صفحات الحوار

أمجد ناصر يتحدث عن تجربته بعد “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”

 

لا أدري كيف سقط هذا الحدث الخارق من ذاكرة الكتّاب والشعراء!

    رائد وحش – طارق العربي

تشكّل مفردة “الرحلة” مفتاحاً لتجربة امجد ناصر في الكتابة والحياة. الرحلة الأولى كانت في ترك الاسم القديم يحيى النعيمي والأخذ بتلابيب اسم جديد أمجد ناصر. في باكورته الأولى “مديح لمقهى آخر” بدأ شاعر تفعيلة، ثم أخذ بالانتقال الى قصيدة النثر في مجموعاته التالية، “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” و”رعاة العزلة” و”سر من رآك”… إلى ان خط مساراً جديداً داخل قصيدة النثر نفسها في كتابه “حياة كسرد متقطع”. حتى عناوين  كتبه كانت تستدعي الرحيل بقوة “مرتقى الأنفاس” و”وصول الغرباء”. بالإضافة إلى إنجازه المتواصل لكتب في أدب الرحلات: “خبط الاجنحة”، “تحت أكثر من سماء”، “رحلة في بلاد ماركيز”، و”الخروج من ليوا”.

الرحلة علامة هذا الشاعر البدوي، والكتابة، في تمثيله لها، ترحال متواصل وراء ذلك الماء السري، ماء الكتابة. إلى جوار ذلك كتب رواية بعنوان “حيث لا تسقط الأمطار” وكتاب يوميات عن حصار بيروت صيف عام 1982. بالاضافة الى المقال الصحافي.

* كيف تفكّر بذاتك، وكيف تنظر إلى تجربتك، الآن وأنت في السابعة والخمسين؟ ثم كيف تجرّأت في هذا العمر الحذِر، على وهب زوجتك إحدى كليتيك بروحٍ مغامِرة لا تتأتى إلا لشابٍّ في العشرين؟

– ألاحظ أنه كلما تقدم بي العمر أكثر قلّ تفكيري بنفسي وزاد تفكيري بغيري. طبعا التفكير بالغير موجود طول الوقت لكنه ربما يتخذ محتوى احتدامياً أو معتكراً في أضعف الإيمان، وهذا تفكير سلبي كما تلاحظان. كذلك خفَّ تعلقي بما هو خارجي وراحت الأعماق تظهر من بعد غمامة الشباب التي ربما لا تساعد على الرؤية جيداً، أو لا تجعلك ترى أبعد منها ومن استحقاقات لحظتك. هذا أمر قريب مما كنت أكرهه من قبل في الفكر والسلوك، أي الحكمة والتعقل اللذين كنت أظن أنهما حكر على العجائز وقليلي الحيلة. يبدو أني وصلت إلى تلك الضفاف التي لم أكن أتخيل أنني سأصلها يوماً. ولكن من الواضح، وبعيداً من أي حكمة، أن كل من يبقى حياً سيصل إليها رغماً عنه. أما موضوع تبرعي لزوجتي بإحدى كليتي فهو خاص وآمل أن نتجاوزه في حوارنا هذا.

* أخذت البدوي الذي فيك إلى ترحالات أكبر من البادية الأولى، وعبرت به إلى ما وراء البحار. كيف هي العلاقة بين ذاكرتك المتوارثة من أسلافك البدو في ترحالهم تحت الشموس، وترحالك المعقّد بين اللغات والمدن والأفكار؟ هل تغيّر البدوي العنيد بعد هذه الهجرات والأسفار، نسأل وفي البال قصيدة “منفى” من ديوان “رعاة العزلة” التي تقول فيها: “نحن لم نتغيّر كثيراً، وربما لم نتغيّر أبداً”؟

– طبعا نحن نتغير. وهذا يؤكد أن الشعراء يمكن أن يكونوا متنبئين مثيرين للشفقة. لكن التغير، من جهة ثانية، ليس انقلاباً تاماً على ما كنته، إنه محو من ناحية وإضافة من ناحية أخرى، فثمة ما ينزاح ويختفي من ذاكرتك وسلوكك وثمة ما ينضاف ولكن ثمة ما يعاند ويبقى من دون أن تعرف سبباً عميقاً لذلك. لا أحد يعرف كيف تشغل هذه الآلة المعقدة التي تسمى الذاكرة، لكن أستطيع أن أقول إن شيئاً من تلك القصيدة صحيح، وهو يتعلق بتلك الأمور التي تقاوم عمليات المحو. العلوم الحيوية أكدت أن المرء يحمل جينات فيها صفات وراثية لا يمكن تفاديها ليس فقط على المستوى الفيزيائي، وإنما على مستوى السلوك وردود الافعال. التربية والمحيط الاجتماعي والثقافة المكتسبة تلعب أدواراً في توجيه السلوك ولكنها لا تتحكم فيه وحدها على ما يبدو فنجد أن بعض ردود أفعالنا ومسلكياتنا تشبه ما كان يفعله أسلافنا على نحو أو آخر. لذلك لا أظن أن البدوي الذي ورثته من أسلافي اضمحل تماماً في الترحال والبعد عن المنشأ، فكم من مرة القيت القبض فيها على نفسي بسلوك أو تصرف، أو حتى تفكير تلقائي، يشبه والدي أو جدي أو ربما يشبه أسلافا لم أعرفهم شخصياً.

أفكر أنني لم أختر الترحال ولكنه فرض عليَّ في فترة معينة من حياتي، ولأسباب لها علاقة باختياراتي السياسية، ولكن هل هذا صحيح تماماً؟ ألا يوجد احتمال أنني استدرجت الترحال بتلك الخيارات؟ لا أجزم بشيء ولكني مثلكما أتساءل.

* منذ ثورة تونس ونحن نعيش زمناً عربياً جديداً، فعلى مدار عامين يتواصل الاشتعال الثوري هنا، والاحتجاجي هناك. كيف ترى هذه اللحظة؟ بأي عين تقرأ تحولاتها؟ ما صورة الغد القادم؟

– كنتُ أكثر حماسة مع بدء الانتفاضات العربية وأكثر تفاؤلاً بما ستفضي إليه، ولكن يبدو أن الدم الغزير الذي سفك في ليبيا، وشلال الدم المتواصل في سوريا، والقوى التي أمسكت بأعنّة اللحظة في مصر وغير مكان، جعلتني أكثر واقعية وحذراً. لقد كشف ما حصل عربياً عن مجتمعات لا نعرفها نحن المثقفين، إذ بدا واضحاً أننا كنا نعيش في عالم غير عالم أناسنا، وإلا كيف انصعقنا بما أظهرته أحشاء المجتمع المصري من أصولية وسلفية متوارية عن الأنظار. لم يخلق هؤلاء في يوم وليلة بل كانوا هناك منذ وقت طويل وتغلغلوا في أمكنة لا يعرفها المثقفون ولم يعيشوا فيها قط، مثل التجمعات العشوائية وأحزمة الفقر التي كانت تطوق المدن العربية التي أوصلتها الأنظمة القادمة من الجيوش والانقلابات أو أنظمة العائلات الى درجة مريعة من الفقر والتفكك. علينا أن نكون أكثر واقعية وأن نبدأ معركة ثقافية وفكرية انقطعت مع مجيء العسكر إلى الحكم وقطعهم للتطور المجتمعي الطبيعي، وصنعهم لمجتمعات على مقاس بيانهم العسكري وعدّتهم الفكرية الضحلة. يعني علينا أن نعود الى حيث انتهى علي عبد الرازق ومن هم مثله، لنواصل معركة بدأت تفرض على مجتمعاتنا بعد سقوط الاستبداد. المعركة التي بدأت في مصر، وسيكون هناك ما يشبهها في أكثر من بلد عربي، هي في قلب الفكر والثقافة، إنها معركة التنوير التي خاضها أسلاف لنا في مطلع القرن العشرين، معركة ما سمي بالنهضة العربية التي انقطع مسارها لمئة سبب وسبب، وعلينا أن نحاول استعادة ذلك التراث القريب ودمجه مع معطيات لحظتنا إن أمكن.

* كتابك “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” صدر أخيراً وهو يستعيد حصار بيروت بعد كل هذه السنوات. ما ظروف هذه التجربة؟

– هذا كتاب مؤلف من ثلاثة أشكال أدبية: اليوميات، النصوص الشعرية، الرحلة، وقد اجتمعت بين دفتي كتاب. اليوميات هي التي كتبتها أثناء حصار بيروت صيف عام 1982 والنصوص كذلك، أما الرحلة الى بيروت فقد تمت بعد خروجي من المدينة بأربعة عشر عاماً. هناك نصان في الكتاب ليسا لي، الأول قصيدة مشتركة بين محمود درويش ومعين بسيسو، والثانية لسعدي يوسف، ما عدا النصوص التي لي وقد نشرتها في حينها، ولكني لم أضمها الى مجموعة من مجموعاتي السابقة. عندما وقّعتُ الكتاب في عمان كان بين الحاضرين ممن عاشوا التجربة من الناس العاديين والكتاب، وقد لاحظنا بغرابة شديدة ندرة الكتب التي كتبت عن تلك التجربة. الصاعق في الأمر أننا أحصينا كتاباً أدبياً واحداً كتب عن الحصار هو “آه يا بيروت” لرشاد أبو شاور، الصاعق أكثر أن المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الذين شهدوا الحصار كانوا بالمئات. كيف سقط هذا الحدث الخارق والاستثنائي من ذاكرة كل أولئك الشعراء والكتاب والسينمائيين والتشكيليين؟ هذا هو السؤال الذي لم نجد له إجابة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى