تكنولوجيات الهيمنة إلى تكنولوجيات الذات كانت مفاجئة وبلا تمهيد أو مقدمات، لم ينظّر فوكو مطلقاً بصورة كافية للإشكاليّة المزدوجة البناء المؤسساتي/ الإنسان الفاعل.

لاحظت فريزر أيضا بالإضافة إلى هابرماس ووالزر أن فوكو نادرا ما يعبر عن تفضيلاته الأخلاقية والسياسية. وفي الحقيقة فإنَّ النقد الموجه لأعماله يتركز في معظمه حول فشله في تحديد/ والدفاع عن الافتراضات المعياريّة المتضمنة في تحليلاته، وبالتالي فإنه لا يوفر الأساس النظري لانتقاداته القوية للهيمنة. وعلاوة على ذلك، فقد أشار أليساندرو فونتانا وماورو بيرتاني إلى أن تركيز فوكو على نموذج الهيمنة والحرب ليس كافيا لـ”شرح تعدد الصراعات الحقيقية التي أثارتها سلطة الانضباط أو آثار الحكومة على أنماط السلوك المنتجة بواسطة السلطة الحياتية، فكيف يدعي زامورا أنَّ فوكو أيقونة لا تمس وأنه فوق النقد؟ إن الحقيقة خلاف ذلك تماماً. فقد انتشرت الأفكار الاختزالية عن فوكو على نطاق واسع، وخاصة بين منتقديه، حتى أنها قد تحجرت إلى “دوكسا” لا تتزعزع.

*وما رأيك باتهام فوكو من قبل كثيرين – من بينهم زامورا – بأنه نيو ليبرالي؟

بالنسبة لردة فوكو النيوليبرالية التي يدعي زامورا أنه أول من التفت إليها وأن اليسار الراديكالي المسحور بفوكو يغض الطرف عنها ويخلص في نهاية المطاف إلى اتهام فوكو بأنه نيوليبرالي صريح، فهذه نقطة تناولتها في الكتاب استنادا إلى مراجع متعددة طرحت الفكرة ليس من بينها أبداً وجهة نظر زامورا. ما أريد قوله هو أن ما بدا أنه افتتان فوكو بالنيوليبرالية قد لفت نظر كثير من النقاد والمحللين قبل زامورا، ففي كتاب “فوكو: السياسات الحياتية والحاكمية”، الذي حرره جاكوب نيلسون وسفين والفي الينشتاين، مقالات مؤثرة بدا في بعض الأحيان أيضاً أنه يتجاوزها إلى الافتتان، ما أدى بالبعض إلى الزعم بأن هناك منحى ليبرالياً في أعمال فوكو المتأخرة. فكرة العودة الكاسحة نحو الليبرالية يبدو مبالغاً فيها، خاصة مع الأخذ في الاعتبار أن فوكو رفض المشاركة في النظرية السياسية المعياريّة طوال حياته.

دريدا فيلسوف بألف وجه

*لافت، ومع أنك لم تتوسعي فيه، رأيك في دريدا، حيث تقولين “دريدا فيلسوف بألف وجه. ووجهه الأخير هو مفهوم المناعة الذاتية. بدأ دريدا في استخدام مصطلح – المناعة الذاتية – في التسعينيات الماضية، ولكن فقط بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول أصبح المصطلح بمثابة البؤرة التي تتجمع فيها خيوط فلسفته. يحمل مخطط دريدا للمناعة الذاتية ألف وجه ووجه أيضاً. فهذا هو المفهوم الأخير في تاريخ دريدي لامع من التلاعب بالمفاهيم”. ما تعليقك على دريدا بعد 11 سبتمبر؟

كان عليّ أن أقول إنَّ التفكيكية بألف وجه ووجه. ولكن لأنَّ دريدا والتفكيكيّة صنوان لا يتمايزان فربما كانت العبارة صحيحة ولم أتجن عليه. وعلى الرغم من أن مصطلح الديفيرانس “différance” هو المصطلح الأشهر لدريدا، إلا أنه استحدث وعلى مدى حياته المهنيّة وتداخلاتها مع العديد من الموضوعات مصطلحات كثيرة، بل إنه منح المفردات القديمة أبعاداً جديدة مثل: عدم التقرير undecidability، والفارماكون pharmakon، والطيف specter، والعدالة justice، والديمقراطية democracy، والضيافة hospitality، والمفارقة التاريخية anachronism.

تشير كل هذه المفردات إلى خبرة الحياة بقطع النظر عن السياق. وإذا ما مكّنتنا التفكيكية من خوض غمار هذه الخبرة، فسنتمكن أيضاً من تغيير طريقة معيشتنا، وهو الهدف الذي يقول دريدا إنه أنفق عمره المهني في تحقيقه؛ أن يكون للتفكيكية تأثير أخلاقي وسياسي علينا.

كانت الحياة، أو لنقل المفهوم المائع للحياة، في قلب كتابات دريدا بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، لأنه رأى فيها وفي الحرب على الإرهاب التي نتجت عنها دلائل كافية على أن علاقة من نوع ما بين الحياة والسياسات يجري التأكيد عليها وتمكينها. ونؤكد هنا على تمكينها لأن هذه العلاقة هي بالذات ما اشتغل عليه دريدا منذ منتصف الثمانينيات، ولكن الحادي عشر من سبتمبر حفّز الرجل على إعادة التفكير في مركزية الحياة بالنسبة للسياسات.

خاصية التعددية ارتبطت بالإسلام

* سنستعين هنا بمصطلح هابرماس حول ضرورة وجود “فضاء عام” للحوار، ونسقطها على الوضع العربي الراهن، فضاء عام من داخل الإسلام بملله وطوائفه، ومع تغاضينا عن نقد أستاذ الفلسفة نيكولاس آدامز حول جهود هابرماس في مفهوم “المجال العام” حيث المجال العام كان ينطبق على “المجال العام” الأوروبيّ، وبالتالي فإنَّ القسم الأعظم منه مسيحيّ، مع تغاضينا عن ذلك، هل هناك “مجال عام” إسلامي وسط كل ما يجري الآن؟

ربط هابرماس فكرة الفضاء العمومي بتأسيس الدولة القوميّة الأوروبيّة ونشوء المجتمع البرجوازي منذ بدايات القرن السادس عشر. ولهذا كان تأثير التنوير العقلاني واضحاً في نموذجه الذي استبعد تأثير الدين الذي قصره التنوير على الفضاء الخاص والعادات والثقافة في تحديد (الصالح العام) وافترض ذاتاً فاعلة مستقلة يمكن أن تحيد هويتها وكل معتقداتها وارتباطاتها ومصالحها الضيقة الخاصة.

يمكن القول إن خصوصية المجتمعات الإسلامية ليست عائقا أمام تكوين فضاء عمومي، ولكن، وفي رأيي، ليس على طريقة هابرماس. إذ إن المجتمعات الإسلامية تتميز بالتعددية العصية على الاختزال؛ تعدد الأديان والمذاهب والطوائف والملل والنحل والطرق ومصادر التشريع، وهذه الخاصية بالمناسبة ارتبطت بالإسلام منذ بواكيره الأولى بعد الفتوحات والمساحات الشاسعة التي دخلت بمكنوناتها المادية والبشرية في ما أطلق عليه لاحقاً العالم الإسلامي.

أرى أن فكرة نانسي فريزر عن (العموميات المتضادة) بديلا عن الفضاء العام الواحد الموحد الشامل أقرب للخصوصية الإسلامية، حيث ترى فريزر أن الفضاء المضاد الثانوي يشير إلى الساحة الخطابية الموازية “حيث يبتكر أعضاء الجماعات الاجتماعية الثانوية ويعممون خطابات مضادة تسمح لهم بدورها بصياغة تفسيرات معارضة استنادا إلى هوياتهم ومصالحهم”.

* “على الرغم من قوة الفكرة وما بذله سعيد من جهد كبير في إثباتها بالأدلة والأمثلة، إلا أنها ستعطل لحين مقاربات أُخرى للعلاقة بين الشرق والغرب والتي لا يجب أن تكون حصرية في العلاقة التي وضعها سعيد” – هذا رأي سابق لأبو رحمة حول “استشراق” إدوارد سعيد. ماذا تعتقد أبو رحمة بعيداً عن “العلاقة الحصرية” التي فرضها سعيد؟

أصبحت كلمة الاستشراق هي الكلمة المفتاحية أو الإشارية لإدوارد سعيد المفكر الاستثنائي، بعد كتابه ذائع الصيت وواسع الانتشار (الاستشراق)، تماماً مثلما تشير مفردة (السلطة) إلى فوكو و(النص) إلى دريدا و(الجندر) إلى جوديث بتلر وهكذا. وأهمية الكتاب وطروحاته تكمن في أنه ساعد في تغيير اتجاه العديد من التخصصات العلمية من خلال الكشف عن تحالف غير مقدس بين التنوير والاستعمار. كان نقده منصباً على ما يطلق عليه حقبة التنوير الغربي.

هاجم سعيد المسحة الإنسانيّة التي غلّف التنوير الغربي بها نفسه انطلاقاً من مدخل إنساني أيضاً، ولكن للقضية مداخل وإشكاليات أخرى قد تكون أهم وأعمق. نال الكتاب أوسع شهرة ممكنة في الشرق والغرب ولا زال، وربما أنه سيبقى لفترة طويلة مرجعاً في تفسير العلاقة بين الشرق والغرب. ولكن الخطاب – بالعودة إلى فوكو – بالغ التعقيد، بحيث إننا نستطيع، بل وينبغي، أن نقاربه من مستويات مختلفة ضمن منهجيات مختلفة. وبالتالي، لا توجد نظرية واحدة أو طريقة للتفسير يمكنها فهم تعدد الخطابات والمؤسسات وصيغ السلطات التي شكلت الاستشراق. أصبح خطاب الاستشراق كما ساقه سعيد سردية كبرى، سلطة من نوع ما في هذا الحقل المعرفي يفرض معايير ما هو عقلاني أو حقيقي، وأصبح الحديث من خارج تلك المعايير يعني مواجهة خطر التهميش والإقصاء.

تكيّف مع ظروف الحصار

* كيف تتدبر أبو رحمة شؤون الكهرباء التي يتفضل بها الاحتلال على غزة، وكيف تتدبر شؤون المصادر والكتب؟ كيف تتواصل مع الوسط العربي؟ ثمة اعتقاد بأن أبو رحمة كائن يعمل وينتج من داخل الكتب؟

هل أقول كما يقول الناس هنا “تعوّدنا”؟ نعم هذه هي الحقيقة، تكيّف الناس مع ظروف الحصار رغم كل المرارة التي يعيشونها، لا يتعلق الأمر بالكهرباء فقط، ماذا عن العلاج والسفر وغاز الطهي والمواد الأوليّة والأجهزة اللازمة للأبحاث في الجامعات؟ أصبحت مشكلة الكهرباء على حدتها أقل المشكلات سوءاً بسبب البدائل، ومع ذلك فهي مكلفة ولا يمكن أن تحل محل الكهرباء، أما عن الكتب والمصادر، لم يتركنا الإنترنت في حيرة أو حاجة، أصبح الحصول على الكتب أهون حتى من تناولها عن رفوف المكتبة، وبسببه أصبحت مغرمة بالقراءة من خلال الوسائط الإلكترونية، بل إنني أفقد تركيزي سريعا مع الكتاب الورقي، لا نوستالجيا لرائحة الورق أو حركة الأصابع على الورق ولا غيره، يمكنني أيضا شراء الكتب إلكترونيا، أو الاشتراك بمواقع تفتح الأبحاث بمقابل مادي، أو حتى مجانا، كما أنني وبحكم الخبرة الطويلة والاعتماد التام على هذه الوسائط، أصبحت أعثر على ما أريد بسرعة فائقة، بل وأقدم خدمات للأصدقاء والزملاء والطلاب والباحثين ولأولادي أيضاً. عليّ القول إنني قد لا أقرأها كلها فلديّ التزامات كبيرة جدا والوقت ضيق، إلا أنني أجد متعة في الاحتفاظ بها وأشعر بالأمان عندما تصبح الكتب في حافظات الحاسوب، تماماً كما كنت أرصف الكتب تحت السرير قبل عصر الحاسوب، هذا فضلاً عن أهل وأصدقاء في الدول العربية يرسلون لي من وقت لآخر مع زائر ما أو إلى القاهرة ما أطلبه منهم، أما عن التواصل فلست من المغرمين بحضور مؤتمرات أو ندوات وما شابه، أما التواصل الافتراضي فهو من خلال صفحتي على الفيسبوك. أجيب قدر معرفتي عن كل الأسئلة ولا أهمل الرسائل الخاصة، أما عن الكتب فهي غرامي الأول والأخير وربما أن سبب حالة العزلة والصمت التي أصابتني منذ فترة وأفقدتني ولا تزال عدداً من أصدقاء الواقع هو أني لم أعد أجيد سوى الحديث مع الكتب.

ضفة ثالثة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى