بيسان الشيخصفحات المستقبل

أما وقد دعانا «حزب الله» إلى لبنان الجديد../ بيسان الشيخ *

في دعوة غير ودية وجهها النائب عن «حزب الله» محمد رعد الى جمهور مجلس عاشورائي وعموم اللبنانيين من ورائه، قال إنه «يجب اقامة لبنان الجديد الذي ينسجم مع وجود المقاومة». ذاك أن لبنان على ما يرى رعد «كان ساحة للملاهي الليلية والسمسرات ونظام الخدمات وتبييض الاموال».

والحال أن الدعوة تلك تكشف، بين ما تكشف، أن الحزب تجاوز مرحلة التخوين السياسي لكل من ليس من صلبه، واستعاد خطاب انطلاقته الأولى حيث تنزل «الأحكام الأخلاقية» على من خالفه نمط العيش ومصدر الرزق. فلبنان الذي لا يملك ثروات طبيعية ولا مسّته الثورة الصناعية، يعتمد على الخدمات السياحية والمصرفية والتعليم والطبابة وغير ذلك من قطاعات تقوم عليها دول واقتصادات ومجتمعات، ما لم يتح لها أن تعتاش على مال نظيف شريف تدره عليها أنظمة بلدان أخرى.

وإذ تهدد الدعوة تلك دور لبنان الفعلي فتنقله من بلد يقوم على مقومات انتاج مدنية وموارد بشرية في شكل خاص، إلى جعله ثكنة عسكرية لمقاومة تتوجه أخيراً ضد شعب أعزل «شقيق»، فإن الدعوة تلك تكشف جهلاً أو تعامياً أو ربما انفصاماً يعيشه الحزب مع حاضنته الشعبية وأبناء طائفته قبل سواهم. فليس سراً أن الملاهي الليلية في لبنان لا يقتصر روادها وعمالها والمستثمرون فيها على لون واحد أو طائفة واحدة. بل إن من يضرب كأس «السيد» في حانات بيروت ليسوا حلفاءه السياسيين من مناصري التيار الوطني الحر، وإنما مؤيدو الحزب من أبناء الجنوب والضاحية. هذا ناهيك عن رواد آخرين شيعة بدورهم، يزاحمون الأوائل في الملاهي ويفوقونهم عدداً ويناصبونه العداء علناً. وباعتماد القياس نفسه من «الأحكام الأخلاقية» من دون تبنيها، ليس سراً أيضاً أن مستودعات الكبتاغون تجاور المربعات الأمنية وأن تجاره يصولون ويجولون في أحياء الضاحية بغطاء شبه رسمي.

أما في الشق المتعلق بالفساد المالي وتبييض الأموال والصفقات المشبوهة، وهي كثيرة لا شك في بلد اتخذت فيه السرقات من المال العام أقنية مؤسسات الدولة، فقد يكون من المفيد أن يطلعنا النائب رعد، وهو ممثل الأمة في المجلس التشريعي ويفترض أنه خاضع لمساءلتنا نحن الناخبين ودافعي الضرائب من غير المقاومين، عن سير العمل في مجلس الجنوب، وأين أصبحت التحقيقات في فضيحة عز الدين المالية؟ وكيف صرفت أموال تعويضات حرب تموز؟ والى اين أفضت التحقيقات في طائرة كوتونو؟ هذا ولم نصل بعد الى النواحي الأمنية والقضائية وغير ذلك الكثير مما دفع أبناء الطائفة الشيعية قبل غيرهم ثمناً باهظاً له.

الآن يدعونا النائب رعد إلى لبنان جديد. وفي لبنان جيل كامل إن لم يكن أجيال تطمح فعلاً الى فتح صفحة جديدة. لكن لنفترض أننا لبّينا الدعوة، وقررنا العيش في بلد ينسجم مع وجود المقاومة، فما هو النموذج الذي يغرينا به رعد وحزبه؟

إذا ما استعنّا بما خبره اللبنانيون من تجربة سابقة مع «حزب الله» وما يشهدونه اليوم من خيارات وتحولات سياسية وانعكاس اجتماعي لها، نستنتج أن الحزب يسعى إلى أخذ البلد رهينة أدوار عسكرية تخدم قضايا غير وطنية. فمنذ الانسحاب الى شمال الليطاني العام 2006 في ما سمي انتصاراً إلهياً، وقع اللبنانيون وحكومتهم ومصالحهم في مرمى نيران المقاومين هؤلاء إلى أن منّ الله عليهم بساحة جهاد في سورية.

وبفعل الانتصارات المتتالية المتمثلة بشل الحياة السياسية في الداخل، والتقدم العسكري في الخارج، مع ما رافق ذلك من ضخ إعلامي وخطاب تخويني، تضخمت الـ «أنا» الحزبية وانفلشت فأطلقت يد المحازبين والمناصرين وكل من يرغب في الاستقواء على الآخر واستباحة مساحته من أبناء الطائفة. وعليه ترجم النفوذ السياسي والسلطة المعنوية المستمدة من «سلاح المقاومة» في سلوكيات اجتماعية يصح فيها وصف التشبيح والبلطجة. هكذا، يقيم طلاب في الجامعة اللبنانية وفي فرع كائن في منطقة مسيحية، مجلس عزاء عاشورائي وسط الكلية يطبخون فيه الهريسة ويطلقون العنان للندبيات ويحتجون على زملاء شغّلوا الموسيقى في سياراتهم! وهكذا أيضاً تمر مواكب سيارات ودراجات نارية تصدح منها أناشيد اللطم العراقية في أحياء سواء مختلطة أو من لون طائفي واحد، لكن غير معنية عملياً بالمناسبة الدينية. الا انها فرصة لا تفوت لافتعال لحظة استفزاز تكرس تفوق طرف على آخر، وتمعن في إجبار الأضعف على كبت غيظه.

وعلى المنوال نفسه، لا يجرؤ سائق سيارة على استعمال البوق في مواجهة «الحافلة الرقم 4» (ميكروباص يعمل على خط الضاحية- بيروت) لأنه يعلم مسبقاً أن ما ينتظره ليس افساحاً في مجال المرور وإنما ما لا يفيده فيه شرطي يقف عند ناصية الشارع.

وبفعل تلك السلطة المتضخمة نفسها، تحتل ارصفة الأحياء السكنية والتجارية حواجز حزبية أو «أهلية»، لا فرق، تتخذ أحياناً شكل مراهقين غاضبين أو عمال خدمة ركن السيارات أو التوصيل المجاني أو غيرهم ممن نصادفهم كل يوم، يستعينون ببراميل أو إطارات يقطعون فيها الطريق ويتملكون الحيز العام وناسه.

هؤلاء ليسوا بالضرورة محازبين متفرغين من رفاق النائب رعد والمجاهدين المنضوين في القتال تحت رايته. إنهم شريحة عمرية واجتماعية كاملة تشارك في اللطم أيام عاشوراء وتعبر الشارع الى الطرف الآخر لاحتساء المشروب. هؤلاء جمهور المقاومة التي يدعونا رعد إلى بناء لبنان الجديد معها. جمهور يستمد بقاءه من بقائها، وسلطته من سلطتها، وسلوكياته من سلوكياتها… وهو من يسمع صبح مساء «أن حزب الله هم الغالبون».

* صحافيّة من أسرة «الحياة».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى