صفحات الحوار

أمبرتو إيكو: إننا نخضع منذ آلاف السنين لسلطة الباطل!


أجرت الحوار: صوفيا بوخاس

(Sophie Pujas)

ترجمة: الحسن علاج: معه، تكتسب المعرفة مظر لعبة البولينغ (bouling)، مرحها يعادل قساوتها. يقود أمبرتو إيكو التبحر في المعرفة بسعادة معدية، وتحت وجه مزدوج. فمن جهة، نجد أن مؤلف الروايات الناجحة مثل اسم الوردة، الدي جعل من قرائه السبعة عشر مليونا عبر العالم علماء قروسطيين بالقوة. ومن جهة أخرى، فهو يعتبر عالم سيمياء صارما، متخصصا في علم التأويل، درس ببلونيا (Bologne) وحل ألغاز اللغة والنقد النصي ضمن دراسات كالعمل المفتوح أو كانط وخلد الماء(ornithorynque)؛ فقد برهن، في روايته الأخيرة مقبرة براغ، مرة أخرى بأن الكلمات تغير العالم، وأحيانا نحو الأسوإ، عاملا على سبر اغوار تكوين [كتاب] بروتوكولات حكماء صهيون، صيغ هذا الكتاب الزائف كي يقنع [القراء] بمؤامرة يهودية تهدف إلى الهيمنة على العالم. موضوع متفجر في خدمة إحدى وساوسه: تحريك التاريخ عبر الكذب أو الخطإ.

مجلة لوبوان(Le Point): جعل منكم العيش تحت الفاشية متيقظا بشكل خاص في وجه السيطرة؟

أمبرتو إيكو: إن ذلك جعلني حذرا، هدا صحيح، تجاه كل أشكال ماهو مضحك ديكتاتوري، تجاه إظهار القوة والسلطة. فقد تم تقديمنا مثل أبطال إيجابيين أولئك الذين قاموا بالمسيرة صوب روما بهدف تنصيب موسوليني ( Mussolini) في السلطة سنة 1922. تلك كانت حالة أستاذي في المدرسة الابتدائية ـ زد على ذلك فهو لم يكن مثالا سيئا !كان طول قامته بالكاد يصل إلى 1،65مترا، وكان يقدم نفسه مثل ذكوري بامتياز… أتذكر أنه لما كنت في سن الخامسة أو السادسة، قلت في نفسي: ياله من حظ كوني نشأت تحديدا بإيطاليا، وليس مثل أولئك البؤساء الفرنسيين، الإنجليز أو الأمريكيين ! خضعت للنزعة القومية ـ دولتنا هي أحسن دولة في العالم ـ ثم آمنت بعدو مصطنع، الديموقراطيات. قيل لنا أن [المرء] هنالك، يتناول خمس وجبات يوميا ـ هل استوعبتم ذلك ! فيما بعد، توصلت أنا بدوري ! إلى تناول خمس وجبات يوميا… أعيد تشييد الآخر في يوم مشؤوم.ظهرت الشكوك الأولى لما دارت رحى الحرب بشكل سيئ وعندما ـ بعد القوانين العنصرية، في سن العاشرة ـ قابلت يهودا مكرهين على القيام باعمال على جوانب الأرصفة)وكانت الغاية من ذلك هي إذلالهم) كان أحدهم يعرف أبوي وقد طلب مني أن أنقل لهما سلامه. حينئذ فهمت أن شيئا ما لم يكن على ما يرام.

مجلة لوبوان: ألم يكن الخيط الرابط لعملكم، هو تمرين قارئكم على الارتياب؟

أمبرتو إيكو:بالطبع، بما أن كل عالم سيميولوجيا يمارس دوما شكا ما ! تكمن مهنتي، في حدس ما هو مختبئ وراء الخطابات. فلا يتعلق الأمر بممارسة شك ذهاني، بل بمعرفة كيف يجعل الناس الخطابات نفعية بهدف الإقناع، الإجبار، إخفاء أشياء أو قول الحقيقة !إنه ارتياب في محله، ارتياب رجل العلم الذي يتنزه في غابة ولأنه، لاحظ تشكلات غريبة بالقرب من الأشجار، فابتكر البنسيلين.

مجلة لوبوان: لماذا يشكل الخطاؤون محركا قويا جدا للتاريخ ؟

أمبرتو إيكو: وما المانع من ذلك ؟ ألايوجد في التاريخ ما هو فاضل ! إنه يتحرك عبر المذبحة، الجريمة… إن بناء المزيف هو أحد الأدوات التي تلجأ إليه الدول والأفراد لتغيير مجرى التاريخ. أحيانا نحو الأفضل ( العلوم، الفنون ، إلخ.)، على انه في الغالب [ يتم ذلك ] بشكل سلبي. من جهة أخرى، فإن كذب الواحد هو في الغالب حقيقة الآخر. لنفترض أنكم مسلمون: عندئذ فأنتم تعتبرون أن كل ما يقوله الكاثوليكيون، البوذيون، ذووا البشرة الحمراء، إلخ. هو خطأ. والشأن ذاته لو كنتم كاثوليكيين. بناء على ذلك، فإن 90% من الإنسانية توجد في صلب الغلط !لهذا السبب، نحن نخضع منذ آلاف السنين لسلطة الباطل، ثم إن التاريخ اعتبر مسرحا لوهم ما…

مجلة لوبوان: هل تدركون أولئك الذين يعتبرون طريقتكم في التلاعب بالأفكار المسبقة المعادية للسامية في صلب رواية مثل مقبرة براغ، طريقة خطرة ؟

أمبرتو إيكو: لايمكن للمرء تجنب الكتابة فقط لأنه يوجد حمقى ! حينما تزيد طبعات كتاب ما عن الألف نسخة، فإنه يقع حتما بين أيدي أناس غير مؤهلين لتمييز آراء الشخصيات من آراء المؤلف… فقد هنأني مدير متحف شواه ( Shoah)، بروما، عن الحديث عن أشياء غالبا ما يهملها الفهم السليم لما هو سياسي. في كل الحالات، فكل المصادر التي استعنت بها متوفرة في الإنترنت… ثم إني لم أتكلم عن البلدان العربية حيث يباع [ كتاب] بروتوكولات حكماء صهيون في كل مكان، لأنه، تحديدا، لازال يتم التعامل معه على محمل من الجد ! عادة، فإن ما يفضح المزيفون. تلك كانت حالة هبة القسطنطينية، الوثيقة التي من خلالها قام الإمبراطور بتكليف البابا بالسيادة على كنائس الشرق وكنائس الغرب. إن الإنسانوي لورينزو فالا (Lrenzo Valla) هو من برهن على خاصيتها [ الوثيقة ] المزيفة في سنة 1440، بفضل تحليل لساني دقيق. إلا أن الحكم المسبق قد يظهر فجأة، وفي ظروف معينة، في ظل هذا الاكتشاف، تلك كانت حالة [ كتاب] البروتوكولات.فقد تمت البرهنة على التلاعب منذ زمن بعيد، لكن معاداة السامية بقيت، ماكان يهمني، هو إبراز الإوالية في العمل على الحكم المسبق.

مجلة لوبوان: في [كتاب] عن الأدب، لمحتم أنه إذا [كان كتاب ] بروتوكولاتقد لاقى ترحيبا ما، فلأنه كان من الناحية السردية فعالا ـ نوعا ما مثل رواية مسلسلة جيدة…

أمبرتوإيكو: نعم، لأن الرواية المسلسلة تمنح قصة يسهل تصديقها وبخاصة إلى إدراك أن الواقع اليومي والتاريخي، هو بوجه آخر أكثر تعقيدا، وفي الغالب لايصدق. على أنه لاينبغي خلط إنتاج ماهو زائف بإنتاج التخييل. فلا يمكن لوم رواية ما لكونها تروي أشياء خاطئة. فإذا ما قلت أن ثمة شخصا ما يسمى ثلج ـ أبيض، فإني لن أسعى إلى إقناعكم: يتم التظاهر بذلك ، إنها لعبة. يعتبر الأدب موضعا للأصالة. فحينما يقال لكم بأن مدام بوفاري ماتت، في قلب عالم فلوبير فإن تلك هي الحقيقة حتما !

مجلة لوبوان: ومع ذلك، ففي [ كتاب ] العمل المفتوح لمحتم إلى أن تأويل القارئ يعتبر جوهريا…

أمبرتو إيكو : بالتأكيد. إن العمل المفتوح هو ذلك [ العمل ] الذي يزعم لنفسه أن يكون غامضا شأنه في ذلك شان الحياة ذاتها. إن النص، كما قلت في السابق، هو آلة كسولة يعيش على القيمة المضافة للمعنى التي يدرجها القارئ.لهذا فإن القارئ لن يكون بمقدوره أن يقول النص شيئا معاكسا لحقيقته ـ فعلى سبيل المثال أن مدام بوفاري لم تسمم نفسها بالزرنيخ…

مجلة لوبوان: وصفتم بورخيص مثل ‘ وثائقي مجنون’. نوعا ما مثلكم، أليس كذلك ؟

أمبرتو إيكو: إني أنهل، وهذا صحيح، من المعاجم والموسوعات. إني لاأستطيع تصور عملي بدون توثيق سابق، بإمكانه أن يدوم لسنوات عدة. الموسوعة هي المكان الذي نتفق فيه على التباحث. إن ما يخيفني في الأنترنت، هو أن كل واحد من المليارات الستة من سكان الكوكب يستطيع نظريا ان يكون بنفسه موسوعته الخاصة. إن ذلك مستحيل،لأنه ستوجد رقابة اجتماعية على الدوام، لكن لو وجدت ست مليارات موسوعة، فلن يكون بوسعنا أن نتفاهم أبدا !

مجلة لوبوان: ومع ذلك، فليست هناك أي موسوعة مستثناة من تلك الأغلاط التي تطاردونها…

أمبرتو إيكو: فحتى لو كانت الموسوعة متضمنة لأغلاط، فإنها تسمح بإيجاد لغة مشتركة ! إني أتكلم

عن الموسوعة المثالية، أعني مجموع معارف حقبة معينة، والتي لاتماثل الموسوعة الواقعية، المادية، التي تقتنى لدى الكتبي. إن ذلك يشكل عنصر ألفة للثقافة. فلكي نبرهن على ان الأرض كانت تدور حول الشمس، كما فعل كوبرنيكوس وغاليليو، كان ينبغي الانطلاق من العلم المشترك ن علم بطليموس. قد تتضمن الموسوعة أفكارا خاطئة. فلا يعقل ان يدرس في يوم من الأيام أن التاريخ المعروف لموت نابليون ليس صحيحا. غير ان ذلك يعتبر نقطة انطلاق لثقافة مشتركة، إلى حين التصحيح القادم.

مجلة لوبوان: أنتم مفتونون ومولعون بالكتب. ما هو، في نظركم، دور هذه المكتبة ؟

أمبرتو إيكو: فإذا كنتم تتحدثون عن جمع الكتب القديمة، فهو يعتبر جمعا موضوعاتيا. فأنا أرتب الكتب ليس فقط بالنظر لجمالها، بل لأنها تستند إلى أشياء مغلوطة أو خاطئة. فأنا أسافر عبر أخطاء وأكاذيب الماضي !ما يجعل الأمور مخالفة تماما: ماكان بطليموس كاذبا، بل كان خاطئا… فأنا على سبيل المثال أتوفر على أعمال أطاناسيوس كيرشر (Athanasius Kircher) تقريبا، هذا اليسوعي الألماني من القرن السابع عشر الذي انشغل بغالبية حقول المعرفة في عصره، وغالبا ما كان يقع ضحية الخطإ. فقد تنبأ بأشياء يضاف إلى هذا أنه طور نظريات شاذة. كما أنه كان أول من فهم بأن رموز الفكرة (ideogrammes) الصينية ذات أساس إيقوني (iconique)… إنه نوع من ‘ مجنون أدبي ‘، شكل لطالما استهواني لأنه يتموقع بين النبوغ والسذاجة…

مجلة لوبوان: لماذا يعتبر كتاب ‘سيلفيا’ ( Sylvie)، لجيرار دو نيرفال (Gerard de Nerval)، واحدا من كتب حياتكم ؟

أمبرتو إيكو: ما الذي يجعلنا نعقد القران على امرأة دون أخرى ؟ ثمة ظواهر عشق، وإعادة القراءة هي واحدة منها. فحينما اكتشفت هذا النص، كنت في العشرين من عمري وكنت أجهل كل شيء عن نيرفال تقريبا. كنت منبهرا. منذ ذلك الحين، قمت بترجمته، كتبت وقدمت حلقات دراسية بخصوصه [ النص]، كنت على دراية بكل فاصلة [من فواصله] دون أن أفقد شيئا من ذلك الانبهار. فكما قمت بكتابة ذلك في [كتاب] ست نزهات في غابة الرواية وفضاءات أخرى، فذلك يقدم البرهان على حماقة أولئك الذين يزعمون بأن الرغبة المفرطة في تشريح نص ما، قد تقضي على سحره.

مجلة لوبوان: أنتم مفتونون أيضا في ذات الوقت بالقديس طوما الإكويني وبالرواية المسلسلة…

أمبرتو إيكو: نحن لانأكل الحجل أو الكفيار دائما !فقد شكلت الرواية المسلسلة إحدى أهواء شبابي.لما كنت طفلا، كانت بعض الطبعات القديمة ما تزال رائجة مع الرسوم التي استعملتها لتزيين اللهب الخفي للملكة لوانا( Reine Loana) (2005) أو مقبرة براغ. في الوقت الحاضر، لاتوجد إلا طبعات جديدة، بيد أنه تعوزها الرسوم.فقد كانت متوفرة بمكتبة جدي، لذلك فقد كان من الطبيعي جدا أني أفيد منها. على ان القراءات المتكررة أدت إلى إتلافها. راشدا، شرعت في ممارسة مهنة تاجر الكتب المستعملة بهدف العثور عليها… ففي مقبرة براغ، ألجأ إلى الرسومات في الوقت نفسه لإعطاء الانطباع بالرواية المسلسلة وإلى تقديم وثائق مطابقة، ما يرغم القارئ إلى أن يقول في نفسه إن ذلك ليس رواية… إنها لعبة مزدوجة: فأنا أخدع القارئ بمناخ الرواية المسلسلة، ظنا منه أنه مستقر الحال، وفجأة، يجد نفسه في مواجهة الواقع.

مجلة لوبوان: قمتم بتمييز التجارب التي انصبت على الشكل ـ [ تجارب ] جويس ـ عن تجارب المضمون كما هو الشأن عند بورخيص. فقد شرعتم في التموقع في منتصف الطريق ؟

أمبرتو إيكو: هذا صحيح، كان لدي هذا الانطباع وأنا عاكف على كتابة [ رواية ] باندولا فوكو، حيث قمت بمزج الأفكار الأكثر غرابة بطريقة مجنونة. قلت في نفسي من أجل الضحك: إن ما أنجزه جويس لصالح الدال، أقوم بفعله لصالح المدلول. لكن لنترك العظماء على عروشهم دون إزعاج.

عن مجلة لوبوان( Le Point) الفرنسية عدد 9. شتنبر ـ أكتوبر2011.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى